تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (110)

الآية 110 وقوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } يحتمل وجوها : يحتمل { كنتم } أي صرتم { خر أمة } أظهرت للناس بما تدعو الخلق إلى النجاة والخير ، ويحتمل { كنتم خر أمة } في الكتب السالفة بأنكم { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } ويحتمل { كنتم خير أمة } إذ{[4224]} أمرتم بالمعروف ، ونهيتم عن المنكر ، ويحتمل { كنتم } صرتم { خير أمة } وكانوا كذلك : هم خير أمة ، وكانوا كذلك : هم خير ممن تقدمهم من الأمم بما بذلوا مهجهم لله في نصر دينه ، وإظهار كلمته والإشفاق على رسوله حتى كان أحب إليهم من أنفسهم ، ويرونه أولى ، والله الموفق .

ثم اختلف في المعروف والمنكر : قيل : المعروف كل مستحسن في العقل فهو معروف ، وكل مستقبح فيه فهو منكر ، ويحتمل الأمر بالمعروف ، هو الأمر بالإيمان ، والنهي عن المنكر ، وهو النهي عن الكفر ، دليله قوله : { وتؤمنون بالله } الآية : يؤمنون هم ، ويأمرون غيرهم بالإيمان ، وينهون عن الكفر .

وعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ أنه ]{[4225]} قال : ( خير الناس أنفعهم للناس ، و{ تأمرون بالمعروف } أي تأمرونهم أن يشهدوا ألا إله إلا الله ، والإقرار بما أنزل الله ، وتقاتلون عليه . ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف ، والمنكر هو التكذيب ، فهو أنكر المنكر ) .

وعن علي رضي الله عنه أنه قال : ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء ) قلنا : يا رسول الله وما هو ؟ قال : ( نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت احمد ، وجعل التراب لي طهورا ، وجعلت أمتي خير الأمم ) ) [ أحمد : 1/98 ] .

قال الشيخ ، رحمه الله : [ قوله ]{[4226]} { كنتم خير أمة أخرجت } له وجهان : أي كنتم على ألسن الرسل في الكتب المتقدمة خير أمة ، ويحتمل { كنتم } صرتم بإيمانكم برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعكم ما معه خير أمة على وجه الأرض ، [ لأن من قبلكم ]{[4227]} آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض .

وقوله تعالى : { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } يتوجه إلى وجوه ثلاثة : المعروف ، هو المعروف في العقول أي الذي تستحسنه العقول ، والمنكر ، هو الذي قبحته العقول ، وأنكرته ، ويحتمل أن يكون المعروف هو الذي عرف بالآيات والبراهين أنه حسن ، والمنكر ما عرف بالحجج أنه{[4228]} قبيح ، ويحتمل{[4229]} المعروف هو الذي جرى على ألسن الرسل أنه حسن ، والمنكر هو الذي أنكروه ، ونهوا عنه . فعلى هذه الوجوه يخرج تأويل الآية ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم } لا شك أن الإيمان خير لهم من الكفر ، ولكن معناه ، والله أعلم ، أنهم أبوا الإيمان ، وتمسكوا بالكفر لوجهين :

أحدهما : أنهم كانوا أهل عزة وشرف في ما بينهم وأهل دراية الكتب ينتاب إليهم الناس ، ويختلفون إليهم بحوائجهم ، فخافوا ذهاب ذلك عنهم إذا آمنوا ، فأخبر الله جل وعلا أنهم إن آمنوا كان{[4230]} خيرا لهم من الذكر والشرف والعز في أهل الإيمان أكثر مما لهم في أهل الكفر . ألا ترى أن من آمن منهم من درية الكتاب وعلمائهم كان لهم من الذكر والشرف في الإيمان ما لم يكن لأحد [ منهم مات ]{[4231]} على الكفر ، نحو عبد الله بن سلام و[ كعب ]{[4232]} وغيره من الأحبار ، وإنما كانوا من علمائهم ، لم يكونوا من علماء أهل الإيمان ، فنالوا بالإيمان من الذكر والعز والشرف ما لم ينل أحد منهم ، مات على الكفر ، بل جمل ذكرهم ، وانتشر في أهلهم فضلا في أهل الإيمان والإسلام ، والله أعلم .

والثاني : أنهم كانوا أبوا الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم واختاروا المقام على الكفر خوفا وإشفاقا على ما لهم من المنافع والمنال ، يذهب ذلكم عنهم بالإسلام ، فأخبر الله جل وعلا أنهم لو آمنوا لكان خيرا لهم في الآخرة ، إذ ذاك ينقطع ، ويذهب عن قريب ، والذي لأهل الإيمان في الآخرة باق دائم لا يزول أبدا ، لما كان الذي ينال بالإيمان غيبا{[4233]} ، وكذلك ما يحل بالكفار من جزاء [ الكفر غيبا ]{[4234]} اشتد عليهم الكفر والتدبر ، فلا يمنعهم عن الشهوات ، وينغص عليهم اللذات ، فآثروا ما هوته أنفسهم ، وتلذذوا به على التدبر مع ما كان إدراك الغائب بالشاهد [ أمرا عسيرا ]{[4235]} لا يوصل إليه إلا بفضل الله ، ولم يكن عليه ، ذلك لا يسقط معنى الإفضال والإنعام ، ويصير حقا مع ما كان منهم بتقديم الجفاء وإيثار زجرة الدنيا وبهجة الغنى على الموعود ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } كذلك كانوا : كان المؤمنون أقل ، والكفار أكثر ، والله أعلم .


[4224]:في الأصل وم: أي.
[4225]:ساقطة من الأصل وم.
[4226]:ساقطة من الأصل وم.
[4227]:في الأصل وم: لأنهم.
[4228]:أدرج قبلها في الأصل وم: التي.
[4229]:أدرج قبلها في الأصل وم العبارة التالية: ويحتمل أن يكون المعروف هو الذي عرف بالحج أنه قبيح، والصواب حذفها.
[4230]:في الأصل وم: لكان.
[4231]:في الأصل وم: مات منهم.
[4232]:في الأصل وم: ومن أسلم منهم نحو كعب.
[4233]:في الأصل وم: غيب.
[4234]:في الأصل:غيب، في م: الكفر عيب.
[4235]:في الأصل وم: أمر عسير.