معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (110)

قوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } . قال عكرمة ومقاتل : نزلت في ابن مسعود وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وسالم مولى أبي حذيفة ، رضي الله عنهم ، وذلك أن مالك بن الصيف ، ووهب بن يهود اليهوديين قالا لهم : نحن أفضل منكم ، وديننا خير مما تدعوننا إليه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما { كنتم خير أمة أخرجت للناس } هم الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وقال جويبر عن الضحاك : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة الرواة والدعاة ، الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال { كنتم خير امة أخرجت للناس } تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا .

أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي ، أنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنا أبو القاسم البغوي ، أنا علي بن الجعد ، أخبرنا شعبة عن ابي حمزة قال : سمعت زهدم بن مضرب عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خيركم قرني ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم . قال عمران : لا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً ، ثم إن بعدكم قوماً يخونون ولا يؤتمنون ، ويشهدون ولا يستشهدون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السمن " .

وبهذا الإسناد عن علي بن الجعد أخبرنا شعبة وأبو معاوية عن الأعمش ، عن ذكوان عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تسبوا أصحابي ، فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " .

وقال الآخرون : جميع المؤمنين من هذه الأمة وقوله { كنتم } أي أنتم ، كقوله تعالى( واذكروا إذ كنتم قليلاً ) وقال في موضع آخر ( واذكروا إذ أنتم قليل ) وقيل : معناه كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ ، وقال قوم : قوله ( للناس ) صلة قوله خير أمة ، أي انتم خير أمة للناس . قال أبو هريرة : معناه كنتم خير الناس للناس ، تجيئون بهم في السلاسل فتدخلونهم في الإسلام ، قال قتادة : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يؤمر نبي بعده بالقتال ، فهم يقاتلون الكفار فيدخلونهم في دينهم فهم خيرأمة للناس ، وقيل : قوله " للناس " صلة قوله " أخرجت " معناه ما أخرج الله للناس أمة خيراً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو عبد الله الحسين ابن محمد الحافظ ، أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد بن حبيش المقرىء ، أنا علي بن زنجويه ، أخبرنا سلمة بن شبيب ، أنا عبد الرزاق أنا معمر عن بهز ابن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } قال : إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل .

أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي ، أنا أبو معشر بن إبراهيم بن محمد الفيركي ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن زكريا بن يحيى ، أخبرنا أبو الصلت ، أخبرنا حماد بن زيد ، أخبرنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي خيرها ، وأكرمها على الله عز وجل " .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد ، أنا الفضل بن الفضيل ، أخبرنا خليفة الفضل بن الجباب ، قال عبد الرحمن ، يعني ابن المبارك : أخبرنا حماد بن يحيى الأشج ، أنا ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره " .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو محمد المخلدي ، أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي ، أخبرنا أحمد بن عيسى التنيسي ، أخبرنا عمرو بن أبي سلمة ، أخبرنا صدقة بن عبد الله ، عن زهير بن محمد ، عن عبد الله بن عقيل ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها ، وحرمت على الأمم كلهم حتى تدخلها أمتي " .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي قال : أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد ، أخبرنا أبو القاسم عمر بن محمد بن عبد الله بن حاتم الترمذي أخبرنا جدي لأبي محمد بن عبد الله بن مرزوق أنا عفان بن مسلم أنا عبد العزيز ابن مسلم أخبرنا أبو سنان يعني ضرار بن مرة عن محارب بن دثار عن عبد الله ابن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أهل الجنة عشرون ومائة صف ، ثمانون من هذه الأمة " .

قوله تعالى : { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } . أي : الكافرون .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (110)

{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ * لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }

يمدح تعالى هذه الأمة ويخبر أنها خير الأمم التي أخرجها الله للناس ، وذلك بتكميلهم لأنفسهم بالإيمان المستلزم للقيام بكل ما أمر الله به ، وبتكميلهم لغيرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتضمن دعوة الخلق إلى الله وجهادهم على ذلك وبذل المستطاع في ردهم عن ضلالهم وغيهم وعصيانهم ، فبهذا كانوا خير أمة أخرجت للناس ، لما كانت الآية السابقة وهي قوله : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } أمرا منه تعالى لهذه الأمة ، والأمر قد يمتثله المأمور ويقوم به ، وقد لا يقوم به ، أخبر في هذه الآية أن الأمة قد قامت بما أمرها الله بالقيام به ، وامتثلت أمر ربها واستحقت الفضل على سائر الأمم { ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم } وفي هذا من دعوته بلطف الخطاب ما يدعوهم إلى الإيمان ، ولكن لم يؤمن منهم إلا قليل ، وأكثرهم الفاسقون الخارجون عن طاعة الله المعادون لأولياء الله بأنواع العداوة ،

