التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا عَرَّضۡتُم بِهِۦ مِنۡ خِطۡبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوۡ أَكۡنَنتُمۡ فِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ سَتَذۡكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّآ أَن تَقُولُواْ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗاۚ وَلَا تَعۡزِمُواْ عُقۡدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡكِتَٰبُ أَجَلَهُۥۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (235)

قوله تعالى : ( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلوا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم )

يخاطب الله في هذه الآية الرجال الذين يبتغون الزواج من النساء في حال عدّتهن من وفاة أزواجهن ، فإذا رغب الرجل في نكاح المتوفى عنها زوجها أثناء عدّتها فإنه لا إثم عليه في ذلك إذا ما كان خطابه لها تعريضا لا تصريحا ، والتعريض ضد التصريح ، وهو أن يحتمل الخطاب أكثر من معنى ، وذلك كالنكاح وغيره . وهو من العرض ، وعرض الشيء جانبه لا وسطه ، والمعرّض حين الخطاب إنما يحوم حول المقصود حوما من غير أن يخوض في صميمه . وبعبارة أخرى فإن التعريض يراد به التلميح لا التصريح{[322]} ذلك إذا ما أراد الرجل أن يخطب المتوفى عنها زوجها أو المطلقة المبتوتة أثناء العدة لكل منهما . والتعريض بخطبة النساء أن يقول الرجل للمرأة على سبيل المثال : إني أبتغي الزواج من امرأة صالحة ، أو : إنك امرأة صالحة ، وددت أن يكتب الله لي واحدة مثلك ، أو : إن لي حاجة في الزواج من الصالحات ، أو : لا تسبقيني بنفسك ، وغير ذلك من عبارات تحتمل أكثر من معنى ، لكنها جميعا تأتي على سبيل التلميح بخطبة المرأة المتوفى عنها زوجها أو المبتوتة حال عدّتها ، أما المطلقة طلاقا رجعيا فلا يجوز بحال أن يعرّض لها بخطبة ؛ لأنها لم تبرح كنف الزوجية مادامت في عدّتها ، وليس لأحد من الرجال أصلا أن يخاطبها بتلك العبارات باستثناء زوجها الذي يستطيع مراجعتها في كل آن .

قوله : ( أو أكننتم في أنفسكم ) ( أكننتم ) بمعنى أخفيتم ، من الإكنان وهو الستر والإخفاء ، والجملة معطوفة على نفي الحرج في التعريض بخطبة النساء . والمعنى أنه لا إثم عليكم ولا حرج فيما تخفونه في أنفسكم من الرغبة في خطبة المتوفى عنهن أزواجهن أو نكاحهن بعد انقضاء عدتهن .

وقوله : ( علم الله أنكم ستذكرونهن ) الله يعلم أنكم ستذكرون أولئك النساء وذلك بألسنتكم أو في نفوسكم ، سواء كان الذكر لهن في السر أو العلن . ومن أجل ذلك قد أباح الله لكم مراودتهن في الخطبة تعريضا لا تصريحا .

ثم حذر الله من مواعدة النساء المعتدّات من وفاة أزواجهن سرا . ومواعدتهن بالسر تشمل كل كلام محرّم أثناء الاعتداد ، وذلك كالمواعدة على الزنا ، أو إلزامها بميثاق على ألا تتزوج غيره ، أو أن يقول لها : لا تفوتيني بنفسك فإني ناكحك .

ومثل هذه المواعدات حرام ، إلا أن يكون القول معروفا وهو ما أبيح من التعريض وفي ذلك كله يقول سبحانه : ( ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ) والاستثناء هنا منقطع . أي ليس لكم أن تخاطبوهن سرا لتنتزعوا منهن مواعدات محرّمة إلا أن تكون المخاطبة مباحة وهي الحديث إليهن تعريضا كما بينا .

قوله : ( ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ) عقدة النكاح هي العقد بين الراغبين في التناكح والمؤلّف من ركنيه الإيجاب والقبول . ويراد بالكتاب العدّة . والمعنى أنه ليس لكم أن تعقدوا عقد النكاح على النساء المتوفى عنهن أزواجهن ولم تنقض عدّتهن بعد .

وقد وقع الإجماع على أنه لا يصح العقد على المرأة حال عدّتها ، بل إن ذلك حرام قد نهى عنه الشرع . وإذا تزوج الرجل المرأة في عدتها ولم يدخل بها وجب فسخ العقد ، ثم يكون الرجل بعد ذلك خاطبا من الخطّاب إن شاء وقيل إن التحريم يقع مؤبدا مادام العقد قد وقع أثناء العدّة وإن لم يتم الدخول ، أما إذا وقع الدخول بعد العقد وفي العدّة وجب الفسخ أولا ، ثم تحرم المرأة على التأبيد وهو ما ذهب إليه الإمام مالك مستندا في ذلك إلى ما قاله عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- : أيما امرأة نكحت في عدّتها ، فإن كان زوجها الذي تزوج بها لم يدخل بها فُرّق بينهما ثم اعتدت بقية عدّتها من زوجها الأول وكان خاطبا من الخطّاب ، وإن كان دخل بها فُرّق بينهما ثم اعتدّت بقية عدّتها من زوجها الأول ، ثم اعتدّت من الآخر ، ثم لم ينكحها أبدا .

لكن جمهور العلماء ذهبوا إلى أنها لا تحرم على التأبيد ، بل لمن دخل بها في عدّتها أن يخطبها بعد انقضاء عدّتها{[323]} .

قوله : ( واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ) يحذّر الله عباده مما يكنونه في ضمائرهم من نوايا ، فإن عليهم أن يخافوه ، ويحذروا عذابه وبطشه ، وأن يتجنبوا ما نهاهم عنه ، وأن يمتثلوا لما بيّن للناس من حدود .

ثم إن الله لا يريد للعباد أن يعيشوا مع اليأس أو يقطعوا مع الله حبل الرجاء ، بل عليهم أن يعلموا أن الله جلت قدرته ( غفور حليم ) فهو غفّار للذنوب يتجاوز عن المعاصي والخطايا ، وهو كذلك حليم ، يتجاوز عن السيّئات ، ويشمل العباد بأفياء رحمته التي وسعت كل شيء{[324]} .


[322]:- المصباح المنير ص 425.
[323]:- بداية المجتهد جـ 2 ص 40.
[324]:- تفسير القرطبي جـ 3 ص 192 -194.