الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (110)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرا أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ}؛

فقال بعضهم: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، من مكة إلى المدينة، وخاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم...

وقال آخرون: معنى ذلك: كنتم خير أمة أخرجت للناس، إذ كنتم بهذه الشروط التي وصفهم جلّ ثناؤه بها. فكان تأويل ذلك عندهم: كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله أُخرِجوا للناس في زمانكم...

وقال آخرون: إنما قيل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} لأنهم أكثر الأمم استجابة للإسلام...

وقال بعضهم: عنى بذلك أنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس... عن الحسن في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ تَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ} قال: قد كان ما تسمع من الخير في هذه الأمة... نحن آخرها وأكرمها على الله.

وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قال الحسن، وذلك أن: يعقوب بن إبراهيم حدثني قال: حدثنا ابن علية، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا إنّكُمْ وَفّيْتُمْ سَبْعِينَ أُمّةً أنْتُمْ آخِرُها وأكْرَمُها على اللّهِ»...

وأما قوله: {تَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ} فإنه يعني: تأمرون بالإيمان بالله ورسوله، والعمل بشرائعه، {وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَر} يعني: وتنهون عن الشرك بالله، وتكذيب رسوله، وعن العمل بما نهى عنه... وأصل المعروف: كل ما كان معروفا ففعله جميل مستحسن غير مستقبح في أهل الإيمان بالله. وإنما سميت طاعة الله معروفا، لأنه مما يعرفه أهل الإيمان ولا يستنكرون فعله. وأصل المنكر ما أنكره الله، ورأوه قبيحا فعله، ولذلك سميت معصية الله منكرا، لأن أهل الإيمان بالله يستنكرون فعلها، ويستعظمون ركوبها. وقوله: {وَتؤْمِنُونَ باللّهِ} يعني: تصدّقون بالله، فتخلصون له التوحيد والعبادة.

فإن سأل سائل فقال: وكيف قيل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ} وقد زعمت أن تأويل الآية أن هذه الأمة خير الأمم التي مضت، وإنما يقال: كنتم خير أمة، لقوم كانوا خيارا فتغيروا عما كانوا عليه؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت إليه، وإنما معناه: أنتم خير أمة، كما قيل: {وَاذْكُرُوا إذْ أنْتُمْ قَلِيلٌ} وقد قال في موضع آخر: {وَاذْكُرُوا إذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثّرَكُمْ} فإدخال «كان» في مثل هذا وإسقاطها بمعنى واحد، لأن الكلام معروف معناه. ولو قال أيضا في ذلك قائل: كنتم بمعنى التمام، كان تأويله: خلقتم خير أمة، أو وجدتم خير أمة، كان معنى صحيحا، وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى ذلك: كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ أخرجت للناس، والقولان الأوّلان اللذان قلنا، أشبه بمعنى الخبر الذي رويناه قبل.

وقال آخرون معنى ذلك: كنتم خير أهل طريقة، وقال: الأمة: الطريقة.

{وَلَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتابِ لَكانَ خَيْرا لَهْمُ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وأكْثَرُهُم الفاسِقونَ}.

يعني بذلك تعالى ذكره: ولو صدّق أهل التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما جاءهم به من عند الله، لكان خيرا لهم عند الله في عاجل دنياهم، وآجل آخرتهم. {مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ} يعني من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، المؤمنون المصدّقون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به من عند الله، وهم عبد الله بن سلام، وأخوه، وثعلبة بن سَعْيَة وأخوه، وأشباههم ممن آمنوا بالله، وصدّقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واتبعوا ما جاءهم به من عند الله. {وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ} يعني: الخارجون عن دينهم، وذلك أن من دين اليهود اتباع ما في التوراة، والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن دين النصارى اتباع ما في الإنجيل، والتصديق به وبما في التوراة، وفي كلا الكتابين صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته، ومبعثه، وأنه نبيّ الله، وكلتا الفرقتين، أعني اليهود والنصارى مكذبة، فذلك فسقهم وخروجهم عن دينهم الذي يدّعون أنهم يدينون به الذي قال جلّ ثناؤه {وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ}.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} يحتمل وجوها: يحتمل {كنتم} أي صرتم {خير أمة} أظهرت للناس بما تدعو الخلق إلى النجاة والخير، ويحتمل {كنتم خر أمة} في الكتب السالفة بأنكم {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} ويحتمل {كنتم خير أمة} إذ أمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، ويحتمل {كنتم} صرتم {خير أمة} وكانوا كذلك: هم خير أمة، وكانوا كذلك: هم خير ممن تقدمهم من الأمم بما بذلوا مهجهم لله في نصر دينه، وإظهار كلمته والإشفاق على رسوله حتى كان أحب إليهم من أنفسهم، ويرونه أولى، والله الموفق.

ثم اختلف في المعروف والمنكر: قيل: المعروف كل مستحسن في العقل فهو معروف، وكل مستقبح فيه فهو منكر، ويحتمل الأمر بالمعروف، هو الأمر بالإيمان، والنهي عن المنكر، وهو النهي عن الكفر، دليله قوله: {وتؤمنون بالله} الآية: يؤمنون هم، ويأمرون غيرهم بالإيمان، وينهون عن الكفر. وعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [أنه] قال: (خير الناس أنفعهم للناس، و {تأمرون بالمعروف} أي تأمرونهم أن يشهدوا ألا إله إلا الله، والإقرار بما أنزل الله، وتقاتلون عليه. ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف، والمنكر هو التكذيب، فهو أنكر المنكر). وعن علي رضي الله عنه أنه قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء) قلنا: يا رسول الله وما هو؟ قال: (نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل التراب لي طهورا، وجعلت أمتي خير الأمم)) [أحمد: 1/98]. قال الشيخ، رحمه الله: [قوله] {كنتم خير أمة أخرجت} له وجهان: أي كنتم على ألسن الرسل في الكتب المتقدمة خير أمة، ويحتمل {كنتم} صرتم بإيمانكم برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعكم ما معه خير أمة على وجه الأرض، [لأن من قبلكم] آمنوا ببعض، وكفروا ببعض.