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (110)

93

بعدئذ يصف الأمة المسلمة لنفسها ! ليعرفها مكانها وقيمتها وحقيقتها ؛ ثم يصف لها أهل الكتاب - ولا يبخسهم قدرهم ، إنما يبين حقيقتهم ويطمعهم في ثواب الإيمان وخيره - ويطمئن المسلمين من جانب عدوهم . فهم لن يضروهم في كيدهم لهم وقتالهم ، ولن ينصروا عليهم . وللذين كفروا منهم عذاب النار في الآخرة ، لا ينفعهم فيه ما أنفقوا في الحياة الدنيا بلا إيمان ولا تقوى :

( كنتم خير أمة أخرجت للناس . تأمرون بالمعروف ، وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون بالله . ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم . منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون . لن يضروكم إلا أذى ، وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون . ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا - إلا بحبل من الله وحبل من الناس - وباؤوا بغضب من الله ، وضربت عليهم المسكنة . ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون الأنبياء بغير حق . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . ليسوا سواء . من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون . يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات ، وأولئك من الصالحين . وما يفعلوا من خير فلن يكفروه ، والله عليم بالمتقين . إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر ، أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته . وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون . . )

إن شطر الآية الأولى في هذه المجموعة يضع على كاهل الجماعة المسلمة في الأرض واجبا ثقيلا ، بقدر ما يكرم هذه الجماعة ويرفع مقامها ، ويفردها بمكان خاص لا تبلغ إليه جماعة أخرى :

( كنتم خير أمة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون بالله . )

إن التعبير بكلمة " أخرجت " المبني لغير الفاعل ، تعبير يلفت النظر . وهو يكاد يشي باليد المدبرة اللطيفة ، تخرج هذه الأمة إخراجا ؛ وتدفعها إلى الظهور دفعا من ظلمات الغيب ، ومن وراء الستار السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله . . إنها كلمة تصور حركة خفية المسرى ، لطيفة الدبيب . حركة تخرج على مسرح الوجود أمة . أمة ذات دور خاص . لها مقام خاص ، ولها حساب خاص :

( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) . .

وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة ؛ لتعرف حقيقتها وقيمتها ، وتعرف أنها أخرجت لتكون طليعة ، ولتكون لها القيادة ، بما أنها هي خير أمة . والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض . ومن ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية . إنما ينبغي دائما أن تعطي هذه الأمم مما لديها . وأن يكون لديها دائما ما تعطيه . ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح ، والتصور الصحيح ، والنظام الصحيح ، والخلق الصحيح ، والمعرفة الصحيحة ، والعلم الصحيح . . هذا واجبها الذي يحتمه عليها مكانها ، وتحتمه عليها غاية وجودها . واجبها أن تكون في الطليعة دائما ، وفي مركز القيادة دائما . ولهذا المركز تبعاته ، فهو لا يؤخذ ادعاء ، ولا يسلم لها به إلا أن تكون هي أهلا له . . وهي بتصورها الاعتقادي ، وبنظامها الاجتماعي أهل له . فيبقى عليها أن تكون بتقدمها العلمي ، وبعمارتها للأرض - قياما بحق الخلافة - أهلا له كذلك . . ومن هذا يتبين أن المنهج الذي تقوم عليه هذه الأمة يطالبها بالشيء الكثير ؛ ويدفعها إلى السبق في كل مجال . . لو أنها تتبعه وتلتزم به ، وتدرك مقتضياته وتكاليفه .

وفي أول مقتضيات هذا المكان ، أن تقوم على صيانة الحياة من الشر والفساد . . وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فهي خير أمة أخرجت للناس . لا عن مجاملة أو محاباة ، ولا عن مصادفة أو جزاف - تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا - وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) . . كلا ! إنما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر ، وإقامتها على المعروف ، مع الإيمان الذي يحدد المعروف والمنكر :

( تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) . .

فهو النهوض بتكاليف الأمة الخيرة ، بكل ما وراء هذه التكاليف من متاعب ، وبكل ما في طريقها من أشواك . . إنه التعرض للشر والتحريض على الخير وصيانة المجتمع من عوامل الفساد . . وكل هذا متعب شاق ، ولكنه كذلك ضروري لإقامة المجتمع الصالح وصيانته ؛ ولتحقيق الصورة التي يحب الله أن تكون عليها الحياة . .

