في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا عَرَّضۡتُم بِهِۦ مِنۡ خِطۡبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوۡ أَكۡنَنتُمۡ فِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ سَتَذۡكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّآ أَن تَقُولُواْ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗاۚ وَلَا تَعۡزِمُواْ عُقۡدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡكِتَٰبُ أَجَلَهُۥۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (235)

221

هذا شأن المرأة . . ثم يلتفت السياق إلى الرجال الراغبين فيها في فترة العدة ؛ فيوجههم توجيها قائما على أدب النفس ، وأدب الاجتماع ، ورعاية المشاعر والعواطف ، مع رعاية الحاجات والمصالح :

( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم ) . .

إن المرأة في عدتها ما تزال معلقة بذكرى لم تمت ، وبمشاعر أسرة الميت ، ومرتبطة كذلك بما قد يكون في رحمها من حمل لم يتبين ، أو حمل تبين والعدة معلقة بوضعه . . وكل هذه الاعتبارات تمنع الحديث عن حياة زوجية جديدة . لأن هذا الحديث لم يحن موعده ، ولأنه يجرح مشاعر ، ويخدش ذكريات .

ومع رعاية هذه الاعتبارات فقد أبيح التعريض - لا التصريح - بخطبة النساء . أبيحت الإشارة البعيدة التي تلمح منها المرأة أن هذا الرجل يريدها زوجة بعد انقضاء عدتها .

وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن التعريض مثل أن يقول : إني أريد التزويج . وإن النساء لمن حاجتي . ولوددت أنه تيسر لي امرأة صالحة " . .

كذلك أبيحت الرغبة المكنونة التي لا يصرح بها لا تصريحا ولا تلميحا . لأن الله يعلم أن هذه الرغبة لا سلطان لإرادة البشر عليها :

( علم الله أنكم ستذكرونهن ) . .

وقد أباحها الله لأنها تتعلق بميل فطري ، حلال في أصله ، مباح في ذاته ، والملابسات وحدها هي التي تدعو إلى تأجيل اتخاذ الخطوة العملية فيه . والإسلام يلحظ ألا يحطم الميول الفطرية إنما يهذبها ، ولا يكبت النوازع البشرية إنما يضبطها . ومن ثم ينهى فقط عما يخالف نظافة الشعور ، وطهارة الضمير :

( ولكن لا تواعدوهن سرا ) . .

لا جناح في أن تعرضوا بالخطبة ، أو أن تكنوا في أنفسكم الرغبة ، ولكن المحظور هو المواعدة سرا على الزواج قبل انقضاء العدة . ففي هذا مجانبة لأدب النفس ، ومخالسة لذكرى الزوج ، وقلة استحياء من الله الذي جعل العدة فاصلا بين عهدين من الحياة .

( إلا أن تقولوا قولا معروفا ) . .

لا نكر فيه ولا فحش ، ولا مخالفة لحدود الله التي بينها في هذا الموقف الدقيق :

( ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ) . .

ولم يقل : ولا تعقدوا النكاح . . إنما قال : ( ولا تعزموا عقدة النكاح ) . . زيادة في التحرج . . فالعزيمة التي تنشىء العقدة هي المنهي عنها . . وذلك من نحو قوله تعالى : ( تلك حدود الله فلا تقربوها ) . . توحي بمعنى في غاية اللطف والدقة .

( واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ) . .

وهنا يربط بين التشريع وخشية الله المطلع على السرائر . فللهواجس المستكنة وللمشاعر المكنونة هنا قيمتها في العلاقات بين رجل وامرأة . تلك العلاقات الشديدة الحساسية ، العالقة بالقلوب ، الغائرة في الضمائر . وخشية الله ، والحذر مما يحيك في الصدور أن يطلع عليه الله هي الضمانة الأخيرة ، مع التشريع ، لتنفيذ التشريع .

فإذا هز الضمير البشري هزة الخوف والحذر ، فصحا وارتعش رعشة التقوى والتحرج ، عاد فسكب فيه الطمأنينة لله ، والثقة بعفو الله ، وحلمه وغفرانه :

( واعلموا أن الله غفور حليم ) . .

غفور يغفر خطيئة القلب الشاعر بالله ، الحذر من مكنونات القلوب . حليم لا يعجل بالعقوبة فلعل عبده الخاطىء أن يتوب .