قوله تعالى : { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء } . أي النساء المعتدات وأصل التعريض هو التلويح بالشيء ، والتعريض في الكلام ما يفهم به السامع ، مراده من غير تصريح ، والتعريض بالخطبة مباح في العدة وهو أن يقول : رب راغب فيك ، من يجد مثلك ، إنك لجميلة ، وإنك لصالحة ، وإنك علي لكريمة ، وإني فيك لراغب ، وإن من غرضي أن أتزوج بك ، وإن جمع الله بيني وبينك بالحلال أعجبني ، ولئن تزوجتك لأحسن إليك ، ونحو ذلك من الكلام من غير أن يقول أنكحيني ، والمرأة تجيبه بمثله إن رغبت فيه ، وقال إبراهيم : لا بأس أن يهدي لها ، ويقوم بشغلها في العدة إذا كانت غير شابة . روي أن سكينة بنت حنظلة بانت من زوجها فدخل عليها أبو جعفر محمد ابن علي الباقر في عدتها وقال : يا بنت حنظلة أنا من قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدي علي وقدمي في الإسلام ، فقالت سكينية : أتخطبني وأنا في العدة وأنت يؤخذ عنك ؟ فقال : إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي في عدة زوجها أبي سلمة فذكر لها منزلته من الله عز وجل وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدة تحامله على يده .
والتعريض بالخطبة جائز في عدة الوفاة ، أما المعتدة عن فرقة الحياة ، ينظر : إن كانت ممن لا يحل لمن بانت منه نكاحها كالمطلقة ثلاثاً والمبانة باللعان والرضاع : يجوز خطبتها تعريضاً ، وإن كانت ممن يحل للزوج نكاحها كالمختلعة والمفسوخ نكاحها ، يجوز خطبتها تعريضاً وتصريحاً . وهل يجوز للغير تعريضا ؟ فيه قولان : أحدهما يجوز كالمطلقة ثلاثاً ، والثاني لا يجوز لأن المعاودة ثابتة لصاحب العدة كالرجعية لا يجوز للغير تعريضها بالخطبة . وقوله تعالى : ( من خطبة النساء ) الخطبة التماس النكاح ، وهي مصدر خطب الرجل المرأة يخطب خطبة ، وقال الأخفش : الخطبة الذكر ، والخطبة التشهد فيكون معناه : فيما عرضتم به من ذكر النساء عندهن .
قوله تعالى : { أو أكننتم } . أضمرتم .
قوله تعالى : { في أنفسكم } . من نكاحهن يقال : أكننت الشيء وكننته لغتان ، وقال ثعلب : أكننت الشيء أي أخفيته في نفسي وكننته سترته ، وقال السدي : هو أن يدخل فيسلم ، ويهدي إن شاء ولا يتكلم بشيء ( علم الله أنكم ستذكرونهن ) بقلوبكم .
قوله تعالى : { ولكن لا تواعدوهن سراً } . اختلفوا في السر المنهي عنه ، فقال قوم : هو الزنا كان الرجل يدخل على المرأة من أجل الزنية وهو يتعرض بالنكاح ويقول لها : دعيني فإذا أوفيت عدتك أظهرت نكاحك ، هذا قول الحسن وقتادة وإبراهيم وعطاء ورواية عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال زيد بن أسلم : أي لا ينكحها سراً فيمسكها فإذا حلت أظهر ذلك . وقال مجاهد : هو قول الرجل لا تفوتيني بنفسك فإني ناكحك ، وقال الشعبي والسدي : لا يأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيره ، وقال عكرمة : لا ينكحها ولا يخطبها في العدة . قال الشافعي : السر هو الجماع ، وقال الكلبي : أي لاتصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع ، فيقول آتيك الأربعة والخمسة وأشباه ذلك ، ويذكر السر ويراد به الجماع قال امرئ القيس :
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني *** كبرت وألا يحسن السر أمثالي
إنما قيل للزنا والجماع سر ، لأنه يكون في خفاء بين الرجل والمرأة .
قوله تعالى : { إلا أن تقولوا قولاً معروفاً } . هو ما ذكرنا من التعريض بالخطبة .
قوله تعالى : { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } . أي لا تحققوا العزم على عقدة النكاح في العدة ( حتى يبلغ الكتاب أجله ) أي : حتى تنقضي العدة ، وسماها الله كتاباً لأنها فرض من الله كقوله تعالى ( كتب عليكم ) أي فرض عليكم .
قوله تعالى : { واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه } . أي فخافوا الله .
قوله تعالى : { واعلموا أن الله غفور حليم } . لا يعجل بالعقوبة .
{ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }
هذا حكم المعتدة من وفاة ، أو المبانة في الحياة ، فيحرم على غير مبينها أن يصرح لها في الخطبة ، وهو المراد بقوله : { وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } وأما التعريض ، فقد أسقط تعالى فيه الجناح .
والفرق بينهما : أن التصريح ، لا يحتمل غير النكاح ، فلهذا حرم ، خوفا من استعجالها ، وكذبها في انقضاء عدتها ، رغبة في النكاح ، ففيه دلالة على منع وسائل المحرم ، وقضاء لحق زوجها الأول ، بعدم مواعدتها لغيره مدة عدتها .
وأما التعريض ، وهو الذي يحتمل النكاح وغيره ، فهو جائز للبائن كأن يقول لها : إني أريد التزوج ، وإني أحب أن تشاوريني عند انقضاء عدتك ، ونحو ذلك ، فهذا جائز لأنه ليس بمنزلة الصريح ، وفي النفوس داع قوي إليه .
وكذلك إضمار الإنسان في نفسه أن يتزوج من هي في عدتها ، إذا انقضت ، ولهذا قال : { أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } هذا التفصيل كله في مقدمات العقد .
وأما عقد النكاح فلا يحل { حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } أي : تنقضي العدة .
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ } أي : فانووا الخير ، ولا تنووا الشر ، خوفا من عقابه ورجاء لثوابه .
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } لمن صدرت منه الذنوب ، فتاب منها ، ورجع إلى ربه { حَلِيمٌ } حيث لم يعاجل العاصين على معاصيهم ، مع قدرته عليهم .
هذا شأن المرأة . . ثم يلتفت السياق إلى الرجال الراغبين فيها في فترة العدة ؛ فيوجههم توجيها قائما على أدب النفس ، وأدب الاجتماع ، ورعاية المشاعر والعواطف ، مع رعاية الحاجات والمصالح :
( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم ) . .
إن المرأة في عدتها ما تزال معلقة بذكرى لم تمت ، وبمشاعر أسرة الميت ، ومرتبطة كذلك بما قد يكون في رحمها من حمل لم يتبين ، أو حمل تبين والعدة معلقة بوضعه . . وكل هذه الاعتبارات تمنع الحديث عن حياة زوجية جديدة . لأن هذا الحديث لم يحن موعده ، ولأنه يجرح مشاعر ، ويخدش ذكريات .
ومع رعاية هذه الاعتبارات فقد أبيح التعريض - لا التصريح - بخطبة النساء . أبيحت الإشارة البعيدة التي تلمح منها المرأة أن هذا الرجل يريدها زوجة بعد انقضاء عدتها .
وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن التعريض مثل أن يقول : إني أريد التزويج . وإن النساء لمن حاجتي . ولوددت أنه تيسر لي امرأة صالحة " . .
كذلك أبيحت الرغبة المكنونة التي لا يصرح بها لا تصريحا ولا تلميحا . لأن الله يعلم أن هذه الرغبة لا سلطان لإرادة البشر عليها :
( علم الله أنكم ستذكرونهن ) . .
وقد أباحها الله لأنها تتعلق بميل فطري ، حلال في أصله ، مباح في ذاته ، والملابسات وحدها هي التي تدعو إلى تأجيل اتخاذ الخطوة العملية فيه . والإسلام يلحظ ألا يحطم الميول الفطرية إنما يهذبها ، ولا يكبت النوازع البشرية إنما يضبطها . ومن ثم ينهى فقط عما يخالف نظافة الشعور ، وطهارة الضمير :
لا جناح في أن تعرضوا بالخطبة ، أو أن تكنوا في أنفسكم الرغبة ، ولكن المحظور هو المواعدة سرا على الزواج قبل انقضاء العدة . ففي هذا مجانبة لأدب النفس ، ومخالسة لذكرى الزوج ، وقلة استحياء من الله الذي جعل العدة فاصلا بين عهدين من الحياة .
( إلا أن تقولوا قولا معروفا ) . .
لا نكر فيه ولا فحش ، ولا مخالفة لحدود الله التي بينها في هذا الموقف الدقيق :
( ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ) . .
ولم يقل : ولا تعقدوا النكاح . . إنما قال : ( ولا تعزموا عقدة النكاح ) . . زيادة في التحرج . . فالعزيمة التي تنشىء العقدة هي المنهي عنها . . وذلك من نحو قوله تعالى : ( تلك حدود الله فلا تقربوها ) . . توحي بمعنى في غاية اللطف والدقة .
( واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ) . .
