غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (110)

102

قوله عز من قائل : { كنتم خير أمة } في النظم وجهان : أحدهما أنه لما أمر المؤمنين بما أمر ونهاهم عما نهى ، عدل إلى طريق آخر يقتضي حملهم على الانقياد والطاعة لأن كونهم خير الأمم مما يقوّي داعيتهم في أن لا يبطلوا على أنفسهم هذه المزية ، وذلك إنما يكون بالتزام التكاليف الشرعية . وثانيهما أنه لما ذكر حال الأشقياء وحال السعداء نبه أوّلاً على ما هو السبب لوعيد الأشقياء بقوله : { وما الله يريد ظلماً للعالمين } بمعنى أنهم استحقوا ذلك بأفعالهم القبيحة .

ثم نبه على سبب وعد السعداء بقوله : { كنتم خير أمة } أي تلك الكرامات والسعادات إنما فازوا بها في الآخرة لأنهم كانوا في الدنيا خير أمة ، وأقول : لما أنجز الكلام في مخاطبة المؤمنين إلى بيان أن كل ما في الوجود ملكه وملكه إبداعاً واختراعاً وأن منتهى الكل إليه ، أتبع ذلك مزية هذه الأمة ليعلم أنها بسابقة العناية الأزلية إذ جعلهم مظهر الألطاف ، وذكر بعدها رذيلة أهل الكتاب ليعرف أنها لوقوعهم في طريق القهر ولا اعتراض لأحد على ما يفعله المالك في ملكه . عن عكرمة ومقاتل أن مالك بن الصيف ووهب بن يهوديا اليهوديين قالا لابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة : إن ديننا خير مما تدعوننا إليه ، ونحن خير وأفضل منكم ، فأنزل الله هذه الآية . قال بعض المفسرين : " كان " ههنا تامة ، وانتصاب { خير أمة } على الحال أي حدثتم ووجدتم خير أمة . والأكثرون على أنها ناقصة ، فجاء إيهام أنهم كانوا موصوفين بالخيرية في الزمان الماضي دون ما يستقبل . فأجيب بأن " كان " لا تدل على عدم سابق ولا انقطاع طارئ بدليل قوله :

{ وكان الله غفوراً رحيماً }{ النساء : 96 ] وقيل : المراد كنتم في علم الله أو في اللوح المحفوظ خير أمة ، أو كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة كقوله :{ ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل }[ الفتح :29 ] وقال أبو مسلم : هذا تابع لقوله : { وأما الذين ابيضت وجوههم } وما بينهما اعتراض والتقدير : أنه يقال لهم عند الخلود في الجنة : كنتم في دنياكم خير أمة فلهذا نلتم من الرحمة وبياض الوجه ما نلتم . وقال بعضهم : لو شاء الله لقال : أنتم . فكان هذا التشريف حاصلاً لكلنا ، ولكنه مخصوص بقوم معينين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم السابقون الأولون ومن صنع مثل صنيعهم . وقيل : إنها زائدة والمعنى : أنتم خير أمة . وزيفه ابن الأنباري بأن الزائدة لا تقع في أول الكلام ولا تعمل كقول العرب " عبد الله كان قائم وعبد الله قائم كان " ولا يقولون : " كان عبد الله قائم " على أن " كان " زائدة . لأن البداءة بها دليل شدة العناية ، والملغى لا يكون في محل العناية . وقيل : إنها بمعنى صار أي صرتم خير أمة . وأصل الأمة الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هي الطائفة الموصوفة بالإيمان به والإقرار بنبوته . وإذا أطلقت الأمة في نحو قول العلماء " اجتمعت الأمة " وقعت عليهم . وقد يقال لكل من جمعتهم دعوته إنهم أمة الدعوة ولا يطلق عليهم لفظ الأمة إلا بهذا القيد .

