البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (110)

{ كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } قال عكرمة ومقاتل : نزلت في ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وسالم مولى أبي حذيفة ، ومعاذ بن جبل ، وقد قال لهم بعض اليهود : ديننا خير مما تدعوننا إليه ، ونحن خير وأفضل .

وقيل : نزلت في المهاجرين .

والذي يظهر أنها من تمام الخطاب الأول في قوله : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } وتوالت بعد هذا مخاطبات المؤمنين من أوامر ونواهٍ ، وكان قد استطرد من ذلك لذكر مَنْ يبيض وجهه ويسودّ ، وشيء من أحوالهم في الآخرة ، ثم عاد إلى الخطاب الأول فقال تعالى : كنتم خير أمّة تحريضاً بهذا الإخبار على الانقياد والطواعية .

والظاهر أنّ الخطاب هو لمن وقع الخطاب له أولاً وهم : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتكون الإشارة بقوله : أمة إلى أمةٍ معينة وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فالصحابة هم خيرها .

وقال الحسن ومجاهد وجماعة : الخطاب لجميع الأمة بأنهم خير الأمم ، ويؤيد هذا التأويل كونهم { شهداء على الناس } وقوله : « نحن الآخرون السابقون » الحديث وقوله : « نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرها »

وظاهر كان هنا أنها الناقصة ، وخير أمة هو الخبر .

ولا يراد بها هنا الدلالة على مضي الزمان وانقطاع النسبة نحو قولك : كان زيد قائماً ، بل المراد دوام النسبة كقوله : { وكان الله غفوراً رحيماً } { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } وكون كان تدل على الدوام ومرادفه لم يزل قولاً مرجوحاً ، بل الأصح أنها كسائر الأفعال تدل على الانقطاع ، ثم قد تستعمل حيث لا يراد الانقطاع .

وقيل : كان هنا بمعنى صار ، أيْ صرتم خير أمة .

وقيل : كان هنا تامة ، وخير أمة حال .

وأبعد من ذهب إلى أنّها زائدة ، لأن الزائدة لا تكون أول كلام ، ولا عمل لها .

وقال الزمخشري : كان عبارة عن وجود الشيء في من ماض على سبيل الإبهام ، وليس فيه دليل على عدم سابق ، ولا على انقطاع طارىء .

ومنه قوله تعالى : { وكان الله غفوراً } .

ومنه قوله : كنتم خير أمة ، كأنه قيل : وجدتم خير أمة انتهى كلامه .

فقوله : أنها لا تدل على عدم سابق هذا إذا لم تكن بمعنى صار ، فإذا كانت بمعنى صار دلت على عدم سابق .

فإذا قلت : كان زيد عالماً بمعنى صار ، دلت على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم .

وقوله : ولا على انقطاع طارىء قد ذكرنا قبل أن الصحيح أنها كسائر الأفعال يدل لفظ المضي منها على الانقطاع ، ثم قد تستعمل حيث لا يكون انقطاع .

وفرقٌ بين الدلالة والاستعمال ، ألا ترى أنك تقول : هذا اللفظ يدل على العموم ؟ ثم تستعمل حيث لا يراد العموم ، بل المراد الخصوص .

وقوله : كأنه قال وجدتم خير أمة ، هذا يعارض أنها مثل قوله : { وكان الله غفوراً رحيماً } لأن تقديره وجدتم خير أمة يدل على أنها تامة ، وأن خير أمة حال .

وقوله : وكان الله غفوراً لا شك أنها هنا الناقصة فتعارضا .

وقيل : المعنى : كنتم في علم الله .

وقيل : في اللوح المحفوظ .

وقيل : فيما أخبر به الأمم قديماً عنكم .

وقيل : هو على الحكاية ، وهو متصل بقوله : { ففي رحمة الله هم فيها خالدون } أي فيقال لهم في القيامة : كنتم في الدنيا خير أمة ، وهذا قول بعيد من سياق الكلام .

وخير مضاف للنكرة ، وهي أفعل تفضيل فيجب إفرادها وتذكيرها ، وإن كانت جارية على جمع .

والمعنى : أن الأمم إذا فضلوا أمة أمة كانت هذه الأمة خيرها .

وحكم عليهم بأنهم خيرُ أمة ، ولم يبين جهة الخيرية في اللفظ وهي : سبقهم إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبدارهم إلى نصرته ، ونقلهم عنه علم الشريعة ، وافتتاحهم البلاد .

وهذه فضائل اختصوا بها مع ما لهم من الفضائل .

وكل من عمل بعدهم حسنة فلهم مثل أجرها ، لأنّهم سببٌ في إيجادها ، إذْ هم الذين سنوها ، وأوضحوا طريقها « من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً »

ومعنى أخرجت : أظهرت وأبرزت ، ومخرجها هو الله تعالى ، وحذف للعلم به .

وقال ابن عباس : أخرجت من مكة إلى المدينة ، وهي جملة في موضع الصفة لأمة ، أي خير أمة مخرجة ، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لخير أمة ، فتكون في موضع نصب أي مخرجة .

وعلى هذا الوجه يكون قد روعي هنا لفظ الغيبة ، ولم يراع لفظ الخطاب .

وهما طريقان للعرب ، إذا تقدم ضمير حاضر لمتكلم أو مخاطب ، ثم جاء بعده خبره إسماً ، ثم جاء بعد ذلك ما يصلح أن يكون وصفاً ، فتارة يراعى حال ذلك الضمير فيكون ذلك الصالح للوصف على حسب الضمير فتقول : أنا رجل آمر بالمعروف ، وأنت رجل تأمر بالمعروف .