ولا بد من الإيمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم ، والتعريف الصحيح للمعروف والمنكر . فإن اصطلاح الجماعة وحده لا يكفي . فقد يعم الفساد حتى تضطرب الموازين وتختل . ولا بد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير وللشر ، وللفضيلة والرذيلة ، وللمعروف والمنكر . يستند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال .

وهذا ما يحققه الإيمان ، بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه . وللإنسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون . . ومن هذا التصور العام تنبثق القواعد الأخلاقية . ومن الباعث على إرضاء الله وتوقي غضبه يندفع الناس لتحقيق هذه القواعد . ومن سلطان الله في الضمائر ، وسلطان شريعته في المجتمع تقوم الحراسة على هذه القواعد كذلك .

ثم لا بد من الإيمان أيضا ليملك الدعاة إلى الخير ، الآمرون بالمعروف ، الناهون عن المنكر ، أن يمضوا في هذا الطريق الشاق ، ويحتملوا تكاليفه . وهم يواجهون طاغوت الشر في عنفوانه وجبروته ، ويواجهون طاغوت الشهوة في عرامتها وشدتها ، ويواجهون هبوط الأرواح ، وكلل العزائم ، وثقلة المطامع . . وزادهم هو الإيمان ، وعدتهم هي الإيمان . وسندهم هو الله . . وكل زاد سوى زاد الإيمان ينفد . وكل عدة سوى عدة الإيمان تفل ، وكل سند غير سند الله ينهار !

وقد سبق في السياق الأمر التكليفي للجماعة المسلمة أن ينتدب من بينها من يقومون بالدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أما هنا فقد وصفها الله سبحانه بأن هذه صفتها . ليدلها على أنها لا توجد وجودا حقيقيا إلا أن تتوافر فيها هذه السمة الأساسية ، التي تعرف بها في المجتمع الإنساني . فإما أن تقوم بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - مع الإيمان بالله - فهي موجودة وهي مسلمة . وأما أن لا تقوم بشيء من هذا فهي غير موجودة ، وغير متحققة فيها صفة الإسلام .

وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة تقرر هذه الحقيقة ، ندعها لمواضعها . وفي السنة كذلك طائفة صالحة من أوامر الرسول [ ص ] وتوجيهاته نقتطف بعضها :

عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله [ ص ] يقول : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان "

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] " لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم ، فلم ينتهوا ، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم ، فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وسليمان وعيسى بن مريم . . " ثم جلس - وكان متكئا - فقال : " لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا " أي تعطفوهم وتردوهم .

وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم " .

وعن عرس ابن عميرة الكندي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها " .

وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " . .

وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " سيد الشهداء حمزة . ورجل قام إلى سلطان جائر ، فأمره ونهاه ، فقتله " . .

وغيرها كثير . . وكلها تقرر أصالة هذه السمة في المجتمع المسلم ، وضروراتها لهذا المجتمع أيضا . وهي تحتوي مادة توجيه وتربية منهجية ضخمة . وهي إلى جانب النصوص القرآنية زاد نحن غافلون عن قيمته وعن حقيقته .

ثم نعود إلى الشطر الآخر من الآية الأولى في هذه المجموعة . .

( ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم . منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) . .

وهو ترغيب لأهل الكتاب في الإيمان . فهو خير لهم . خير لهم في هذه الدنيا ، يستعصمون به من الفرقة والهلهلة التي كانوا عليها في تصوراتهم الاعتقادية ، والتي ما تزال تحرمهم تجمع الشخصية . إذ تعجز هذه التصورات عن أن تكون قاعدة للنظام الاجتماعي لحياتهم ، فتقوم أنظمتهم الاجتماعية - من ثم - على غير أساس ، عرجاء أو معلقة في الهواء ككل نظام اجتماعي لا يقوم على أساس اعتقادي شامل ، وعلى تفسير كامل للوجود ، ولغاية الوجود الإنساني ، ومقام الإنسان في هذا الكون . . وخير لهم في الآخرة يقيهم ما ينتظر غير المؤمنين من مصير .

ثم هو بيان كذلك لحالهم ، لا يبخس الصالحين منهم حقهم :

( منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) . .