وقوله تعالى: {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} يتوجه إلى وجوه ثلاثة: المعروف، هو المعروف في العقول أي الذي تستحسنه العقول، والمنكر، هو الذي قبحته العقول، وأنكرته، ويحتمل أن يكون المعروف هو الذي عرف بالآيات والبراهين أنه حسن، والمنكر ما عرف بالحجج أنه قبيح، ويحتمل المعروف هو الذي جرى على ألسن الرسل أنه حسن، والمنكر هو الذي أنكروه، ونهوا عنه. فعلى هذه الوجوه يخرج تأويل الآية، والله أعلم. وقوله تعالى: {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم} لا شك أن الإيمان خير لهم من الكفر، ولكن معناه، والله أعلم، أنهم أبوا الإيمان، وتمسكوا بالكفر لوجهين:

أحدهما: أنهم كانوا أهل عزة وشرف في ما بينهم وأهل دراية الكتب ينتاب إليهم الناس، ويختلفون إليهم بحوائجهم، فخافوا ذهاب ذلك عنهم إذا آمنوا، فأخبر الله جل وعلا أنهم إن آمنوا كان خيرا لهم من الذكر والشرف والعز في أهل الإيمان أكثر مما لهم في أهل الكفر. ألا ترى أن من آمن منهم من درية الكتاب وعلمائهم كان لهم من الذكر والشرف في الإيمان ما لم يكن لأحد [منهم مات] على الكفر، نحو عبد الله بن سلام و [كعب] وغيره من الأحبار، وإنما كانوا من علمائهم، لم يكونوا من علماء أهل الإيمان، فنالوا بالإيمان من الذكر والعز والشرف ما لم ينل أحد منهم، مات على الكفر، بل جمل ذكرهم، وانتشر في أهلهم فضلا في أهل الإيمان والإسلام، والله أعلم.

والثاني: أنهم كانوا أبوا الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم واختاروا المقام على الكفر خوفا وإشفاقا على ما لهم من المنافع والمنال، يذهب ذلكم عنهم بالإسلام، فأخبر الله جل وعلا أنهم لو آمنوا لكان خيرا لهم في الآخرة، إذ ذاك ينقطع، ويذهب عن قريب، والذي لأهل الإيمان في الآخرة باق دائم لا يزول أبدا، لما كان الذي ينال بالإيمان غيبا، وكذلك ما يحل بالكفار من جزاء [الكفر غيبا] اشتد عليهم الكفر والتدبر، فلا يمنعهم عن الشهوات، وينغص عليهم اللذات، فآثروا ما هوته أنفسهم، وتلذذوا به على التدبر مع ما كان إدراك الغائب بالشاهد [أمرا عسيرا] لا يوصل إليه إلا بفضل الله، ولم يكن عليه، ذلك لا يسقط معنى الإفضال والإنعام، ويصير حقا مع ما كان منهم بتقديم الجفاء وإيثار زجرة الدنيا وبهجة الغنى على الموعود، والله أعلم. وقوله تعالى: {منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} كذلك كانوا: كان المؤمنون أقل، والكفار أكثر، والله أعلم...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

في هذه الآية دلالة على صحة إجماع الأمة من وجوه، أحدها: كنتم خير أمة، ولا يستحقون من الله صفة مدح إلاّ وهم قائمون بحق الله تعالى غير ضالين.

والثاني: إخباره بأنهم يأمرون بالمعروف فيما أُمروا به فهو أمر الله تعالى؛ لأن المعروف هو أمر الله.

والثالث: أنهم ينكرون المنكر، والمُنْكَرُ هو ما نهى الله عنه؛ ولا يستحقّون هذه الصفة إلاّ وهم لله رِضى؛ فثبت بذلك أن ما أنكرته الأمّة فهو منكر وما أمرت به فهو معروف وهو حكم الله تعالى، وفي ذلك ما يمنع وقوع إجماعهم على ضلال، ويوجب أن ما يحصل عليه إجماعهم هو حكم الله تعالى...

جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :

قال عمر بن الخطاب في قوله –عز وجل-: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}، قال: من فعل مثل فعلهم كان مثلهم. وقال ابن عباس في قوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}، هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، وشهدوا بدرا والحديبية. وقيل في قول الله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}، أنهم أمة محمد – صلى الله عليه وسلم- يعني الصالحين منهم، وأهل الفضل هم شهداء على الناس يوم القيامة. قالوا: وإنما صار أول هذه الأمة خير القرون، لأنهم آمنوا حين كفر الناس، وصدقوه حين كذبه الناس، وعزروه ونصروه، وآووه وواسوه بأموالهم وأنفسهم، وقاتلوا غيرهم على كفرهم، حتى أدخلوهم في الإسلام. (ت: 20/251)...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

شرط الآمر بالمعروف أن يكون متصفاً بالمعروف، وحقُّ النَّاهي عن المنكر أن يكون منصرفاً عن المنكر...

{وَلَو آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمْ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ}. لو دَخَلَ الكافةُ تحت أمرنا لوصلوا إلى حقيقة العزِّ في الدنيا والعقبى، ولكن بَعُدُوا عن القبول في سابق الاختيار فصار أكثرُهم موسوماً بالشِّرْك...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

«كان» عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام، وليس فيه دليل على سابق عدم ولا على انقطاع طارئ، ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 96] ومنه قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} كأنه قيل: وجدتم خير أمّة، وقيل: كنتم في علم الله خير أمّة..

. وقوله: {تَأْمُرُونَ} كلام مستأنف بين به كونهم خير أمّة... {وَتُؤْمِنُونَ بالله} جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيماناً بالله، لأنّ من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتد بإيمانه، فكأنه غير مؤمن بالله {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً} [النساء: 150] والدليل عليه قوله تعالى: {وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الكتاب} مع إيمانهم بالله {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} لكان الإيمان خيراً لهم مما هم عليه، لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً للرياسة واستتباع العوام، ولو آمنوا لكان لهم من الرياسة والأتباع وحظوظ الدنيا ما هو خير مما آثروا دين الباطل لأجله، مع الفوز بما وعدوه على الإيمان من إيتاء الأجر مرتين...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

أخبر تعالى عن أهل الكتاب على جهة التوبيخ المقرون بالنصح، أنهم لو آمنوا لنحّوا أنفسهم من عذاب الله، وجاءت لفظة {خير} في هذه الآية وهي صيغة تفضيل، ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير، وإنما جاز ذلك لما في لفظة {خير} من الشياع وتشعب الوجوه، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراها، وقد بيّن هذا المعنى في غير هذا الموضع بأوعب من هذا، وقوله تعالى: {منهم المؤمنون} تنبيه على حال عبد الله بن سلام وأخيه وثعلبه بن سعية وغيرهم ممن آمن، ثم حكم الله على أكثرهم بالفسق في كفره لأنهم حرفوا وبدلوا وعاندوا بعد معرفتهم بحقيقة أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فهم كفار فسقة في الكفر قد جمعوا المذمتين.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

