قوله تعالى : { يوم ترونها } يعني : الساعة ، وقيل : الزلزلة ، { تذهل } قال ابن عباس : تشغل ، وقيل : تنسى ، يقال : ذهلت عن كذا أي تركته واشتغلت بغيره عنه { كل مرضعة عما أرضعت } أي : كل امرأة معها مرضع بلا هاء ، إذا أريد به الصفة ، مثل حائض وحامل ، فإذا أرادوا الفعل أدخلوا الهاء . { وتضع كل ذات حمل حملها } أي : تسقط ولدها من هول ذلك اليوم . قال الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام ، وهذا يدل على أن هذه الزلزلة تكون في الدنيا لأن بعد البعث لا يكون حمل . ومن قال : تكون في القيامة ، قال هذا على وجه تعظيم الأمر لا على حقيقته ، كقولهم : أصابنا أمر يشيب منه الوليد ، يريد شدته . { وترى الناس سكارى وما هم بسكارى } قرأ حمزة و الكسائي : سكرى وما هم بسكرى بلا ألف وهما لغتان في جمع السكران ، مثل : كسلى وكسالى . قال الحسن : معناه : وترى الناس سكارى من الخوف ، وما هم بسكارى من الشراب . وقيل : معناه : وترى الناس كأنهم سكارى ، { ولكن عذاب الله شديد } .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر ، أنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر بن بكير الكوفي ، أنا وكيع عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا آدم قم فابعث بعث النار من ولدك قال : فيقول لبيك وسعديك والخير كله في يديك ، يا رب وما بعث النار ؟ قال فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ، قال : فحينئذ يشيب المولود ، وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ، قال : فيقولون : وأينا ذلك الواحد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تسعمائة وتسعة وتسعون من يأجوج ومأجوج ومنكم واحد ، فقال الناس : الله أكبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، والله إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ، والله لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ، قال فكبر الناس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ، أو الشعرة السوداء في الثور الأبيض " .
وروي عن عمران بن حصين ، وأبي سعيد الخدري ، وغيرهما " أن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلاً فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثوا المطي حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأها عليهم فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ، ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا قدوراً ، والناس ما بين باك أو جالس حزين متفكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتدرون أي يوم ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذلك يوم يقول الله عز وجل لآدم قم فابعث بعث النار من ولدك ، قال : فيقول آدم : من كل كم ؟ فيقول الله عز وجل : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحد إلي الجنة ، قال : فكبر ذلك على المسلمين وبكوا وقالوا : فمن ينجو إذن يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :أبشروا وسددوا وقاربوا فإن معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلا كثرتاه : يأجوج ومأجوج ، ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ، فكبروا وحمدوا الله ، ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ، فكبروا وحمدوا الله ، ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة ، وإن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً ، ثمانون منها أمتي ، وما المسلمون في الكفار إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة ، بل كالشعرة السوداء في الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود . ثم قال : ويدخل من أمتي سبعون ألفاً الجنة بغير حساب ، فقال عمر : سبعون ألفاً ؟ قال : نعم ومع كل واحد سبعون ألفاً ، فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ادع الله لي أن يجعلني منهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت منهم ، أو قال اللهم اجعله منهم ، فقام رجل منهم فقال : ادع الله أن يجعلني منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبقك بها عكاشة " .
{ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدها ، خصوصا في هذه الحال ، التي لا يعيش إلا بها .
{ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } من شدة الفزع والهول ، { وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى } أي : تحسبهم -أيها الرائي لهم- سكارى من الخمر ، وليسوا سكارى .
{ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } فلذلك أذهب عقولهم ، وفرغ قلوبهم ، وملأها من الفزع ، وبلغت القلوب الحناجر ، وشخصت الأبصار ، وفي ذلك اليوم ، لا يجزي والد عن ولده ، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا .
ويومئذ { يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }
وهناك { يعض الظالم على يديه ، يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا } وتسود حينئذ وجوه وتبيض وجوه ، وتنصب الموازين ، التي يوزن بها مثاقيل الذر ، من الخير والشر ، وتنشر صحائف الأعمال وما فيها من جميع الأعمال والأقوال والنيات ، من صغير وكبير ، وينصب الصراط على متن جهنم ، وتزلف الجنة للمتقين ، وبرزت الجحيم للغاوين . { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا* وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا } ويقال لهم : { لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } وإذا نادوا ربهم ليخرجهم منها ، قال : { اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ } قد غضب عليهم الرب الرحيم ، وحضرهم العذاب الأليم ، وأيسوا من كل خير ، ووجدوا أعمالهم كلها ، لم يفقدوا منها نقيرا ولا قطميرا .
هذا ، والمتقون في روضات الجنات يحبرون ، وفي أنواع اللذات يتفكهون ، وفيما اشتهت أنفسهم خالدون ، فحقيق بالعاقل الذي يعرف أن كل هذا أمامه ، أن يعد له عدته ، وأن لا يلهيه الأمل ، فيترك العمل ، وأن تكون تقوى الله شعاره ، وخوفه دثاره ، ومحبة الله ، وذكره ، روح أعماله .
{ يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت } تصوير لهولها والضمير لل{ زلزلة } ، و { يوم } منصوب ب { تذهل } ، وقرئ { تذهل } و { تذهل } مجهولا ومعروفا أي تذهلها الزلزلة ، والذهول الذهاب عن الأمر بدهشة ، والمقصود الدلالة على أن هولها بحيث إذا دهشت التي ألقمت الرضيع ثديها نزعته من فيه وذهلت عنه ، و { ما } موصولة أو مصدرية { وتضع كل ذات حمل حملها } جنينها . { وترى الناس سكارى } كأنهم سكارى . { وما هم بسكارى } على الحقيقة . { ولكن عذاب الله شديد } فأرهقهم هوله بحيث طير عقولهم وأذهب تمييزهم ، وقرئ { ترى } من أريتك قائما أو رؤيت قائما بنصب الناس ورفعه على أنه نائب مناب الفاعل ، وتأنيثه على تأويل الجماعة وإفراده بعد جمعه لأن الزلزلة يراها الجميع ، وأثر السكر إنما يراه كل أحد على غيره وقرأ حمزة والكسائي " سكرى " كعطشى إجراء للسكر مجرى العلل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.