وقد آمن من أهل الكتاب جماعة وحسن إسلامهم . منهم عبد الله بن سلام ، وأسد بن عبيد ، وثعلبة بن شعبة ، وكعب بن مالك . . وإلى هؤلاء تشير الآية هنا بالإجمال - وفي آية تالية بالتفصيل - أما الأكثرون فقد فسقوا عن دين الله ، حين لم يفوا بميثاق الله مع النبيين : أن يؤمن كل منهم بأخيه الذي يجيء بعده ، وأن ينصره . وفسقوا عن دين الله وهم يأبون الاستسلام لإرادته في إرسال آخر الرسل من غير بني إسرائيل ، واتباع هذا الرسول وطاعته ولاحتكام إلى آخر شريعة من عند الله ، أرادها للناس أجمعين .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (110)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }

اختلف أهل التأويل في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرا أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } فقال بعضهم : هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من مكة إلى المدينة ، وخاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال في : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : هم الذين خرجوا معه من مكة .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، عن قيس ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ تَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكِرِ } قال عمر بن الخطاب : لو شاء الله لقال «أنتم » ، فكنا كلنا ، ولكن قال : { كُنْتُمْ } في خاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن صنع مثل صنيعهم ، كانوا خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قال عكرمة : نزلت في ابن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، عن إسرائيل ، عن السديّ ، عمن حدثه ، قال عمر : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : تكون لأوّلنا ، ولا تكون لاَخرنا .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سماك بن حرب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : هم الذين هاجروا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في حجة حجها : ورأى من الناس رِعَة سيئة ، فقرأ هذه : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } . . . الاَية ، ثم قال : يا أيها الناس ، من سره أن يكون من تلك الأمة ، فليؤدّ شرط الله منها .

حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، يعني وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم .

وقال آخرون : معنى ذلك : كنتم خير أمة أخرجت للناس ، إذ كنتم بهذه الشروط التي وصفهم جلّ ثناؤه بها . فكان تأويل ذلك عندهم : كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف ، وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون بالله أُخرِجوا للناس في زمانكم . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } يقول : على هذا الشرط أن تأمروا بالمعروف ، وتنهوا عن المنكر ، وتؤمنوا بالله ، يقول : لمن أنتم بين ظهرانيه ، كقوله : { وَلَقَدْ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلى العالَمِينَ } .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : يقول : كنتم خير الناس للناس ، على هذا الشرط ، أن تأمروا بالمعروف ، وتنهوا عن المنكر ، وتؤمنوا بالله ، يقول لمن بين ظهريه كقوله : { وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلى العالَمِينَ } .

وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ميسرة ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : كنتم خير الناس للناس ، تجيئون بهم في السلاسل ، تدخلونهم في الإسلام .

حدثنا عبيد بن أسباط ، قال : حدثنا أبي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : خير الناس للناس .

وقال آخرون : إنما قيل : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } لأنهم أكثر الأمم استجابة للإسلام . ذكر من قال ذلك :

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ تَأمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ } قال : لم تكن أمة أكثر استجابة في الإسلام من هذه الأمة ، فمن ثم قال : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } .

وقال بعضهم : عنى بذلك أنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ تَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ } قال : قد كان ما تسمع من الخير في هذه الأمة :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعد عن قتادة قال : كان الحسن يقول : نحن آخرها وأكرمها على الله .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية ما قال الحسن ، وذلك أن :

يعقوب بن إبراهيم حدثني قال : حدثنا ابن علية ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ألا إنّكُمْ وَفّيْتُمْ سَبْعِينَ أُمّةً أنْتُمْ آخِرُها وأكْرَمُها على اللّهِ » .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : «أنْتُمْ تُتِمّونَ سَبْعِينَ أُمّةً أنْتُمْ خَيْرُها وأكْرَمُها على اللّهِ » .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم ، وهو مسند ظهره إلى الكعبة : «نَحْنُ نُكَمّلُ يَوْمَ القِيامَةِ سَبْعينَ أُمّةً نَحْنُ آخرُها وخَيْرُها » .

وأما قوله : { تَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ } فإنه يعني : تأمرون بالإيمان بالله ورسوله ، والعمل بشرائعه ، { وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَر } يعني : وتنهون عن الشرك بالله ، وتكذيب رسوله ، وعن العمل بما نهى عنه . كما :

حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } يقول : تأمرونهم بالمعروف أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما أنزل الله ، وتقاتلونهم عليه ، ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف ، وتنهونهم عن المنكر والمنكر : هو التكذيب ، وهو أنكر المنكر .

وأصل المعروف : كل ما كان معروفا ففعله جميل مستحسن غير مستقبح في أهل الإيمان بالله . وإنما سميت طاعة الله معروفا ، لأنه مما يعرفه أهل الإيمان ولا يستنكرون فعله . وأصل المنكر ما أنكره الله ، ورأوه قبيحا فعله ، ولذلك سميت معصية الله منكرا ، لأن أهل الإيمان بالله يستنكرون فعلها ، ويستعظمون ركوبها . وقوله : { وَتؤْمِنُونَ باللّهِ } يعني : تصدّقون بالله ، فتخلصون له التوحيد والعبادة .

