ولما حد سبحانه وتعالى هذه المدة لمنعهن عن الرجال بين أن التعريض بالخطبة ليس داخلاً في المنع فقال : { ولا جناح عليكم } أي إثم بميل{[10977]} { فيما عرضتم به } أي قلتموه وأنتم تقصدون ما هو بعيد عنه كأنه في جانب وهو في جانب آخر لا يتأدى إليه إلا بدورة{[10978]} كأنت جميلة أو نافعة ، وأنا عازم على أن أتزوج ، وعسى أن ييسر الله لي قرينة{[10979]} صالحة{[10980]} وقال الحرالي : من التعريض وهو تفعيل من العرض{[10981]} والعرض{[10982]} وهو إلقاء القول عرضاً أي ناحية على غير قصد إليه وصمد نحوه - {[10983]}انتهى . والفرق بينه وبين الكناية أنه كلام ظاهر في معنى يقصد به غير معناه الظاهر فلا يفهم المراد إلا بالقرائن ، كقول المحتاج : جئت لأسلم عليك وأنظر وجهك الكريم ، ويسمى التلويح أيضاً ، والكناية ذكر اللازم وإرادة الملزوم ، وقد أفهم نوط الحل بالتعريض تحريم التصريح المقابل له وللكناية{[10984]} ، والصريح اسم لما هو ظاهر المراد عند السامع بحيث يسبق إلى فهمه المراد{[10985]} ولا يسبق غيره عند الإطلاق { من خطبة } وهي الخطاب في قصد{[10986]} التزوج . {[10987]}وقال الحرالي{[10988]} : هي هيئة الحال فيما بين الخاطب والمخطوبة التي النطق عنها هو الخطبة بالضم { النساء } المتوفى عنهن أزواجهن ومن أشبههن في طلاق بائن بالثلاث أو غيرها .
ولما أحل{[10989]} له التعريض وكان قد يعزم على التصريح إذا حل له ذلك{[10990]} نفى عنه الحرج فيه بقوله { أو أكننتم } أي{[10991]} أضمرتم { في أنفسكم } من تصريح وغيره {[10992]}سواء كان من شهوات النفس أو لا{[10993]} . قال الحرالي : من الكن - بالفتح - وهو الذي من معناه الكن - بالكسر - وهو ما وارى بحيث لا يوصل به إلى شيء .
ولما كان لله سبحانه وتعالى بهذه الأمة عناية عظيمة في التخفيف عنها أعلمها بذلك بقوله على سبيل التعليل : { علم الله } أي بما له من صفات الكمال { أنكم ستذكرونهن } أي في العدة فأذن لكم{[10994]} في ذلك على ما حد لكم{[10995]} .
قال الحرالي : ففيه إجراء الشرعة على الحيلة{[10996]} الخاص بهذه الأمة انتهى{[10997]} .
ولما كان التقدير : فاذكروهن ، استثنى منه قوله : { ولكن لا تواعدوهن } أي في ذكركم إياهن{[10998]} { سراً } ولما كان السر يطلق على ما أسر بالفعل وما هو أهل أن يسر به{[10999]} وإن جهر بين أن المراد الثاني وهو السر بالقوة فقال : { إلا أن تقولوا } أي في الذكر لهن { قولاً معروفاً } لا يستحيي منه عند أحد من الناس ، فآل{[11000]} الأمر إلى أن المعنى لا تواعدوهن إلا ما لا يستحيي من ذكره فيسر{[11001]} وهو التعريض ؛ {[11002]}فنصت {[11003]}هذه الآية على تحريم التصريح بعد إفهام الآية الأولى لذلك اهتماماً به لما{[11004]} للنفس من الداعية إليه .
