إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (110)

{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } كلامٌ مستأنفٌ سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق والدعوةِ إلى الخير ، وكنتم من كان الناقصةِ التي تدل على تحقق شيءٍ بصفة في الزمان الماضي من غير دَلالةٍ على عدم سابقٍ أو لاحق كما في قوله تعالى : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَحِيماً } [ النساء ، الآية 96 . وفي غيرها ] . وقيل : كنتم كذلك في علم الله تعالى أو في اللوح أو فيما بين الأمم السالفةِ ، وقيل : معناه أنتم خيرُ أمة { أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } صفةٌ لأمة واللام متعلقةٌ بأخرجت أي أظهِرَت لهم ، وقيل : بخير أمةٍ أي كنتم خيرَ الناسِ للناس ، فهو صريحٌ في أن الخيريةَ بمعنى النفعِ للناس وإن فُهم ذلك من الإخراج لهم أيضاً أي أخرجَتْ لأجلهم ومصلحتِهم ، قال أبو هريرة رضي الله عنه : معناه كنتم خيرَ الناسِ للناس تأتون بهم في السلاسل فتُدخِلونهم في الإسلام . وقال قتادة : هم أمةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم لم يُؤمر نبيٌّ قبله بالقتال فهم يقاتلون الكفارَ فيدخلونهم في الإسلام فهم خيرُ أمةٍ للناس . { تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } استئنافٌ مبينٌ لكونهم خيرَ أمة كما يقال : زيدٌ كريمٌ يطعم الناسَ ويكسوهم ويقوم بمصالحهم ، أو خبرٌ ثانٍ لكنتم ، وصيغةُ المستقبلِ للدِلالة على الاستمرار ، وخطابُ المشافهةِ وإن كان خاصاً بمن شاهد الوحيَ من المؤمنين لكن حُكمَه عامٌ للكل . قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أمةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم . وقال الزجاج : أصلُ هذا الخطابِ لأصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمُّ سائرَ أمتِه . وروى الترمذيُّ عن بَهْزِ بنِ حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران ، الآية 110 ] : «أنتم تُتِمّون سبعين أمةً أنتم خيرُها وأكرمُها على الله تعالى » . وظاهرٌ أن المرادَ بكل أمةٍ أوائلُهم وأواخرُهم لا أوائلُهم فقط فلابد أن تكون أعقابُ هذه الأمةِ أيضاً داخلةً في الحكم ، وكذا الحالُ فيما رُوي أن مالك بنَ الصيف ووهْبَ بنَ يهوذا اليهوديَّين مرّا بنفرٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ابنُ مسعود وأبيُّ بنُ كعبٍ ومعاذُ بنُ جبل وسالمٌ مولى حذيفةَ رضوانُ الله عليهم فقالا لهم : نحن أفضلُ منكم ودينُنا خيرٌ مما تدعوننا إليه . وروى سعيدُ بنُ جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ورُوي عن الضحاك أنهم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصةً الرواةُ والدعاةُ الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم . { وَتُؤْمِنُونَ بالله } أي إيماناً متعلقاً بكل ما يجب أن يؤمَنَ به من رسول وكتابٍ وحساب وجزاءٍ وإنما لم يصرِّح به تفصيلاً لظهور أنه الذي يؤمِن به المؤمنون وللإيذان بأنه هو الإيمانُ بالله تعالى حقيقةً وأن ما خلا عن شيء من ذلك كإيمان أهلِ الكتابِ ليس من الإيمان بالله تعالى في شيء ، قال تعالى : { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلك سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً } [ النساء ، الآية 150 ، 151 ] وإنما أُخِّر ذلك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تقدمه عليهما وجوداً ورُتبةً لأن دَلالتَهما على خيريتهم للناس أظهرُ من دلالته عليها وليقترن به قوله تعالى : { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أي لو آمنوا كإيمانكم لكان ذلك خيراً لهم مما هم عليه من الرياسة واستتباعِ العوامِّ ولازدادت رياستُهم وتمتُّعهم بالحظوظ الدنيويةِ مع الفوز بما وُعِدوه على الإيمان من إيتاء الأجرِ مرتين ، وقيل : مما هم فيه من الكفر ، فالخيريةُ إنما هي باعتبار زعمِهم ، وفيه ضربُ تهكّمٍ بهم وإنما لم يتعرَّضْ للمؤمَنِ به أصلاً للإشعار بظهور أنه الذي يُطلق عليه اسمُ الإيمانِ لا يذهب الوهمُ إلى غيره ولو فُصِّل المؤمَنُ به هاهنا أو فيما قبلُ لربما فُهم أن لأهل الكتاب أيضاً إيماناً في الجملة لكن إيمانَ المؤمنين خيرٌ منه وهيهاتَ ذلك { مِنْهُمُ المؤمنون } جملةٌ مستأنفة سيقت جواباً عما نشأ من الشرطية الدالةِ على انتفاء الخيريةِ لانتفاء الإيمانِ عنهم كأنه قيل : هل منهم من آمن أو كلُّهم على الكفر ؟ فقيل : منهم المؤمنون المعهودون الفائزون بخير الدارين كعبد اللَّه بن سلام وأصحابه . { وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } المتمرِّدون في الكفر الخارجون عن الحدود .