فإن سأل سائل فقال : وكيف قيل : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ } وقد زعمت أن تأويل الاَية أن هذه الأمة خير الأمم التي مضت ، وإنما يقال : كنتم خير أمة ، لقوم كانوا خيارا فتغيروا عما كانوا عليه ؟ قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت إليه ، وإنما معناه : أنتم خير أمة ، كما قيل : { وَاذْكُرُوا إذْ أنْتُمْ قَلِيلٌ } وقد قال في موضع آخر : { وَاذْكُرُوا إذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثّرَكُمْ } فإدخال «كان » في مثل هذا وإسقاطها بمعنى واحد ، لأن الكلام معروف معناه . ولو قال أيضا في ذلك قائل : كنتم بمعنى التمام ، كان تأويله : خلقتم خير أمة ، أو وجدتم خير أمة ، كان معنى صحيحا ، وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى ذلك : كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ أخرجت للناس ، والقولان الأوّلان اللذان قلنا ، أشبه بمعنى الخبر الذي رويناه قبل .

وقال آخرون معنى ذلك : كنتم خير أهل طريقة ، وقال : الأمة : الطريقة .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتابِ لَكانَ خَيْرا لَهْمُ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وأكْثَرُهُم الفاسِقونَ } .

يعني بذلك تعالى ذكره : ولو صدّق أهل التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاءهم به من عند الله ، لكان خيرا لهم عند الله في عاجل دنياهم ، وآجل آخرتهم . { مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ } يعني من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، المؤمنون المصدّقون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به من عند الله ، وهم عبد الله بن سلام ، وأخوه ، وثعلبة بن سَعْيَة وأخوه ، وأشباههم ممن آمنوا بالله ، وصدّقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، واتبعوا ما جاءهم به من عند الله . { وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ } يعني : الخارجون عن دينهم ، وذلك أن من دين اليهود اتباع ما في التوراة ، والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومن دين النصارى اتباع ما في الإنجيل ، والتصديق به وبما في التوراة ، وفي كلا الكتابين صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ، ومبعثه ، وأنه نبيّ الله ، وكلتا الفرقتين ، أعني اليهود والنصارى مكذبة ، فذلك فسقهم وخروجهم عن دينهم الذي يدّعون أنهم يدينون به الذي قال جلّ ثناؤه { وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ } . وقال قتادة بما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مِنْهُمُ المُؤمِنونَ وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ } : ذمّ الله أكثر الناس .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (110)

{ كنتم خير أمة } دل على خيريتهم فيما مضى ولم يدل على انقطاع طرأ كقوله تعالى { إن الله كان غفورا رحيما } وقيل كنتم في علم الله أو في اللوح المحفوظ ، أو فيما بين الأمم المتقدمين . { أخرجت للناس } أي أظهرت لهم . { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } استئناف بين به كونهم { خير أمة } ، أو خبر ثان لكنتم . { وتؤمنون بالله } يتضمن الإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به ، لأن الإيمان به إنما يحق ويعتد به إذا حصل الإيمان بكل ما أمر أن يؤمن به ، وإنما أخره وحقه أن يقدم لأنه قصد بذكره الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيمانا بالله وتصديقا به وإظهارا لدينه ، واستدل بهذه الآية على إن الإجماع حجة لأنها تقتضي كونهم آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر ، إذ اللام فيهما للاستغراق فلو أجمعوا على باطل كان أمرهم على خلاف ذلك . { ولو آمن أهل الكتاب } إيمانا كما ينبغي { لكان خيرا لهم } لكان الإيمان خيرا لهم مما هم عليه . { منهم المؤمنون } كعبد الله بن سلام وأصحابه . { وأكثرهم الفاسقون } المتمردون في الكفر ، وهذه الجملة والتي بعدها واردتان على سبيل الاستطراد .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (110)

{ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله }

يتنزّل هذا منزلة التَّعليل لأمرهم بالدّعوة إلى الخير ، وما بعده فإن قوله { تأمرون بالمعروف } حال من ضمير كنتم ، فهو موذن بتعليل كونهم خيرَ أمَّة فيترتب عليه أنّ ما كان فيه خيريتهم يجدر أن يفرض عليهم ، إن لم يكن مفروضاً من قبل ، وأن يؤكد عليهم فرضه ، إن كان قد فرض عليهم من قبل .

