ثم بين - سبحانه - حكم الخطبة للنساء المعتدات بياناً يقوم على أدب النفس ، وأدب الاجتماع ، ورعاية المشاعر والعواطف مع رعاية المصالح والضرورات فقال - تعالى - :
{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ . . . }
قوله - تعالى - : { فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ } أي : لو حتم وأشرتم به . من التعريض الذي هو ضد التصريح ومعناه أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده ، ويصلح لدلالة على غير مقصوده ، إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح وأصله من عرض الشيء - بضم العين - أي جانبه ومن أمثلته أن يقول الفقير المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلم عليك . . وهو يقصد عطاءه .
و { خِطْبَةِ النسآء } مخاطبة المرأة أو أوليائها في أمر زواجها . والخطبة - بكسر الخاء كالجلسة - مأخوذة من الخطب أي الشأن لأنها شأن من الشئون وقيل من الخطاب لأنها نوع - مخاطبة تجري بين جانب الرجل وجانب المرأة . والمراد خطبة النساء اللائي فارقهن أزواجهن . و { أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ } أخفيتم وأسررتم من الإِكنان وهوالإِضمار من غير إعلان .
والمعنى : ولا حرج ولا إثم عليكم أيها الرجال المبتغون للزواج في التعريض بخطبة المرأة أثناء عداتها لتتزوجوهن بعد انقضائها ، كما أنه لا إثم عليكم كذلك في الرغبة في الزواج بهن ، مع إخفاء ذلك وستره من غير كشف وإعلان لأن التصريح بالخطبة أثناء العدة عمل يتنافى مع آداب الإسلام ، ومع تعاليم شريعته ، ومع الأخلاق الكريمة ، والعقول السليمة ، والنفوس الشريفة .
قال القرطبي : قال ابن عطية : أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزوجها وتنبيه عليه لا يجوز ، وكذلك أجمعت على أن الكلام معه بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز وكذلك ما أشبهه وجوز ما عدا ذلك . ولا يجوز التعريض لخطبة المطلقة طلاقاً رجعياً إجماعاً لأنها كالزوجة . وأما من كانت في عدة البينونة فالصحيح جواز التعريض لخطبتها " .
والتعريض في خطبة النساء أساليبه مختلفة ، ومما ذكره العلماء في هذا الشأن أن يقول الرجل للمرأة : أني أرغب في الزواج أو أن يقول لوليها : لا تسبقني بها إلى غيري .
ومن أساليب التعريض ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع السيدة أم سلمة ، فقد جخل عليها وهي متأيمة من زوجها أبي سلمة فقال لها : " لقد علمت أني رسول الله وخيرته وموضعي في قومي " فكان كلامه خطبة لها بأسلوب التعريض .
ومنها ما ذكره صاحب الكشاف عن عبد الله بن سليمان عن خالته - سكينة بنت حنظلة - قالت : " دخل على أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدتي فقال : قد علمت قرابتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرابتي من جدي علي بن أبي طالب ، وموضعي في العرب ، وقدمي في الإِسلام . قالت : فقلت : غفر الله لك يا أبا جعفر ! أتخطبني في عدتي وأنت يؤخذ عنك ؟ فقال : أو قد فعلت إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي .
وقوله - تعالى - : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ } إلخ معطوف على ما قبله في الآية السابقة لأن الكلام في الآيتين في الأحكام المتعلقة بعدة النساء .
و ( ما ) في قوله : { فِيمَا عَرَّضْتُمْ } موصولة . و { مِنْ خِطْبَةِ النسآء } بيان لما ، و ( آل ) في النساء للعهد والمعهودات هن الزوجات اللائي سبق الحديث عنهن في الآيات التي قبل هذه . و { أَوْ } في قوله : { أَوْ أَكْنَنتُمْ } للإِباحة أو التخيير ، ومفعول أكن محذوف يعود إلى ما الموصولة في قوله : { فِيمَا عَرَّضْتُمْ } والتقدير : أو أكننتموه . { في أَنْفُسِكُمْ } متعلق بأكننتم .
وقوله - تعالى - : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } كالتعليل لما قبله وهو قوله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ } إلخ . ونهى عما يردى ويفسد ، وإباحة لما لا ضرر فيه .
أي : علم الله أنكم يا معشر الرجال ستذكرون هؤلاء النسوة المعتدات بمالهن من جمال ومن حسن عشرة ومن غير ذلك من شئونهن وأن تفكروا فيهن وتهفوا إليهن نفوسكم ، والله - تعالى - فضلا منه وكرماً قد أباح لكم أن تذكروهن ولكنه ينهاكم عن أن تواعدوهن وعداً سرياً بأن تقولوا لهم في السر ما تستحيون من قوله في العلن لقبحه ومنافاته للشرع .
وقوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } استثناء مما يدل عليه النهي لا تواعدوهن مواعدة ما إلا مواعدة معروفة غير منكرة شرعاً ، وهي ما تكون بطريق التلويح والتعريض .
وفي قوله سبحانه : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } بيان لما جبلت عليه النفس البشرية من ميل فطري بين الرجال والنساء ، والإِسلام لا ينكر هذا الميل وإنما يهذبه ويقومه ويصقله بآدابه الحميدة ، وتعاليمه السامية .
وقوله : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } استدراك على محذوف دل عليه { سَتَذْكُرُونَهُنَّ } أي : فاذكروهن { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } .
قال القرطبي ما ملخصه : واختلف العلماء في المراد بالسر في قوله - تعالى - : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } فقيل معناه نكاحاً ، أي لا يقل الرجل لهذه المعتدة تزوجيني بل يعرض إن أراد ، ولا يأخذ ميثاقها وعهدها ألا تنكح غيره في استسرار وخفية . هذا قول جمهور أهل العلم . و " سراً " على هذا التأويل نصب على الحال أي مسرين - وسمي النكاح سراً لأن مسببه الذي هو الوطء ما يسر - وقيل السر الزنا ، أي لا يكونن من كم مواعدة على الزنا في العدة ثم التزوج بعدها . أي لا تواعدوهن زنا . واختاره الطبري . ومنه قول الأعشى :
فلا تقربن جارة إن سرها . . . عليك حرام فانكحن أو تأبداً
أي : " فتزوجها أو ابتعد عنها . وقيل السر الجماع "
والذي تطمئن إليه النفس أن كلمة ( سرا ) صفة لموصوف محذوف أي لا تواعدهن وعدا سرية ، يقال فيها كل ما ينهى عنه أو يستحيا منه في العلن ، لقبه أو لأن أوانه لم يحن بعد ، إذ السرية ، أو الخلوة بين الرجل والمرأة لا تؤمن مزالقها .
وفي الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما " وأن المراد بقوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } هو التعريض بالخطبة ، وإظهار المودة بطريقة لا تفضى إلى محرم .
قال صاحب الكشاف في قوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } وهو أن تعرّضوا ولا تصرحوا .
فإن قلت بم يتعلق حرف الاستثناء ؟ قلت : بلا تواعدوهن . أي لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة : أي لا تواعدوهن إلا بالتعريض .
ثم قال - تعالى - : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } .
العزم : القطع والتصميم ، يقال عزم على الشيء إذا صمم وعقد القلب على فعله ، وهو يتعدى بعلى وبنفسه فيقال : عزم اليء وعزم عليه .
وعقدة النكاح : الارتباط الموثق به . وأصل العقد الشد ، والعهود والأنكحة تسمى عقودا لأنها تقعد وتوثق كما يوثق بالحبل .
والمراد بالكتاب هنا الأمر المكتوب المفروض وهو العدة التي حدد الله لها وقتاً معيناً .
والأجل : هو نهاية المدة التي قررها الشرع للعدة .
والمعنى : لا يسوغ لكم يا معشر الرجال الراغبين في الزواج من النساء اللائي فارقهن أزواجهن أن تعقدوا العزم نهائياً في أثناء العدة على أن تتموا الزواج بعدها ، بأن تحول الخطبة من التعريض إلى التصريح ، أو تبتوا في أمر الزواج بتاً قاطعاً بمواعدة أو نحوها ، إذ العاقل لا يستعجل أمرا قبل حلول وقته ، وإنما الذي يسوغ لكلم أن تتموا عقد الزواج بعد انتهاء العدة وبعد أن يكون جو الأحزان قد فتر وجفت حدته .
والنهي عن العزم على عقد النكاح نهي بالأولى عن إبرامه وتنفيذه ، لأن العزم على الفعل يتقدمه ، فإذا نهى عنه كان الفعل أنهى ، فهو كالنهي عن الاقتراب من حدود الله في قوله : { حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا } وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد أباحت شيئين ، ونهت عن شيئين : أباحت التعريض بالخطبة للمرأة أثناء عدتها ، كما أباحت إخفاء هذه الرغبة في الأنفس وحديثها بها . ويشهد لذلك قوله - تعالى - : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ } ونهت عن المواعدة سراً إلا أن يقولوا قولا معروفاً عن طريق التعريض ، أو أن يسار الرجل المرأة بالقول المعروف الذي أباحه الشرع وارتضته العقول السليمة ، والأخلاق الفاضلة ، بأن يعدها في السر بالإِحسان إليها والاهتمام بشأنها والتكفل بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكداً لذلك التعريض . أما الشيء الثاني الذي نهت عنه فهو العزم على عقدة النكاح قبل انقضاء العدة . ويشهد لهذا قوله - تعالى - : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } .
وبعد هذه الأوامر والنواهي ختم الله - تعالى - الآية بقوله : { واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ فاحذروه واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } .
أي : اعلموا أيها الناس أن الله - تعالى - يعلم ما يجول في نفوسكم من خير أو شر ، وما تهجس به خطرات قلوبكم من مقاصد واتجاهات ، فاحذروا أن تقصدوا ما هو شر ، أو تفعلوا ما هو منكر ، واعلموا أنه - تعالى - غفور لمن تاب وعمل صالحاً ، حليم لا يعاجل الناس بالعقوبة ، ولا يؤاخذهم إلا بما كسبوا .
فالجملة الكريمة تحذير وتبشير ، وترغيب وترهيب ، لكي لا يتجاسر الناس على ارتكاب ما نهي الله عنه ، ولا ييأسوا من رحمته متى تابوا وأنابوا .
هذا ، وقد أجمع العلماء أنها تصير محرمة عليه تحريماً مؤبداً ، ولا يحل له نكاحها ركلك لأنه استحل ما لا يحل فعوقب بحرمانه ، كالقاتل يعاقب بحرمانه من ميراث المقتول . وقيل : يفسخ النكاح ويفرق بينهما فإذا انتهت العدة حلت له ولم يتأبد التحريم . ولكل فريق أدلته المبسوطة في كتب الفقه .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد أرشدت الناس إلى ما يقره الشرع ، ويرتضيه الخلق الكريم ، ونهتهم عما يتنافى مع تعاليم الإِسلام بأسلوب حكيم جمع بين الشدة واللين ، والخوف والرجاء ، حتى يثوب المخطئون إلى رشدهم ويقلعوا عن خطئهم .