الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا عَرَّضۡتُم بِهِۦ مِنۡ خِطۡبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوۡ أَكۡنَنتُمۡ فِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ سَتَذۡكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّآ أَن تَقُولُواْ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗاۚ وَلَا تَعۡزِمُواْ عُقۡدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡكِتَٰبُ أَجَلَهُۥۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (235)

{ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ } هو أن يقول لها : إنك لجميلة أو صالحة أو نافقة ومن غرضي أن أتزوّج ، وعسى الله أن ييسر لي امرأة صالحة ، ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه ، ولا يصرح بالنكاح ، فلا يقول : إني أريد أن أنكحك ، أو أتزوجك ، أو أخطبك . وروى ابن المبارك عن عبد الله بن سليمان عن خالته قالت : دخل عليَّ أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدتي فقال : قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدّي عليّ وقدمي في الإسلام ، فقلت : غفر الله لكا ! أتخطبني في عدّتي وأنت يؤخذ عنك ؟ فقال : أوقد فعلتا ! إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي ، قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها ، فلم يزل يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها ، فما كانت تلك خطبة .

فإن قلت : أي فرق بين الكناية والتعريض ؟ قلت : الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له ، كقولك : طويل النجاد والحمائل لطول القامة وكثير الرماد للمضياف . والتعريض : أن تذكر شيئاً تدل به على شيء لم تذكره ، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلم عليك ، ولأنظر إلى وجهك الكريم . ولذلك قالوا :

وَحَسْبُكَ بِالتَّسلِيمِ مِنِّي تَقَاضِيَا ***

وكأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض ويسمى التلويح لأنه يلوح منه ما يريده { أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ } أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرّضين ولا مصرحين { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } لا محالة ولا تنفكون عن النطق برغبتكم فيهنّ ولا تصبرون عنه ، وفيه طرف من التوبيخ كقوله : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 187 ] .

فإن قلت : أين المستدرك بقوله : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ } ؟ قلت : هو محذوف لدلالة ستذكرونهنّ عليه ، تقديره : علم الله أنكم ستذكرونهنّ فاذكروهنّ ، ولكن لا تواعدوهنّ سرًا . والسر وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء ، لأنه مما يسرّ . قال الأعشى :

وَلاَ تَقْرَبَنْ مِنْ جَارَةٍ إنَّ سِرَّهَا *** عَلَيْكَ حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أوْ تَأَبَّدَا

ثم عبر به عن النكاح الذي هو العقد لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } وهو أن تعرّضوا ولا تصرحوا .

فإن قلت : بم يتعلق حرف الاستثناء ؟ قلت : بلا تواعدوهنّ ، أي لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة . أي لا تواعدوهنّ إلا بأن تقولوا ، أي لا تواعدوهنّ إلا بالتعريض . ولا يجوز أن يكون استثناءً منقطعاً من { سِرًّا } لأدائه إلى قولك لا تواعدوهنّ إلا التعريض . وقيل معناه : لا تواعدوهن جماعاً ، وهو أن يقول لها إن نكحتك كان كيت وكيت ، يريد ما يجري بينهما تحت اللحاف . إلا أن تقولوا قولاً معروفاً يعني من غير رفث ولا إفحاش في الكلام . وقيل : لا تواعدوهن سراً : أي في السر على أنّ المواعدة في السرّ عبارة عن المواعدة بما يستهجن ، لأن مسارّتهنّ في الغالب بما يستحيا من المجاهرة به . وعن ابن عباس رضي الله عنهما { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } : هو أن يتواثقا أن لا تتزوّج غيره { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح } من عزم الأمر وعزم عليه ، وذكر العزم مبالغة في النهي عن عقدة النكاح في العدّة . لأن العزم على الفعل يتقدّمه ، فإذا نهي عنه كان عن الفعل أنهى ومعناه : ولا تعزموا عقد عُقدة النكاح . وقيل : معناه ولا تقطعوا عقدة النكاح : وحقيقة العزم : القطع ، بدليل قوله عليه السلام .

" لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل " وروي «لمن لم يبيت الصيام » { حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } يعني ما كتب وما فرض من العدّة { يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ } من العزم على ما لا يجوز { فاحذروه } ولا تعزموا عليه . { غَفُورٌ حَلِيمٌ } لا يعاجلكم بالعقوبة .