في النظم وجهان؛

الأول: أنه تعالى لما أمر المؤمنين ببعض الأشياء ونهاهم عن بعضها وحذرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب في التمرد والعصيان، وذكر عقيبه ثواب المطيعين وعقاب الكافرين، كان الغرض من كل هذه الآيات حمل المؤمنين المكلفين على الانقياد والطاعة ومنعهم عن التمرد والمعصية، ثم إنه تعالى أردف ذلك بطريق آخر يقتضي حمل المؤمنين على الانقياد والطاعة فقال {كنتم خير أمة} والمعنى أنكم كنتم في اللوح المحفوظ خير الأمم وأفضلهم، فاللائق بهذا أن لا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة، وأن لا تزيلوا عن أنفسكم هذه الخصلة المحمودة، وأن تكونوا منقادين مطيعين في كل ما يتوجه عليكم من التكاليف.

الثاني: أن الله تعالى لما ذكر كمال حال الأشقياء وهو قوله {فأما الذين اسودت وجوههم} [آل عمران: 106] وكمال حال السعداء وهو قوله {وأما الذين ابيضت وجوههم} [آل عمران: 107] نبه على ما هو السبب لوعيد الأشقياء بقوله {وما الله يريد ظلما للعالمين} [آل عمران: 108] يعني أنهم إنما استحقوا ذلك بأفعالهم القبيحة، ثم نبه في هذه الآية على ما هو السبب لوعد السعداء بقوله {كنتم خير أمة أخرجت للناس} أي تلك السعادات والكمالات والكرامات إنما فازوا بها في الآخرة لأنهم كانوا في الدنيا {خير أمة أخرجت للناس}...

[وباعتبار] أن (كان) ههنا ناقصة... فيه سؤال: وهو أن هذا يوهم أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة وأنهم ما بقوا الآن عليها. والجواب عنه: أن قوله (كان) عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام، ولا يدل ذلك على انقطاع طارئ بدليل قوله {استغفروا ربكم إنه كان غفارا} [نوح: 10] قوله {وكان الله غفورا رحيما} [الفتح: 14] إذا ثبت هذا فنقول: للمفسرين على هذا التقدير أقوال [منها]: قال أبو مسلم قوله {كنتم خير أمة} تابع لقوله {وأما الذين ابيضت وجوههم} [آل عمران: 107] والتقدير: أنه يقال لهم عند الخلود في الجنة: كنتم في دنياكم خير أمة فاستحقيتم ما أنتم فيه من الرحمة وبياض الوجه بسببه، ويكون ما عرض بين أول القصة وآخرها كما لا يزال يعرض في القرآن من مثله...

[وهناك] احتمال... [آخر هو]: أن تكون (كان) بمعنى صار، فقوله {كنتم خير أمة} معناه صرتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، أي صرتم خير أمة بسبب كونكم آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ومؤمنين بالله. ثم قال: {ولو ءامن أهل الكتاب لكان خيرا لهم} يعني كما أنكم اكتسبتم هذه الخيرية بسبب هذه الخصال، فأهل الكتاب لو آمنوا لحصلت لهم أيضا صفة الخيرية والله أعلم...وههنا سؤالات:

السؤال... [الأول]: لم قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان بالله لا بد وأن يكون مقدما على كل الطاعات؟. والجواب: أن الإيمان بالله أمر مشترك فيه بين جميع الأمم المحقة، ثم إنه تعالى فضل هذه الأمة على سائر الأمم المحقة، فيمتنع أن يكون المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الإيمان الذي هو القدر المشترك بين الكل، بل المؤثر في حصول هذه الزيادة هو كون هذه الأمة أقوى حالا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سائر الأمم، فإذن المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما الإيمان بالله فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات مؤثرا في صفة الخيرية، فثبت أن الموجب لهذه الخيرية هو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، وأما إيمانهم فذاك شرط التأثير، والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير، فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان.

السؤال... [الثاني]: لم اكتفي بذكر الإيمان بالله ولم يذكر الإيمان بالنبوة مع أنه لا بد منه. والجواب: الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالنبوة، لأن الإيمان بالله لا يحصل إلا إذا حصل الإيمان بكونه صادقا، والإيمان بكونه صادقا لا يحصل إلا إذا كان الذي أظهر المعجز على وفق دعواه صادقا لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول، فلما شاهدنا ظهور المعجز على وفق دعوى محمد صلى الله عليه وسلم كان من ضرورة الإيمان بالله الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فكان الاقتصار على ذكر الإيمان بالله تنبيها على هذه الدقيقة...

أما قوله {منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} ففيه... [سؤال]: الوصف إنما يذكر للمبالغة فأي مبالغة تحصل في وصف الكافر بأنه فاسق؟. والجواب: الكافر قد يكون عدلا في دينه وقد يكون فاسقا في دينه فيكون مردودا عند الطوائف كلهم، لأن المسلمين لا يقبلونه لكفره، والكفار لا يقبلونه لكونه فاسقا فيما بينهم، فكأنه قيل أهل الكتاب فريقان: منهم من آمن، والذين ما آمنوا فهم فاسقون في أديانهم، فليسوا ممن يجب الاقتداء بهم البتة عند أحد من العقلاء.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

قيل: إنما صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة؛ لأن المسلمين منهم أكثر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى...

جهود القرافي في التفسير 684 هـ :

- نص الله تعالى في هذه الرسالة العظيمة على تفضيلنا على جميع الأمم فلو لم ينزل الله تعالى هذه الآية في القرآن لكنا مفضلين بها لا فيها، فلما أنزلها صرنا مفضلين بها وفيها. ومعنى فضلنا بها: أن مخاطبة الله تعالى لعباده تشريف لهم، فنحن مفضلون بها، أي بالمخاطبة بها ومعنى فيها: أي أنزل فيها قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}. (شرح تنقيح الفصول: 3)

- ذكرهم في سياق المدح يدل على أنهم على الصواب، والصواب يجب إتباعه، فيجب إتباعهم ولأنه تعالى وصفهم بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، واللام للعموم، فيأمرون بكل معروف فلا يفوتهم حق لأنه من جملة المعروف، ولقوله تعالى: {وينهون عن المنكر}، والمنكر "باللام "يفيد أنهم ينهون عن كل منكر فلا يقع الخطأ بينهم ويوافق عليه لأنه منكر. (نفسه: 324)...