قال الزجاج : ظاهر الخطاب في { كنتم } مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه عام في حق لكل الأمة . ونظيره { كتب عليكم القصاص }[ البقرة :178 ]{ كتب عليكم القصاص }[ البقرة :183 ] وقوله : { للناس } إما أن يتعلق ب { أخرجت } والمعنى : كنتم خير الأمم المخرجة للناس في جميع الأعصار . ومعنى إخراجها أنها أظهرت للناس حتى تميزت وعرفت وفصل بينها وبين غيرها . وإما أن يتعلق ب { كنتم } أي كنتم للناس خير أمة . ثم بين سبب الخيرية على سبيل الاستئناف بقوله : { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم . وقد يستدل بالآية على أن إجماع هذه الأمة حجة لأنها لو لم تحكم بالحق لم تكن خيراً من المبطل ، ولأن اللام في { المعروف } وفي { المنكر } للاستغراق فيقتضي كونهم آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر فيكون إجماعهم حقاً . وأما أنه من أي وجه يقتضي ذلك كون هذه الأمة خير الأمم مع أن الصفات الثلاثة كانت حاصلة لسائر الأمم فذلك أن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد ، وأقواها ما يكون بالقتال لأنه إلقاء النفس في خطر القتل . وأعرف والمعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة ، وأنكر المنكرات الكفر بالله ، فكان الجهاد في الدين تحملاً لأعظم المضارّ لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع وتخليصه من أعظم المضار ، فكان من أعظم العبادات . ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا نبي السيف أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " فلا جرم صار لك موجباً لفضل هذه الأمة على سائر الأمم ، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس في تفسير قوله : { كنتم خير أمة } تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويقروا بما أنزل الله ، وتقاتلونهم عليه ، ولا إله إلا الله أعظم المعروف والتكذيب أنكر المنكر . وفائدة القتل على الدين لا ينكره منصف فإن أكثر الناس يحبون ما ألفوه من الأديان الباطلة ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم ، فإذا خوف بالقتل دخل في دين الحق مكرهاً إلى أن يألفه متدرجاً . وأما الإيمان بالله فلا شك أنه في هذه الأمة أكمل لأنهم آمنوا بكل ما يجب الإيمان به من رسول الله أو كتاب أو بعث أو حساب أو ثواب أو عقاب إلى غير ذلك ، ولا يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض . وإنما اقتصر في وصف الأمة على الإيمان بالله لأنه يستلزم الإيمان بالنبوة وبسائر ما عددنا وإلا لم يكن في الحقيقة إيمانا ، ولهذا نفى عن أهل الكتاب في قوله : { ولو آمن أهل الكتاب } وإنما قدم الأمر بالمعروف على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات ، لأن الآية سيقت لبيان فضل الأمر بالمعروف وتأكد القيام به ولهذا كرر بعد قوله : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف } فكانت العناية به أشد فكان تقديمه أهم .

وليعلم أن التكميل أفضل من الكمال نفسه ولهذا استلزم الأول الثاني دن العكس ، ولأن التكميل يتضمن الكمال فكان في تأخير الإيمان بالله تكريراً له مرة بالتضمن وأخرى بالمطابقة على أن الواو لا تفيد الترتيب ، وأيضاً أراد أن يبني عليه قوله : { ولو آمن } وفي التفسير الكبير : إن أصل الإيمان مشترك فيه بين الأديان فلا تتبين فيه الخيرية ، لكن الآية سيقت لبيان الخيرية وليس ذلك إلا لأن هذه الأمة أقوى في باب الأمر بالمعروف فلهذا قدم ، ثم أتبع ذكر الإيمان بالله ليعلم أن شرط تأثير الأمر بالمعروف في الخيرية حاصل . ولا يخفى أن هذا الجواب مبني على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، وعلى أن إيمان أهل الكتاب معتد به وليس كذلك ، ولهذا قال تعالى : { ولو آمن أهل الكتاب } يعني إيماناً معتبراً وهو الإيمان بالله وبسائر ما لا بد منه من الأمور المعدودة { كان خيرا لهم } لحصلت لهم صفة الخيرية أيضاً لانضمامهم في زمرة هذه الأمة ، أو لحصل لهم من الرياسة وحظوظ الدنيا ما هو خير مما تركوا هذا الدين لأجله ، لأن الحاصل على هذا التقدير عزة الإسلام مع الفوز بما وعدوا من إيتاء الأجر في الآخرة مرتين ، وعلى ما هم فيه ليس إلا استتباع بعض الجهلة من العوام وشيء نزر من الرشا ، وبعد ذلك خلود في النار . ثم فصل أهل الكتاب على سبيل الاستئناف فقال : { منهم المؤمنون } كعبد الله بن سلام ورهطه وكالنجاشي وأصحابه ، فاللام للمعهود السابق { وأكثرهم الفاسقون } الخارجون عن طاعة الله تعالى وعن دينه فيقارب الكفر أو يرادفه ، أو المراد أنهم ليسوا بعدول في دينهم أيضاُ فهم مردودون باتفاق الطوائف كلهم ، فلا ينبغي أن يقتدى بهم ألبتة .

/خ111