والخطاب في قوله { كنتم } إمَّا لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ونقل ذلك عن عمر بن الخطاب ، وابن عبَّاس . قال عمر : هذه لأوّلنَا ولا تكون لآخِرنا . وإضافة خير إلى أمّة من إضافة الصفة إلى الموصوف : أي كنتم أمَّة خير أمَّة أخرجت للنَّاس ، فالمراد بالأمّة الجماعة ، وأهل العصر النبوي ، مثل القَرن ، وهو إطلاق مشهور ومنه قوله تعالى : { وادّكَر بعد أمَّة } [ يوسف : 45 ] أي بعد مدة طويلة كمدة عصر كامل . ولا شكّ أن الصحابة كانوا أفضل القرون التي ظهرت في العالم ، لأن رسولهم أفضل الرسل ، ولأن الهدى الذي كانوا عليه لا يماثله هدى أصحاب الرسل الذين مضوا ، فإن أخذت الأمة باعتبار الرسول فيها فالصحابة أفضل أمة من الأمم مع رسولها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم « خير القرون قرني » والفضل ثابت للجموع على المجموع ، وإن أخذت الأمة من عدا الرسول ، فكذلك الصحابة أفضل الأمم التي مضت بدون رُسلها ، وهذا تفضيل للهدى الذي اهتدوا به ، وهو هدى رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته .

وإمّا أن يكون الخطاب بضمير { كنتم } للمسلمين كلّهم في كلّ جيل ظهروا فيه ، ومعنى تفضيلهم بالأمر بالمعروف مع كونه من فروض الكفايات لا تقوم به جميع أفراد الأمّة لا يخلو مسلم من القيام بما يستطيع القيام به من هذا الأمر ، على حسب مبلغ العلم ومنتهى القدرة ، فمن التغيير على الأهل والولد ، إلى التغيير على جميع أهل البلد ، أو لأن وجود طوائف القائمين بهذا الأمر في مجموع الأمّة أوجب فضيلة لجميع الأمّة ، لكون هذه الطوائف منها كما كانت القبيلة تفتخر بمحامد طوائقها ، وفي هذا ضمان من الله تعالى بأنّ ذلك لا ينقطع من المسلمين إن شاء الله تعالى .

وفعل ( كان ) يدل على وجود ما يسند إليه في زمن مضى ، دون دلالة على استمرار ، ولا على انقطاع ، قال تعالى { وكان الله غفوراً رحيماً } [ النساء : 96 ] أي وما زال ، فمعنى { كنتم خير أمة } وجدتم على حالة الأخيرية على جميع الأمم ، أي حصلت لكم هذه الأخيرية بحصول أسبابها ووسائلها ، لأنّهم اتّصفوا بالإيمان ، والدّعوة للإسلام ، وإقامته على وجهه ، والذبّ عنه النقصانَ والإضاعة لتحقّق أنّهم لمّا جُعل ذلك من واجبهم ، وقد قام كُلّ بما استطاع ، فقد تحقّق منهم القيام به ، أو قد ظهر منهم العزم على امتثاله ، كُلّما سنح سانح يقتضيه ، فقد تحقّق أنهم خير أمَّة على الإجمال فأخبر عنهم بذلك .

هذا إذا بنَينا على كون الأمر في قوله آنفاً { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } [ آل عمران : 104 ] وما بعده من النهي في قوله { ولا تكونوا كالذين تفرقوا } [ آل عمران : 105 ] الآية ، لم يكن حاصلاً عندهم من قبل .

ويجوز أن يكون المعنى : { كنتم خير أمة } موصوفين بتلك الصّفات فيما مضى تفعلونها إمَّا من تلقاء أنفسكم ، حرصاً على إقامة الدّين واستحساناً وتوفيقاً من الله في مصادفتكم لمرضاته ومراده ، وإمّا بوجوب سابق حاصل من آيات أخرى مثل قوله : { وتواصوا بالحق } [ العصر : 3 ] وحينئذٍ فلمَّا أمرهم بذلك على سبيل الجزم ، أثنى عليهم بأنَّهم لم يكونوا تاركيه من قبل ، وهذا إذا بنَينا على أنّ الأمر في قوله { ولتكن منكم أمة } [ آل عمران : 104 ] تأكيداً لما كانوا يفعلونه ، وإعلام بأنَّه واجب ، أو بتأكيد وجوبه على الوجوه التي قدّمتها عند قوله { ولتكن منكم أمة } .