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :

{وتؤمنون بالله} يتضمن الإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به، لأن الإيمان به إنما يحق ويعتد به إذا حصل الإيمان بكل ما أمر أن يؤمن به، وإنما أخره وحقه أن يقدم لأنه قصد بذكره الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيمانا بالله وتصديقا به وإظهارا لدينه...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

الذي يظهر أنها من تمام الخطاب الأول في قوله: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} وتوالت بعد هذا مخاطبات المؤمنين من أوامر ونواهٍ، وكان قد استطرد من ذلك لذكر مَنْ يبيض وجهه ويسودّ، وشيء من أحوالهم في الآخرة، ثم عاد إلى الخطاب الأول فقال تعالى: كنتم خير أمّة تحريضاً بهذا الإخبار على الانقياد والطواعية...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان من رجوع الأمور إليه هدايته من يشاء وإضلاله من يشاء قال -مادحاً لهذه الأمة ليمعنوا في رضاه حمداً وشكراً و مؤيساً لأهل الكتاب عن إضلالهم ليزدادوا حيرة وسكراً: {كنتم خير أمة} أي وجدتم على هذا الوصف الثابت لكم جبلة وطبعاً. ثم وصف الأمة بما يدل على عموم الرسالة وأنهم سيقهرون أهل الكتاب فقال: {أخرجت للناس} ثم بين وجه الخيرية بما لم يحصل مجموعه لغيرهم على ما هم عليه من المكنة بقوله: {تأمرون} أي على سبيل التجدد والاستمرار {بالمعروف} أي كل ما عرفه الشرع وأجازه {وتنهون عن المنكر} وهو ما خالف ذلك، ولو وصل الأمر إلى القتال، مبشراً لهم بأنه قضى في ألأزل أنهم يمتثلون ما أمرهم به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} إراحة لهم من كلفة النظر في أنهم هل يمتثلون فيفلحوا، وإزاحة لحملهم أعباء الخطر بكونهم يعانون عليه ليفوزوا ويربحوا، فصارت فائدة الأمر كثيرة الثواب بقصد امتثال الواجب...

ولما أخبر عنهم بهذا الوصف الشريف في نفسه أتبعه ما زاده شرفاً، وهو أنهم فعلوه في حال إيمانهم فهو معتبر به لوجود شرطه الذي هو أساس كل خير فقال {وتؤمنون} أي تفعلون ذلك والحال أنكم تؤمنون {بالله} أي الملك الأعلى الذي تاهت الأفكار في معرفة كنه ذاته، وارتدت نوافذ أبصار البصائر خاسئة عن حصر صفاته، أي تصدقون أنبياءه ورسله بسببه في كل ما أخبروا به قولاً وفعلاً ظاهراً وباطناً، وتفعلون جميع أوامره وتنهون عن جميع مناهيه؛ وهذا يفهم أن من لم يؤمن كإيمانهم فليس من هذه الأمة أصلاً، لأن الكون المذكور لا يحصل إلا بجميع ما ذكر، وكرر الاسم الأعظم زيادة في تعظيمهم، وقد صدق الله ومن أصدق من الله حديثاً!...

ولما كان من المعلوم أن التقدير: وذلك خير لكم، عطف عليه قوله: {ولو آمن أهل الكتاب} أي أوقعوا الإيمان كما آمنتم بجميع الرسل وجميع ما أنزل عليهم في كتابهم وغيره، ولم يفرقوا بين شيء من ذلك {لكان} أي الإيمان {خيراً لهم} إشارة إلى تسفيه أحلامهم في وقوفهم مع ما منعهم عن الإيمان من العرض القليل الفاني والرئاسة التافهة، وتركهم الغنى الدائم والعز الباهر الثابت. ولما كان هذا ربما أوهم أنه لم يؤمن منهم أحد قال مستأنفاً: {منهم المؤمنون} أي الثابتون في الإيمان، ولكنهم قليل {وأكثرهم الفاسقون} أي الخارجون من رتبة الأوامر والنواهي خروجاً يضمحل معه خروج غيرهم.

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} كلامٌ مستأنفٌ سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق والدعوةِ إلى الخير، وكنتم من كان الناقصةِ التي تدل على تحقق شيءٍ بصفة في الزمان الماضي من غير دَلالةٍ على عدم سابقٍ أو لاحق كما في قوله تعالى: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَحِيماً} [النساء، الآية 96. وفي غيرها]...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

بعدما أمر الله تعالى بالاعتصام بحبله وذكر بنعمته على المؤمنين بتأليف القلوب وأخوة الإسلام- وبعدما نهى عن التفرق في الأهواء والاختلاف في الدين وتوعد على ذلك بالعذاب العظيم – بين فضل المعتصمين بحبله، المتآخين في دينه، المتحابين فيه، ووصفهم بهذا الوصف الشريف (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) فعلم منه أن خيرية الأمة وفضلها على غيرها تكون بهذه الأمور: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله تعالى... ولكن هذه الخيرية لا يستحقها من ليس لهم من الإسلام واتباع النبي صلى الله عليه وسلم إلا الدعوى وجعل الدين جنسية لهم بل لا يستحقها من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحج البيت الحرام والتزام الحلال واجتنب الحرام مع الإخلاص الذي هو روح الإسلام، إلا بعد القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالاعتصام بحبل الله مع اتقاء التفرق والخلاف في الدين...