ولما كانت عدة الوفاة طويلة فكان حبس النفس فيها عن النكاح شديداً وكانت إباحة التعريض قريبة من الرتع حول الحمى{[11005]} وكان من يرتع حول الحمى{[11006]} يوشك أن يواقعه خصها باتباعها النهي عن العقد قبل الانقضاء حملاً على التحري ومنعاً من التجري{[11007]} فقال : { ولا تعزموا } أي تبتّوا أي تفعلوا فعلاً بتاً مقطوعاً به غير متردد فيه{[11008]} { عقدة النكاح } {[11009]}أي النكاح الذي يصير معقوداً{[11010]} للمعتدة عدة هي فيها بائن {[11011]}فضمن العزم البتة{[11012]} ولذلك أسقط " على " وأوقعه على العقدة التي هي من آثاره ولا تتحقق{[11013]} بدونه فكأنه قال : ولا تعزموا على النكاح باقين عقدته ، وهو أبلغ مما لو قيل : ولا تعقدوا{[11014]} النكاح ، فإن النهي عن العزم الذي هو سبب العقد نهي عن العقد بطريق{[11015]} الأولى{[11016]} . قال الحرالي{[11017]} : والعقدة توثيق جمع الطرفين المفترقين بحيث يشق حلها وهو معنى دون الكتب الذي هو وصلة وخرز{[11018]} { حتى يبلغ الكتاب } أي الذي تقدم فيما أنزلت عليكم منه بيان عدة من زالت عصمتها من رجل بوفاة {[11019]}أو طلاق ، أو ما كتب وفرض من العدة{[11020]} { أجله } أي أخر مدته التي ضربها للعدة .
ولما أباح سبحانه وتعالى التعريض وحظر عزم العقدة{[11021]} وغلظ الأمر بتعليقه بالكتاب و{[11022]}بقي بين{[11023]} الطرفين أمور{[11024]} كانت الشهوة في مثلها غالبة والهوى مميلاً غلظ سبحانه وتعالى الزواجر لتقاوم{[11025]} تلك الدواعي فتولى تلك الأمور تهديد قوله تعالى : { واعلموا } أي أيها الراغبون في شيء من{[11026]} ذلك { أن الله } وله جميع الكمال { يعلم ما في أنفسكم } كله { فاحذروه } و{[11027]} {[11028]}لا تعزموا على شر{[11029]} فإنه يلزم من إحاطة العلم إحاطة القدرة .
ولما هددهم بعلمه وكان ذلك النهاية في التهديد وكان كل أحد يعلم من نفسه في{[11030]} النقائص ما يجل عن الوصف أخبرهم بما أوجب الإمهال على ذلك من منه بغفرانه وحلمه حثاً على التوبة وإقامة بين الرجاء والهيبة فقال{[11031]} : { واعلموا أن الله } أي كما اقتضى جلاله العقوبة اقتضى جماله العفو فهو لذلك { غفور } أي ستور لذنوب الخطائين إن تابوا { حليم * } لا يعاجل أحد العقوبة فبادروا بالتوبة رجاء غفرانه ولا تغتروا بإمهاله{[11032]}فإن غضب الحليم لكونه بعد طول الأناة لا يطاق ، ويجوز أن يكون التقدير : {[11033]}ولا{[11034]} تصرحوا للنساء المعتدات بعقدة{[11035]} النكاح في عدة{[11036]} من العدد ؛ والسر في تفاوتها أن عدة الوفاة طولت مراعاة للورثة إلى حد هو أقصى {[11037]}دال على{[11038]} براءة الرحم ، لأن الماء يكون فيه أربعين يوماً نطفة ومثلها علقة ومثلها مضغة ثم{[11039]} ينفخ فيه الروح فتلك أربعة أشهر ، وقد تنقص الأشهر أربعة أيام فزيدت عليها وجبرت بما أتم أقرب العقود إليها ؛ وفي صحيح مسلم رضي الله تعالى عنه تقدير المدة الأولى " باثنين وأربعين يوماً{[11040]} " وفي رواية : " خمس وأربعين " وفي رواية : " بضع وأربعين " فإذا حمل البضع على ست وزيد ما قد تنقصه الأشهر صارت أربعة أشهر وعشراً{[11041]} ؛ ولم تزد على ذلك مراعاة للمرأة لما قيل : إنه يقل صبر النساء بعد ذلك ، واقتصر في الاستبراء على قرء{[11042]} وهو أقل دال على براءة الرحم لأن السيد يكون مخالطاً للأمة غالباً فيشق الصبر ، وثلثت عدة الحرة جرياً على سنة الشارع في الاستظهار بالتثليث مع زوال علة{[11043]} الإسراع من المخالطة ، ولأن أكثر الطلاق رجعي فربما كان عن غيظ فمدت ليزول فيتروى ، وكانت عدة الأمة من الطلاق بين الاستبراء وعدة الحرة لما تنازعها من حق السيد المقتضي{[11044]} للقصر وحق الزوج المقتضي{[11045]} للطول مع عدم إمكان التنصيف{[11046]} - والله سبحانه وتعالى أعلم .