ومنه { بل أنتم قوم تفتنون } وأنك امرؤ فيك جاهلية :

وأنت امرؤ قد كثأت لك لحية *** كأنك منها قاعد في جوالق

وتارةً يراعى حال ذلك الاسم ، فيكون ذلك الصالح للوصف على حسبه من الغيبة .

فتقول : أنا رجل يأمر بالمعروف ، وأنت امرؤ تأمر بالمعروف .

ومنه : { كنتم خير أمة أخرجت } ولو جاء أخرجتم فيراعى ضمير الخطاب في كنتم لكان عربياً فصيحاً .

والأولى جعله أخرجت للناس صفة لأمة ، لا لخير لتناسب الخطاب في كنتم خير أمة مع الخطاب في تأمرون وما بعده .

وظاهر قوله : للناس أنه متعلق بأخرجت .

وقيل : متعلق بخير .

ولا يلزم على هذا التأويل أنها أفضل الأمم من نفس هذا اللفظ ، بل من موضع آخر .

وقيل : بتأمرون ، والتقدير تأمرون الناس بالمعروف .

فلما قدم المفعول جر باللام كقوله : { إن كنتم للرؤيا تعبرون } أي تعبرون الرؤيا ، وهذا فيه بعد .

تأمرون بالمعروف كلام خرج مخرج الثناء من الله قاله : الربيع .

أو مخرج الشرط في الخيرية ، روي هذا المعنى عن : عمرو ، ومجاهد ، والزجاج .

فقيل : هو مستأنف بين به كونهم خير أمة كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم .

وقال ابن عطية : تأمرون وما بعده أحوال في موضع نصب انتهى .

وقاله الراغب : والاستئناف أمكن وأمدح .

وأجاز الحوفي في أن يكون تأمرون خبراً بعد خبر ، وأن كون نعتاً لخير أمة .

قيل : وقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان ، لأنّ الإيمان مشترك بين جميع الأمم ، فليس المؤثر لحصول هذه الزيادة ، بل المؤثر كونهم أقوى حالاً في الأمر والنهي .

وإنا الإيمان شرط للتأثير ، لأنه ما لم يوجد لم يضر شيء من الطاعات مؤثراً في صفة الخيرية ، والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير .

وإنما اكتفى بذكر الإيمان بالله عن الإيمان بالنبوّة لأنه مستلزم له انتهى .

وهو من كلام محمد بن عمر الرازي .

وقال الزمخشري : جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيماناً بالله ، لأن مَن آمن ببعض ، ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتد بإيمانه ، فكأنه غير مؤمن بالله .

ويقولون : نؤمن ببعض الآية انتهى .

وقيل : هو على حذف مضاف ، أي وتؤمنون برسول الله .

والظاهر في المعروف ، والمنكر العموم .

وقال ابن عباس : المعروف الرسول ، والمنكر عبادة الأصنام .

وقال أبو العالية : المعروف التوحيد ، والمنكر الشرك .

{ ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم } أي ولو آمن عامّتهم وسائرهم .

ويعني الإيمان التام النافع .

واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من آمن كما يقول : من صدق كان خيراً له ، أي لكان هو ، أي الإيمان .

وعلّق كينونة الإيمان خيراً لهم على تقدير حصوله توبيخاً لهم مقروناً بنصحه تعالى لهم أنْ لو آمنوا لنجوا أنفسهم من عذاب الله .

وخبر هنا أفعل التفضيل ، والمعنى : لكان خيراً لهم مما هم عليه ، لأنهم إما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً في الرئاسة واستتباع العوام ، فلهم في هذا خط دنيوي .

وإيمانهم يحصل به الحظ الدنيوي من كونهم يصيرون رؤساء في الإسلام ، والحظ الأخروي الجزيل بما وعدوه على الإيمان من إيتائهم أجرهم مرتين .

وقال ابن عطية : ولفظة خير صيغة تفضيل ، ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير ، وإنما جاز ذلك لما في لفظة خير من الشياع وتشعب الوجوه ، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراها انتهى كلامه .

وإبقاؤها على موضوعها الأصلي أولى إذا أمكن ذلك ، وقد أمكن إذ الخيرية مطلقة فتحصل بأدنى مشاركة .

{ منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } ظاهر اسم الفاعل التلبس بالفعل ، فأخبر تعالى أنَّ من أهل الكتاب من هو ملتبس بالإيمان كعبد الله بن سلام ، وأخيه ، وثعلبة بن سعيد ، ومن أسلم من اليهود .

وكالنجاشي ، وبحيرا ، ومن أسلم من النصارى إذ كانوا مصدقين رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وبعده .

وهذا يدل على أنّ المراد بقوله : { ولو آمن أهل الكتاب } الخصوص ، أي باقي أهل الكتاب إذ كانت طائفة منهم قد حصل لها الإيمان .

وقيل : المراد باسم الفاعل هنا الاستقبال .

أي منهم من يؤمن ، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب العموم ، ويكون قوله : منهم المؤمنون إخباراً بمغيب وأنه سيقع من بعضهم الإيمان ، ولا يستمرون كلهم على الكفر .

وأخبر تعالى أن أكثرهم الفاسقون ، فدل على أن المؤمنين منهم قليل .

والألف واللام في المؤمنون وفي الفاسقون يدل على المبالغة والكمال في الوصفين ، وذلك طاهر لأن من آمن بكتابه وبالقرآن فهو كامل في إيمانه ، ومن كذب بكتابه إذ لم يتبع ما تضمنه من الإيمان برسول الله ، وكذب بالقرآن فهو أيضاً كامل في فسقه متمرد في كفره .