وتقديم الأمر والنهي للتعريض بأهل الكتاب الذين كانوا يدعون الإيمان ولا يقدرون على ادعاء القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم كانوا في مجموعهم لا يتناهون عن منكر فعلوه وادعاء ما تكذبه المشاهدة يفضح صاحبه، فقدم ذكر الأمر والنهي لأنهم لا مجال لهم في دعوى مشاركة المؤمنين فيه وأخر ذكر الإيمان الذي يدعونه ليرتب عليه بيان أنه إيمان غير صحيح لأنه لم يأت بثمر الإيمان الصحيح ولذلك قال: (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم) أي لو آمنوا الإيمان الصحيح الذي يستولي على النفوس ويملك أزمة الأهواء فيكون مصدرا لأحاسن الأعمال كما تؤمنون أنتم لكان خيرا لهم مما يدعون من الإيمان التقليدي الذي لا يزع من الشرور، ولا يرفع صاحبه إلى معالي الأمور. وبهذا التفسير يندفع سؤال...: لم اكتفى بذكر الإيمان بالله ولم يذكر الإيمان بالنبوة؟ فإذا كان الكلام تعريضا بأن القوم لا يؤمنون بالله إيمانا صحيحا فأي حاجة إلى ذكر الإيمان بغيره، على أنه لو ذكر غير ذلك لكان المناسب أن يذكر الإيمان برسوله وهو محل خلاف بين الفريقين أو الإيمان بالرسل كافة وأهل الكتاب اشتهروا بذلك... ثم صرح بعد التعريض بأنهم لو آمنوا لكان خيرا لهم ولم يقل لو آمنوا بالله بل أطلق ليدل على أن إيمانهم بكل ما يؤمنون به غير صحيح لأنه لم يأت بثمرات الإيمان الصحيح كما قلنا آنفا...

وجعل الأستاذ الإمام هذه الجملة متعلقة بمجموع الكلام السابق فقال: إنه بعد ما نهانا سبحانه عن التفرق والاختلاف كما تفرق أهل الكتاب بعد ما جاءتهم البينات، وأمرنا بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر أننا خير أمة أخرجت للناس بهذا أو بالإيمان الحقيقي الذي يقترن بالإذعان النفسي والاتباع العملي – ناسب أن يذكر أن أهل الكتاب المختلفين ليسوا مؤمنين هذا الإيمان الخالص الذي يحبه الله تعالى ويرضاه وهو الذي يكون الأمر بالمعروف ثمرة من ثماره والنهي عن المنكر أثرا من آثاره، فعلمنا أن المراد بهذا الإيمان شيء أخص من الإيمان العرفي الذي يدعيه كل أحد له دين وكتاب، بل هو ما عرفناه آنفا وقبل ذلك. والكلام يشعر بأنه لا يوجد فيهم مؤمن هذا الإيمان الإذعاني الذي يصحبه الإخلاص والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أنه لا يمكن أن تعرى منه أمة لها دين سماوي. والواقع أنه كان في أهل الكتاب مؤمنون مخلصون ولذلك قال تعالى: (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون)، فعلم أن الحكم الأول على الأمة إنما هو حكم على أكثر أفرادها، فهم الذين فسقوا عن حقيقة الدين ولم يبق عندهم منه إلا بعض الرسوم والتقاليد الظاهرة. فالكلام استئناف بياني لا استطراد كما قيل. هذا ما يؤخذ من كلام الأستاذ الإمام.

وجمهور المفسرين على أن المعنى: ولو آمن أهل الكتاب بما آمنتم به كما آمنتم لكان خيرا لهم في الدنيا والآخرة، ولكن آمن بعضهم فمنهم المؤمنون كعبد الله سلام ورهطه من اليهود والنجاشي ورهطه من النصارى، وأكثرهم فاسقون عن دينهم أي خارجون منه، أو فاسقون في دينهم غير عدول فيه، فلا حصلوا الإسلام وهو أكمل الأديان ولا تمسكوا بما عندهم، أو أكثرهم متمردون في الكفر، هكذا اختلف تعبيرهم فيؤخذ منه أنه لم يكن من أهل الكتاب أحد ممسك بدينه مخلصا فيه، عاملا بأوامره ونواهيه، وهذا غير معقول ولا موافق لما عرف من طبيعة البشر من ميل أناس منهم إلى الغلو في الدين واعتدال أناس آخرين وميل غير هؤلاء وأولئك إلى الفسوق والعصيان. فما من أهل دين إلا وفيهم الفرق الثلاث، وإنما يكثر الاستمساك بالدين في أوائل ظهوره. ويكثر الفسق بعد طول الأمد عليه. قال تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثيرة منهم فاسقون) [الحديد: 16] فما عدا هذا الكثير هم المستمسكون بدينهم. والقرآن لم يحكم على أمة بالضلال والفسق بنص عام يستغرق جميع الأفراد، بل يعبر تارة بالكثير وتارة بالأكثر، وإذا أطلق أداة العموم يستثني بمثل قوله في بني إسرائيل: (ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) [البقرة: 83] وقوله فيهم: (فلا يؤمنون إلا قليلا) أو يحكم على البعض ابتداء كما تقدم في قوله: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك) [آل عمران: 75] الآية. وقال تعالى فيهم: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) [الأعراف: 159] وقال فيهم وفي النصارى: (منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون) [المائدة 66]... فقد أثبت لبعضهم الإيمان والاقتصاد أي الاعتدال في الدين والهداية بالحق والعدل. وقال: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) [النساء: 162] فجعل أهل العلم الذين يفهمون الدلائل والبراهين وأهل الإيمان المخلصين الذين يتحرون الحق هم الذين يقبلون دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لقوة استعدادهم...

وجملة القول: إن القرآن يبين حقائق ما عليه الأمم في عقائدها وأخلاقها وأعمالها يزن ذلك بالقسطاس المستقيم والدقة التي نراها في تحريه الحقيقة لم نعهدها في كتاب عالم ولا مؤرخ. فإذا نحن جمعنا ما حكم له على أهل الكتاب وغيرهم وعرضناه على علمائهم وفلاسفتهم ومؤرخيهم فإنهم يذعنون بأنه لباب الحقيقة بل هم يصرحون بأنه لولا غلبة الضلال والفسق والكفر عليهم في عصر ظهور الإسلام لما انتشر ذلك الانتشار السريع. ولكن وجد فينا من طمس هذه المزية وجعلوا كل ما ينكره القرآن من فساد الأمم من قبيل هجو غير المسلمين؛ وكل ما يحمده هو خاص بالمسلمين؛ حتى كأنه شعر لا يقصد منه إلا مدح أناس وذم آخرين، وبهذا ينفرون غير المسلمين من الإسلام ويحولون بين المسلمين وبين العبرة والاتعاظ وفهم الحقائق...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

بعدئذ يصف الأمة المسلمة لنفسها! ليعرفها مكانها وقيمتها وحقيقتها؛ ثم يصف لها أهل الكتاب -ولا يبخسهم قدرهم، إنما يبين حقيقتهم ويطمعهم في ثواب الإيمان وخيره- ويطمئن المسلمين من جانب عدوهم. فهم لن يضروهم في كيدهم لهم وقتالهم، ولن ينصروا عليهم. وللذين كفروا منهم عذاب النار في الآخرة، لا ينفعهم فيه ما أنفقوا في الحياة الدنيا بلا إيمان ولا تقوى...