وهنا يربط بين التشريع وخشية الله المطلع على السرائر . فللهواجس المستكنة وللمشاعر المكنونة هنا قيمتها في العلاقات بين رجل وامرأة . تلك العلاقات الشديدة الحساسية ، العالقة بالقلوب ، الغائرة في الضمائر . وخشية الله ، والحذر مما يحيك في الصدور أن يطلع عليه الله هي الضمانة الأخيرة ، مع التشريع ، لتنفيذ التشريع .
فإذا هز الضمير البشري هزة الخوف والحذر ، فصحا وارتعش رعشة التقوى والتحرج ، عاد فسكب فيه الطمأنينة لله ، والثقة بعفو الله ، وحلمه وغفرانه :
( واعلموا أن الله غفور حليم ) . .
غفور يغفر خطيئة القلب الشاعر بالله ، الحذر من مكنونات القلوب . حليم لا يعجل بالعقوبة فلعل عبده الخاطىء أن يتوب .
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( 235 )
المخاطبة بهذه الآية لجميع الناس ، والمباشر لحكمها هو الرجل في نفسه تزويج معتدة ، والتعريض هو الكلام الذي لا تصريح فيه كأنه يعرض لفكر المتكلم به( {[2234]} ) ، وأجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزويجها وتنبيه عليه لا يجوز ، وكذلك أجمعت على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز . وجوز ما عدا ذلك ، ومن أعظمه( {[2235]} ) قرباً إلى التصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس : «كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك »( {[2236]} ) . ومن المجوز قول الرجل : إنك لإلى خير ، وإنك لمرغوب فيك ، وإني لأرجو أن أتزوجك ، وإن يقدر أمر يكن ، هذا هو تمثيل مالك وابن شهاب وكثير من أهل العلم في هذا ، وجائز أن يمدح نفسه ويذكر مآثره على جهة التعريض بالزواج ، وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين ، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله مع أم سلمة( {[2237]} ) ، والهدية إلى المعتدة جائزة ، وهي من التعريض ، قاله سحنون وكثير من العلماء .
قال القاضي أبو محمد : وقد كره مجاهد أن يقول لا تسبقيني بنفسك ، ورآه من المواعدة سراً ، وهذا عندي على أن يتأول قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس إنه على جهة الرأي لها فيمن يتزوجها لا أنه أرادها لنفسه ، وإلا فهو( {[2238]} ) خلاف لقوله صلى لله عليه وسلم ، والخطبة بكسر الخاء فعل الخطاب من كلام وقصد واستلطاف بفعل أو قول ، يقال خطبها يخطبها خطباً وخطبة ورجل خطّاب كثير التصرف في الخطبة ، ومنه قول الشاعر( {[2239]} ) : [ الرجز ]
برح بالعينين خطّاب الكثبْ . . . يقول إني خاطب وقد كذبْ
وإنما يخطب عساً من حلبْ . . . والخطبة «فِعلة » كجلسة «وقِعدة » ، والخُطبة بضم الخاء هي الكلام الذي يقال في النكاح وغيره ، { أو أكننتم } معناه سترتم وأخفيتم ، تقول العرب : كننت الشيء من( {[2240]} ) الأجرام ، إذا سترته في بيت أو ثوب أو أرض ونحوه ، وأكننت الأمر في نفسي ، ولم يسمع من العرب كننته في نفسي ، وتقول أكن البيت الإنسان ونحو هذا ، فرفع الله الجناح عمن أراد تزوج المعتدة مع التعريض ومع الإكنان( {[2241]} ) ، ونهى عن المواعدة التي هي تصريح بالتزويج وبناء عليه واتفاق على وعد ، فرخص لعلمه تعالى بغلبة النفوس وطمحانها وضعف البشر عن ملكها ، وقوله تعالى { ستذكرونهن } ، قال الحسن : معناه ستخطبونهن .
قال القاضي أبو محمد : كأنه( {[2242]} ) قال إن لم تنهوا ، وقال غير الحسن : معناه علم الله أنكم ستذكرون النساء المعتدات في نفوسكم وبألسنتكم لمن يخف عندكم فنهى عن أن يوصل إلى التواعد معها لما في ذلك من هتك حرمة العدة ، وقوله تعالى : { ولكن لا تواعدوهن سراً } ذهب ابن عباس وابن جبير ومالك وأصحابه والشعبي ومجاهد وعكرمة والسدي وجمهور أهل العلم إلى أن المعنى لا توافقوهن بالمواعدة والتوثق وأخذ العهود في استسرار منكم وخفية ، ف { سراً } على هذا التأويل نصب على الحال أي مستسرين .