ومن الحيرة التجاء جمع من المفسرين إلى جعل الإخبار عن المخاطبين بكونهم فيما مضى من الزمان أمة بمعنى كونهم كذلك في علم الله تعالى وقَدَره أو ثبوت هذا الكون في اللوح المحفوظ أو جعل كان بمعنى صار .

والمراد بأمَّة عمومُ الأمم كلّها على ما هو المعروف في إضافة أفعل التفضيل إلى النكرة أن تكون للجنس فتفيد الاستغراق .

وقوله { أخرجت للناس } الإخراج مجاز في الإيجاد والإظهار كقوله تعالء { فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار } [ طه : 88 ] أي أظهر بصوغه عجلاً جسداً .

والمعنى : كنتم خير الأمم التي وجدت في عالم الدنيا . وفاعل { أخرجت } معلوم وهو الله موجد الأمم ، والسائق إليها ما به تفاضلها . والمراد بالناس جميع البشر من أوّل الخليقة .

وجملة : { تأمرون بالمعروف } حال في معنى التَّعليل إذ مدلولها ليس من الكيفيات المحسوسة حتّى تحكى الخيرية في حال مقارنتها لها ، بل هي من الأعمال النَّفسية الصالحة للتعليل لا للتوصيف ، ويجوز أن يكون استئنافاً لبيان كونهم خير أمَّة . والمعروف والمنكر تقدّم بيانهما قريباً .

وإنّما قدّم { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } على قوله { وتؤمنون بالله } لأنهما الأهم في هذا المقام المسوق للتنويه بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحاصلة من قوله تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } [ آل عمران : 104 ] والاهتمام الذي هو سبب التقديم يختلف باختلاف مقامات الكلام ولا ينظر فيه إلى ما في نفس الأمر لأنّ إيمانهم ثابت محقّق من قبل .

وإنَّما ذكر الإيمان بالله في عداد الأحوال التي استحقوا بها التفضيل على الأمم ، لأنّ لكلّ من تلك الأحوال الموجبة للأفضلية أثراً في التفَّضيل على بعض الفرق ، فالإيمان قصد به التفضيل على المشركين الذين كانوا يفتخرون بأنهم أهل حرم الله وسدنة بيته وقد ردّ الله ذلك صريحاً في قوله : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله } [ التوبة : 19 ] وذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قصد به التفضيل على أهل الكتاب ، الذين أضاعوا ذلك بينهم ، وقد قال تعالى فيهم { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } [ المائدة : 79 ] .

فإن قلت إذا كان وجه التفضيل على الأمم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله ، فقد شاركنا في هذه الفضيلة بعض الجماعات من صالحي الأمم الذين قبلنا ، لأنَّهم آمنوا بالله على حسب شرائعهم ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، لتعذّر أن يترك الأمم بالمعروف لأنّ الغيرة على الدين أمر مرتكز في نفوس الصادقين من أتباعه . قلت : لم يثبت أن صالحي الأمم كانوا يلتزمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إمّا لأنه لم يكن واجباً عليهم ، أو لأنَّهم كانوا يتوسعّون في حل التقية ، وهذا هارون في زمن موسى عبدت بنو إسرائيل العجل بمرآى منه ومسمع فلم يغيّر عليهم ، وقد حكى الله محاورة موسى معه بقوله { قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري قال يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي } [ طه : 92 94 ] وأما قوله تعالى { من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } [ آل عمران : 113 ، 114 ] الآية فتلك فئة قليلة من أهل الكتاب هم الذين دخلوا في الإسلام مثل عبد الله بن سلام ، وقد كانوا فئة قليلة بين قومهم فلم يكونوا جمهرة الأمّة .

وقد شاع عند العلماء الاستدلال بهذه الآية على حجيّة الإجماع وعصمته من الخطأ بناء على أن التعريف في المعروف والمنكر للاستغراق ، فإذا أجمعت الأمَّة على حكم ، لم يجز أن يكون ما أجمعوا عليه منكراً ، وتعيّن أن يكون معروفاً ، لأنّ الطائفة المأمورة بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر في ضمنهم ، ولا يجوز سكوتها عن منكر يقع ، ولا عن معروف يترك ، وهذا الاستدلال إن كان على حجية الإجماع بمعنى الشرع المتواتر المعلوم من الدين بالضرورة فهو استدلال صحيح لأن المعروف والمنكر في هذا النوع بديهي ضروري ، وإن كان استدلالاً على حجية الإجماعات المنعقدة عن اجتهاد ، وهو الذي يقصده المستدلون بالآية ، فاستدلالهم بها عليه سفسطائي لأنّ المنكر لا يعتبر منكراً إلاّ بعد إثبات حكمه شرعاً ، وطريق إثبات حكمه الإجماع ، فلو أجمعوا على منكر عند الله خطأ منهم لما كان منكراً حتَّى ينهي عنه طائفة منهم لأنّ اجتهادهم هو غاية وسعهم .

{ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } .

عطف على قوله { كنتم خير أمة أخرجت للناس } لأن ذلك التفضيل قد غمر أهل الكتاب من اليهود وغيرهم فنبّههم هذا العطف إلى إمكان تحصيلهم على هذا الفضل ، مع ما فيه من التعريض بهم بأنَّهم متردّدون في اتباع الإسلام ، فقد كان مخيريق متردّداً زماناً ثمّ أسلم ، وكذلك وفد نجران تردّدوا في أمر الإسلام .

وأهل الكتاب يشمل اليهود والنصارى ، لكن المقصود الأول هنا هم اليهود ، لأنَّهم كانوا مختلطين بالمسلمين في المدينة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام ، وقصد بيت مدراسهم ، ولأنهم قد أسلم منهم نفر قليل وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم " .

ولم يذكر متعلق ( آمن ) هنا لأنّ المراد لو اتَّصفوا بالإيمان الذي هو لقب لدين الإسلام وهو الذي منه أطلقت صلة الذين آمنوا على المسلمين فصار كالعلم بالغلبة ، وهذا كقولهم أسْلَم ، وَصَبَأ ، وأشْرَكَ ، وألْحَد ، دون ذكر متعلّقات لهاته الأفعال لأن المراد أنَّه اتَّصف بهذه الصّفات التي صارت أعلاماً على أديان معروفة ، فالفعل نُزّل منزلة اللازم ، وأظهر منه : تَهَوّد ، وتَنَصّر ، وتَزَنْدق ، وتَحَنَّف ، والقرينة على هذا المعنى ظاهرة وهي جعل إيمان أهل الكتاب في شرط الامتناع ، مع أنّ إيمانهم بالله معروف لا ينكره أحد . ووقع في « الكشاف » أنّ المراد : لو آمنوا الإيمان الكامل ، وهو تكلّف ظاهر ، وليس المقام مقامه . . وأجمل وجه كون الإيمان خيراً لهم لتذهب نفوسهم كلّ مذهب في الرجاء والإشفاق . ولمَّا أخبر عن أهْل الكتاب بامتناع الإيمان منهم بمقتضى جعل إيمانهم في حيز شرط ( لو ) الامتناعية ، تعيّن أن المراد من بقي بوصف أهل الكتاب ، وهو وصف لا يبقى وصفهم به بعد أن يتديّنوا بالإسلام ، وكان قد يتوهّم أن وصف أهل الكتاب يشمل من كان قبل ذلك منهم ولو دخل في الإسلام ، وجيء بالاحتراس بقوله : { منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } أي منهم من آمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم فصدق عليه لقب المؤمن ، مثل عبد الله بن سلام ، وكان اسمه حُصيناً وهو من بني قينقاع ، وأخيه ، وعمصته خالدة ، وسعية أو سنعة بن غريض بن عاديا التيماوي ، وهو ابن أخي السموأل بن عاديا ، وثعلبة بن سعية ، وأسد بن سعية القرظي ، وأسد بن عبيد القرظي ، ومخيريق مِن بني النضير أو من بني قينقاع ، ومثل أصْمحة النَّجاشي ، فإنَّه آمن بقلبه وعوّض عن إظهاره إعمالَ الإسلام نصره للمسلمين ، وحمايته لهم ببلده ، حتَّى ظهر دين الله ، فقبل الله منه ذلك ، ولذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه بأنَّه كان مؤمناً وصلّى عليه حين أوحي إليه بموته . ويحتمل أن يكون المعنى من أهل الكتاب فريق متقّ في دينه ، فهو قريب من الإيمان بمحمَّد صلى الله عليه وسلم وهؤلاء مثل من بقي متردّداً في الإيمان من دون أن يتعرّض لأذى المسلمين ، مثل النَّصارى من نجران ونصارى الحبشة ، ومثل مخيريق اليهودي قبل أن يسلم ، على الخلاف في إسلامه ، فإنَّه أوصى بماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد بإيمانهم صدق الإيمان بالله وبدينهم . وفريق منهم فاسق عن دينه ، محرّف له ، مناوٍ لأهل الخير ، كما قال تعالى : { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس } مثل الذين سَمُّوا الشاة لرسول الله يوم خيْبر ، والذين حاولوا أن يرموا عليه صخرة .