إن شطر الآية الأولى في هذه المجموعة يضع على كاهل الجماعة المسلمة في الأرض واجبا ثقيلا، بقدر ما يكرم هذه الجماعة ويرفع مقامها، ويفردها بمكان خاص لا تبلغ إليه جماعة أخرى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله.) إن التعبير بكلمة "أخرجت "المبني لغير الفاعل، تعبير يلفت النظر. وهو يكاد يشي باليد المدبرة اللطيفة، تخرج هذه الأمة إخراجا؛ وتدفعها إلى الظهور دفعا من ظلمات الغيب، ومن وراء الستار السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله.. إنها كلمة تصور حركة خفية المسرى، لطيفة الدبيب. حركة تخرج على مسرح الوجود أمة. أمة ذات دور خاص. لها مقام خاص، ولها حساب خاص: (كنتم خير أمة أخرجت للناس).. وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة؛ لتعرف حقيقتها وقيمتها، وتعرف أنها أخرجت لتكون طليعة، ولتكون لها القيادة، بما أنها هي خير أمة. والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض. ومن ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية. إنما ينبغي دائما أن تعطي هذه الأمم مما لديها. وأن يكون لديها دائما ما تعطيه. ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح، والتصور الصحيح، والنظام الصحيح، والخلق الصحيح، والمعرفة الصحيحة، والعلم الصحيح.. هذا واجبها الذي يحتمه عليها مكانها، وتحتمه عليها غاية وجودها. واجبها أن تكون في الطليعة دائما، وفي مركز القيادة دائما. ولهذا المركز تبعاته، فهو لا يؤخذ ادعاء، ولا يسلم لها به إلا أن تكون هي أهلا له.. وهي بتصورها الاعتقادي، وبنظامها الاجتماعي أهل له. فيبقى عليها أن تكون بتقدمها العلمي، وبعمارتها للأرض -قياما بحق الخلافة- أهلا له كذلك.. ومن هذا يتبين أن المنهج الذي تقوم عليه هذه الأمة يطالبها بالشيء الكثير؛ ويدفعها إلى السبق في كل مجال.. لو أنها تتبعه وتلتزم به، وتدرك مقتضياته وتكاليفه. وفي أول مقتضيات هذا المكان، أن تقوم على صيانة الحياة من الشر والفساد.. وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فهي خير أمة أخرجت للناس. لا عن مجاملة أو محاباة، ولا عن مصادفة أو جزاف -تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا- وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون: (نحن أبناء الله وأحباؤه).. كلا! إنما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر، وإقامتها على المعروف، مع الإيمان الذي يحدد المعروف والمنكر: (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).. فهو النهوض بتكاليف الأمة الخيرة، بكل ما وراء هذه التكاليف من متاعب، وبكل ما في طريقها من أشواك.. إنه التعرض للشر والتحريض على الخير وصيانة المجتمع من عوامل الفساد.. وكل هذا متعب شاق، ولكنه كذلك ضروري لإقامة المجتمع الصالح وصيانته؛ ولتحقيق الصورة التي يحب الله أن تكون عليها الحياة.. ولا بد من الإيمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم، والتعريف الصحيح للمعروف والمنكر. فإن اصطلاح الجماعة وحده لا يكفي. فقد يعم الفساد حتى تضطرب الموازين وتختل. ولا بد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير وللشر، وللفضيلة والرذيلة، وللمعروف والمنكر. يستند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال. وهذا ما يحققه الإيمان، بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه. وللإنسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون..

ومن هذا التصور العام تنبثق القواعد الأخلاقية. ومن الباعث على إرضاء الله وتوقي غضبه يندفع الناس لتحقيق هذه القواعد. ومن سلطان الله في الضمائر، وسلطان شريعته في المجتمع تقوم الحراسة على هذه القواعد كذلك. ثم لا بد من الإيمان أيضا ليملك الدعاة إلى الخير، الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر، أن يمضوا في هذا الطريق الشاق، ويحتملوا تكاليفه. وهم يواجهون طاغوت الشر في عنفوانه وجبروته، ويواجهون طاغوت الشهوة في عرامتها وشدتها، ويواجهون هبوط الأرواح، وكلل العزائم، وثقلة المطامع.. وزادهم هو الإيمان، وعدتهم هي الإيمان. وسندهم هو الله.. وكل زاد سوى زاد الإيمان ينفد. وكل عدة سوى عدة الإيمان تفل، وكل سند غير سند الله ينهار! وقد سبق في السياق الأمر التكليفي للجماعة المسلمة أن ينتدب من بينها من يقومون بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما هنا فقد وصفها الله سبحانه بأن هذه صفتها. ليدلها على أنها لا توجد وجودا حقيقيا إلا أن تتوافر فيها هذه السمة الأساسية، التي تعرف بها في المجتمع الإنساني. فإما أن تقوم بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -مع الإيمان بالله- فهي موجودة وهي مسلمة. وأما أن لا تقوم بشيء من هذا فهي غير موجودة، وغير متحققة فيها صفة الإسلام...

ثم نعود إلى الشطر الآخر من الآية الأولى في هذه المجموعة.. (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم. منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون).. وهو ترغيب لأهل الكتاب في الإيمان. فهو خير لهم. خير لهم في هذه الدنيا، يستعصمون به من الفرقة والهلهلة التي كانوا عليها في تصوراتهم الاعتقادية، والتي ما تزال تحرمهم تجمع الشخصية. إذ تعجز هذه التصورات عن أن تكون قاعدة للنظام الاجتماعي لحياتهم، فتقوم أنظمتهم الاجتماعية -من ثم- على غير أساس، عرجاء أو معلقة في الهواء ككل نظام اجتماعي لا يقوم على أساس اعتقادي شامل، وعلى تفسير كامل للوجود، ولغاية الوجود الإنساني، ومقام الإنسان في هذا الكون.. وخير لهم في الآخرة يقيهم ما ينتظر غير المؤمنين من مصير. ثم هو بيان كذلك لحالهم، لا يبخس الصالحين منهم حقهم: (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون).. وقد آمن من أهل الكتاب جماعة وحسن إسلامهم. منهم عبد الله بن سلام، وأسد بن عبيد، وثعلبة بن شعبة، وكعب بن مالك.. وإلى هؤلاء تشير الآية هنا بالإجمال -وفي آية تالية بالتفصيل- أما الأكثرون فقد فسقوا عن دين الله، حين لم يفوا بميثاق الله مع النبيين: أن يؤمن كل منهم بأخيه الذي يجيء بعده، وأن ينصره. وفسقوا عن دين الله وهم يأبون الاستسلام لإرادته في إرسال آخر الرسل من غير بني إسرائيل، واتباع هذا الرسول وطاعته ولاحتكام إلى آخر شريعة من عند الله، أرادها للناس أجمعين.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