وقال جابر بن زيد وأبو مجلز( {[2243]} ) لاحق بن حميد والحسن بن أبي الحسن والضحاك وإبراهيم النخعي : السر في هذه الآية الزنا أي لا تواعدوهن زنى .
قال القاضي أبو محمد : هكذا جاءت عبارة هؤلاء في تفسير السر وفي ذلك عندي نظر ، وذلك أن السر في اللغة يقع على الوطء حلاله وحرامه ، لكن معنى الكلام وقرينته ترد إلى أحد الوجهين ، فمن الشواهد قول الحطيئة : [ الوافر ]
وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارتِهِمْ عَلَيْهِمْ . . . وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أَنْفَ القِصَاعِ( {[2244]} )
فقرينة هذا البيت تعطي أن السر أراد به الوطء حراماً ، وإلا فلو تزوجت الجارة كما يحسن لم يكن في ذلك عار ، ومن الشواهد قول الآخر : [ الطويل ]
أَخَالَتَنَا سِرُّ النّساءِ مُحَرَّمٌ . . . عليَّ ، وَتَشْهَادُ النَّدامى مَعَ الْخَمْرِ
لئن لم أصبّحْ داهناً ولفيفَها . . . وناعبَها يوماً براغيةِ البكْرِ( {[2245]} )
فقرينة هذا الشعر تعطي أنه أراد تحريم جماع النساء عموماً في حرام وحلال حتى ينال ثأره ، والآية تعطي النهي عن أن يواعد الرجل المعتدة أن يطأها بعد العدة بوجه التزويج ، وأما المواعدة في الزنى فمحرم على المسلم مع معتدة وغيرها ، وحكى مكي عن ابن جبير أنه قال : «سراً : نكاحاً » ، وهذه عبارة مخلصة ، وقال ابن زيد : «معنى قوله { ولكن لا تواعدوهن سراً } أي لا تنكحوهن وتكتمون ذلك فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن » .
قال القاضي أبو محمد : فابن زيد في معنى السر مع القول الأول أي خفية ، وإنما شذ في أن سمى العقد مواعدة ، وذلك قلق لأن العقد متى وقع وإن تكتم به فإنما هو في عزم العقدة( {[2246]} ) ، وحكى مكي عنه أنه قال : «الآية منسوخة بقوله : { ولا تعزموا عقدة النكاح } وأجمعت الأمة على كراهية المواعدة في العدة للمرأة في نفسها ، وللأب في ابنته البكر ، وللسيد في أمته ، قال ابن المواز : فأما الولي الذي لا يملك الجبر فأكرهه ، وإن نزل لم أفسخه ، وقال مالك رحمه الله فيمن يواعد في العدة ثم يتزوج بعدها : فراقها أحب إليّ دَخَلَ بها أو لم يدخل وتكون تطليقة واحدة ، فإذا حلت خطبها مع الخطاب ، هذه رواية ابن وهب ، وروى أشهب عن مالك أنه يفرق بينهما إيجاباً( {[2247]} ) ، وقاله ابن القاسم ، وحكى ابن حارث مثله عن ابن الماجشون ، وزاد ما يقتضي أن التحريم يتأبد ، وقوله تعالى : { إلا أن تقولوا قولاً معروفاً } استثناء ، منقطع ، والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض ، وقد ذكر الضحاك أن من القول المعروف أن يقول الرجل للمعتدة احبسي عليَّ نفسك فإن لي بك رغبة ، فتقول هي وأنا مثل ذلك .
قال القاضي أبو محمد : وهذه عندي مواعدة ، وإنما التعريض قول الرجل : إنكم لأكفاء كرام ، وما قدر كان ، وإنك لمعجبة ، ونحو هذا .
{ وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }
عزم العقدة عقدها بالإشهاد والولي ، وحينئذ تسمى { عقدة }( {[2248]} ) ، وقوله تعالى { حتى يبلغ الكتاب أجله } يريد تمام العدة ، و { الكتاب } هنا هو الحد الذي جعل والقدر الذي رسم من المدة ، سماه كتاباً إذ قد حده وفرضه كتاب الله ، كما قال : { كتاب الله عليكم }( {[2249]} ) [ النساء : 24 ] ، وكما قال : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً }( {[2250]} ) [ النساء : 103 ] ، ولا يحتاج عندي في الكلام إلى حذف مضاف ، وقد قدر إسحاق في ذلك حذف مضاف أي فرض الكتاب ، وهذا( {[2251]} ) على أن جعل الكتاب القرآن ، واختلف أهل العلم إن خالف أحد هذا النهي وعزم العقدة قبل بلوغ الأجل .