يتنزّل هذا منزلة التَّعليل لأمرهم بالدّعوة إلى الخير، وما بعده فإن قوله {تأمرون بالمعروف} حال من ضمير كنتم، فهو مؤذن بتعليل كونهم خيرَ أمَّة فيترتب عليه أنّ ما كان فيه خيريتهم يجدر أن يفرض عليهم، إن لم يكن مفروضاً من قبل، وأن يؤكد عليهم فرضه، إن كان قد فرض عليهم من قبل. والخطاب في قوله {كنتم} إمَّا لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم... وإمّا أن يكون الخطاب بضمير {كنتم} للمسلمين كلّهم في كلّ جيل ظهروا فيه، ومعنى تفضيلهم بالأمر بالمعروف مع كونه من فروض الكفايات لا تقوم به جميع أفراد الأمّة لا يخلو مسلم من القيام بما يستطيع القيام به من هذا الأمر، على حسب مبلغ العلم ومنتهى القدرة،...

فمعنى {كنتم خير أمة} وجدتم على حالة الأخيرية على جميع الأمم، أي حصلت لكم هذه الأخيرية بحصول أسبابها ووسائلها، لأنّهم اتّصفوا بالإيمان، والدّعوة للإسلام، وإقامته على وجهه، والذبّ عنه النقصانَ والإضاعة لتحقّق أنّهم لمّا جُعل ذلك من واجبهم، وقد قام كُلّ بما استطاع، فقد تحقّق منهم القيام به، أو قد ظهر منهم العزم على امتثاله، كُلّما سنح سانح يقتضيه، فقد تحقّق أنهم خير أمَّة على الإجمال فأخبر عنهم بذلك. هذا إذا بنَينا على كون الأمر في قوله آنفاً {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [آل عمران: 104] وما بعده من النهي في قوله {ولا تكونوا كالذين تفرقوا} [آل عمران: 105] الآية، لم يكن حاصلاً عندهم من قبل. ويجوز أن يكون المعنى: {كنتم خير أمة} موصوفين بتلك الصّفات فيما مضى تفعلونها إمَّا من تلقاء أنفسكم، حرصاً على إقامة الدّين واستحساناً وتوفيقاً من الله في مصادفتكم لمرضاته ومراده، وإمّا بوجوب سابق حاصل من آيات أخرى مثل قوله: {وتواصوا بالحق} [العصر: 3] وحينئذٍ فلمَّا أمرهم بذلك على سبيل الجزم، أثنى عليهم بأنَّهم لم يكونوا تاركيه من قبل، وهذا إذا بنَينا على أنّ الأمر في قوله {ولتكن منكم أمة} [آل عمران: 104] تأكيداً لما كانوا يفعلونه، وإعلام بأنَّه واجب، أو بتأكيد وجوبه على الوجوه التي قدّمتها عند قوله {ولتكن منكم أمة}... والمراد بأمَّة عمومُ الأمم كلّها على ما هو المعروف في إضافة أفعل التفضيل إلى النكرة أن تكون للجنس فتفيد الاستغراق. وقوله {أخرجت للناس} الإخراج مجاز في الإيجاد والإظهار... والمراد بالناس جميع البشر من أوّل الخليقة. وجملة: {تأمرون بالمعروف} حال في معنى التَّعليل إذ مدلولها ليس من الكيفيات المحسوسة حتّى تحكى الخيرية في حال مقارنتها لها، بل هي من الأعمال النَّفسية الصالحة للتعليل لا للتوصيف، ويجوز أن يكون استئنافاً لبيان كونهم خير أمَّة... وإنّما قدّم {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} على قوله {وتؤمنون بالله} لأنهما الأهم في هذا المقام المسوق للتنويه بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحاصلة من قوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [آل عمران: 104] والاهتمام الذي هو سبب التقديم يختلف باختلاف مقامات الكلام ولا ينظر فيه إلى ما في نفس الأمر لأنّ إيمانهم ثابت محقّق من قبل. وإنَّما ذكر الإيمان بالله في عداد الأحوال التي استحقوا بها التفضيل على الأمم، لأنّ لكلّ من تلك الأحوال الموجبة للأفضلية أثراً في التفَّضيل على بعض الفرق، فالإيمان قصد به التفضيل على المشركين الذين كانوا يفتخرون بأنهم أهل حرم الله وسدنة بيته وقد ردّ الله ذلك صريحاً في قوله: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله} [التوبة: 19] وذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قصد به التفضيل على أهل الكتاب، الذين أضاعوا ذلك بينهم، وقد قال تعالى فيهم {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} [المائدة: 79]...

{وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون}. عطف على قوله {كنتم خير أمة أخرجت للناس} لأن ذلك التفضيل قد غمر أهل الكتاب من اليهود وغيرهم فنبّههم هذا العطف إلى إمكان تحصيلهم على هذا الفضل، مع ما فيه من التعريض بهم بأنَّهم متردّدون في اتباع الإسلام، فقد كان مخيريق متردّداً زماناً ثمّ أسلم، وكذلك وفد نجران تردّدوا في أمر الإسلام. وأهل الكتاب يشمل اليهود والنصارى، لكن المقصود الأول هنا هم اليهود، لأنَّهم كانوا مختلطين بالمسلمين في المدينة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام، وقصد بيت مدراسهم، ولأنهم قد أسلم منهم نفر قليل... ولم يذكر متعلق (آمن) هنا لأنّ المراد لو اتَّصفوا بالإيمان الذي هو لقب لدين الإسلام وهو الذي منه أطلقت صلة الذين آمنوا على المسلمين فصار كالعلم بالغلبة، وهذا كقولهم أسْلَم، وَصَبَأ، وأشْرَكَ، وألْحَد، دون ذكر متعلّقات لهاته الأفعال لأن المراد أنَّه اتَّصف بهذه الصّفات التي صارت أعلاماً على أديان معروفة، فالفعل نُزّل منزلة اللازم، وأظهر منه: تَهَوّد، وتَنَصّر، وتَزَنْدق، وتَحَنَّف، والقرينة على هذا المعنى ظاهرة وهي جعل إيمان أهل الكتاب في شرط الامتناع، مع أنّ إيمانهم بالله معروف لا ينكره أحد...

{منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} أي منهم من آمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم فصدق عليه لقب المؤمن... وفريق منهم فاسق عن دينه، محرّف له، مناوٍ لأهل الخير، كما قال تعالى: {ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس} مثل الذين سَمُّوا الشاة لرسول الله يوم خيْبر، والذين حاولوا أن يرموا عليه صخرة...

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

ولقد جاءت الآيات وبخاصة الفقرة الأولى من الآية الأولى التي تقرر أن المؤمنين بالرسالة المحمدية هم خير أمة أخرجت للناس في مقامها الذي هو في صدد اليهود ناسخة لكل ما ورد في الآيات القرآنية السابقة عن تفضيل بني إسرائيل على العالمين أو حاصرة لذلك في زمن مضى حينما كانوا صابرين مستقيمين على وصايا الله وشرائعه...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 104]

هذه الآيات من سورة آل عمران تعالج موضوعا حيويا وجوهريا في الإسلام، قد عالجه القرآن الكريم وجدد القول في شأنه في عدة آيات وفي عدة سور، إذ به فضل الله المسلمين على غيرهم من الأمم، ألا وهو موضوع القيام بالدعوة الإسلامية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد قام الإسلام من أول نشأته على الدعوة إلى الله، والدعوة إلى الخير بكافة وجوهه وبجميع أصنافه، وهذه الدعوة مترتبة في ذمم المسلمين وفي أعناقهم، عليهم واجب القيام بها في كل عصر نحو أنفسهم ونحو الناس أجمعين، ولا يعفيهم منها ولا يسمح لهم بالتقصير فيها أي شيء...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

مكافحة الفساد والدعوة إلى الحقّ أيضاً:

في هذه الآية تطرح مرّة أخرى مسألة «الأمر بالمعروف» و «النهي عن المنكر»، وتعتبر الآية الحاضرة هاتين المسألتين واجبين عموميين كما مرّ في تفسير الآية (104)، بينما تبين الآية السابقة مرحلة خاصّة، وهي مرحلة الوجوب الكفائي أي الخاصّ بجماعة معينة، كما مرّ تفصيله.

فالآية السابقة تشير إلى القسم الخاصّ، وهذه الآية تشير إلى القسم العام من هاتين الفريضتين.

والجدير بالذكر أن القرآن الكريم يصف المسلمين في هذه الآية بأنهم خير أمة هُيئت وعُبئت لخدمة المجتمع الإنساني، والدليل على أن هذه الأُمة خير أمة رشحت لهذه المهمة الكبرى هو «قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإيمانها بالله» وهذا يفيد أن إصلاح المجتمع البشري لا يمكن بدون الإيمان بالله والدعوة إلى الحقّ، ومكافحة الفساد، كما ويستفاد من ذلك أن هاتين الوظيفتين مع ما هما عليه من السعة في الإسلام ممّا تفرد بهما هذا الدين من دون بقية الشرائع السابقة.

أما لماذا يجب أن تكون هذه الأُمة خير الأمم، فسببه واضح كذلك. لأنها تختص بآخر الأديان الإلهية والشرائع السماوية، ولا شكّ أن هذا يقتضي أن يكون أكمل الشرائع وأتمها في سلم الأديان.

وقفتان عند هذه الآية:

ثمّ إنه يتعين علينا أن ننتبه إلى نقطتين أُخريين في هذه الآية وهما:

الأولى: التعبير بلفظ الماضي «كنتم» يعني أنكم كنتم كذلك في السابق، ومفهوم هذا التعبير وإن كان موضع احتمالات كثيرة بين المفسّرين، إلاَّ أن ما يترجح عند النظر هو أن التعبير بالمضي إنما هو لأجل التأكيد، والتلويح بأن الشيء محقّق الوقوع، ولذلك نظائر كثيرة في الكتاب العزيز حيث عبّر عن القضايا المحقّقة الوقوع بصيغة الفعل الماضي، لإفادة أن ذلك ممّا يقع حتماً حتّى أنه نزل منزلة الماضي الذي قد تحقّق فعلاً.

الثانية: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قُدِّما في هذه الآية على الإيمان بالله، وذلك خير شاهد على أهمية هاتين الفريضتين الإلهيتين وخطورتهما مضافاً إلى أن القيام بهذين الواجبين المقدسين ممّا يوجب انتشار الإيمان، واتساع رقعته، وتعميق جذوره في النفوس، وتنفيذ كلّ القوانين الفردية والاجتماعية، ولا ريب أن ما يضمن تنفيذ القانون وتطبيقه مقدّم على نفس القانون.

بل إن تعطيل هذين الواجبين يوجب ضعف العقائد في القلوب، وانهيار قواعد الإيمان في النفوس، ولهذا كلّه كان طبيعياً أن يقدما على الإيمان.

من هذا البيان يتضح أن المسلمين «خير أُمة» ما داموا يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإذا نسوا هاتين الفريضتين وأهملوهما لم يعودوا خير أُمة، كما لم يعودوا في خدمة المجتمع البشري أبداً.

على أن المخاطب في هذه الآية هم عموم المسلمين في جميع العصور كما هو الحال في كلّ الخطابات القرآنية، فما احتمله البعض من أنه خاص بالمهاجرين أو المسلمين الأوائل لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه.

ثم إن الآية تشير إلى أن ديناً بمثل هذا الوضوح، وتشريعاً بمثل هذه العظمة، وتعاليم تنطوي على مثل هذه الفوائد التي لا تنكر، ينبغي أن يؤمن به أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأن في ذلك صلاحهم، وخيرهم إذ يقول سبحانه: (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم).

ولكن وللأسف لم يؤمن به إلاّ قلّة ممّن نبذ التعصب الأعمى، واعتنق الإسلام برغبة صادقة، واستقبل هذا الدين برحابة صدر، فيما أعرض الأكثرون منهم، وفضلوا البقاء على ما هم عليه من الكفر والعصبية على إتباع هذا الأمر الإلهي، متجاهلين حتّى تلك البشائر التي نطقت بها كتبهم حول هذا الدين وإلى هذا يشير سبحانه بقوله (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) الخارجون عن هذا الأمر الإلهي.