قال القاضي أبو محمد : وأنا أفصل المسألة إن شاء الله تعالى( {[2252]} ) ، أما إن عقد العدة وعثر عليه ففسخ الحاكم نكاحه وذلك قبل الدخول : فقول عمر بن الخطاب وجماعة من العلماء إن ذلك لا يؤبد تحريماً ، وقاله مالك وابن القاسم في المدونة في آخر الباب الذي يليه ضرب أجل امرأة المفقود ، وقال الجميع : يكون خاطباً من الخطّاب ، وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية أن التحريم يتأبد في العقد في العدة وإن فسخ قبل الدخول ، وأما إن عقد في العدة ودخل بعد انقضائها فقال قوم من أهل العلم : ذلك كالدخول في العدة يتأبد التحريم بينهما ، وقال قوم من أهل العلم : لا يتأبد بذلك تحريم ، وقال مالك مرة : يتأبد التحريم ، وقال مرة : وما التحريم بذلك بالبين ، والقولان له في المدونة في طلاق السنة ، وأما إن دخل في العدة فقول عمر بن الخطاب ومالك وجماعة من أصحابه والأوزاعي والليث وغيرهم من أهل العلم : إن التحريم يتأبد( {[2253]} ) ، وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود وإبراهيم وأبي حنيفة والشافعي وجماعة من العلماء وعبد العزيز بن أبي سلمة : إن التحريم لا يتأبد( {[2254]} ) وإن وطىء في العدة ، بل يفسخ بينهما ثم تعتد منه ثم يكون خاطباً من الخطاب ، قال أبو حنيفة والشافعي : تعتد من الأول فإذا انقضت العدة فلا بأس أن يتزوجها الآخر ، وحكى ابن الجلاب رواية في المذهب أن التحريم لا يتأبد مع الدخول في العدة ، ذكرها في العالم بالتحريم المجترىء لأنه زان ، وأما الجاهل فلا أعرف فيها خلافاً في المذهب .
حدثني أبو علي الحسين بن محمد الغساني مناولة( {[2255]} ) ، قال ن أبو عمر بن عبد البر( {[2256]} ) ، ن عبد الوارث بن سفيان( {[2257]} ) ، ن قاسم بن أصبغ( {[2258]} ) ، عن محمد بن إسماعيل( {[2259]} ) ، عن نعيم بن حماد( {[2260]} ) ، عن ابن المبارك( {[2261]} ) ، عن أشعث( {[2262]} ) ، عن الشعبي( {[2263]} ) ، عن مسروق( {[2264]} ) ، قال : بلغ عمر بن الخطاب أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها ، فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما ، وقال : «لا تنكحها أبداً » . وجعل صداقها في بيت المال ، وفشا ذلك في الناس ، فبلغ علياً فقال : «يرحم الله أمير المؤمنين ، ما بال الصداق وبيت المال ؟ إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة » ، قيل : فما تقول أنت فيها ؟ . قال : لها الصداق بما استحل من فرجها ، ويفرق بينهما ، ولا حد عليهما ، وتكمل عدتها من الأول ، ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثلاثة أقراء ، ثم يخطبها إن شاء «فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فخطب الناس فقال : » يا أيها الناس ردوا الجهالات إلى السنة « ، وهذا قول الشافعي والليث في العدة من اثنين( {[2265]} ) ، وقال مالك وأصحاب الرأي والأوزاعي والثوري : عدة واحدة تكفيهما جميعاً سواء كانت بالحمل أو بالإقراء أو بالأشهر ، وروى المدنيون عن مالك مثل قول علي بن أبي طالب والشافعي في إكمال العدتين ، واختلف قول مالك رحمه الله في الذي يدخل في العدة عالماً بالتحريم مجترماً ، فمرة قال : العلم والجاهل فيه سواء( {[2266]} ) لا حد عليه ، والصداق له لازم ، والولد لاحق ، ويعاقبان ولا يتناحكان أبداً ، ومرة قال : العالم بالتحريم كالزاني( {[2267]} ) يحد ، ولا يلحق به الولد ، وينكحها بعد الاستبراء ، والقول الأول أشهر عن مالك رحمه الله .
وقوله تعالى { واعلموا } إلى آخر الآية : تحذير من الوقوع فيما نهى عنه ، وتوقيف على غفره وحلمه في هذه الأحكام التي بيَّنَ ووسَّعَ فيها من إباحة التعريض ونحوه( {[2268]} ) .