فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (110)

قوله : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } هذا كلام مستأنف يتضمن بيان حال هذه الأمة في الفضل على غيرها من الأمم ، و «كان » قيل : هي التامة ، أي : وجدتم ، وخلقتم خير أمة ، ومثله ما أنشده سيبويه :

وَجِيرانٍ لَنا كَانُوا كرام *** . . .

ومنه قوله تعالى { كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً } [ مريم : 29 ] وقوله : { واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } [ الأعراف : 86 ] . وقال الأخفش : يريد أهل أمة : أي خير أهل دين ، وأنشد :

حلفتُ فلم أتْركْ لِنَفْسِك رِيبةً *** وَهَلْ يْأثَمَنْ ذُو أمَّةٍ وَهُو طَائِعَ

وقيل : معناه : كنتم في اللوح المحفوظ ، وقيل : كنتم منذ آمنتم . وفيه دليل على أن هذه الأمة الإسلامية خير الأمم على الإطلاق ، وأن هذه الخيرية مشتركة ما بين أول هذه الأمة ، وآخرها بالنسبة إلى غيرها من الأمم ، وإن كانت متفاضلة في ذات بينها . كما ورد في فضل الصحابة على غيرهم . قوله : { أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } أي : أظهرت لهم . وقوله : { تَأْمُرُونَ بالمعروف } الخ كلام مستأنف يتضمن بيان كونهم خير أمة مع ما يشتمل عليه من أنهم خير أمة ما أقاموا على ذلك ، واتصفوا به ، فإذا تركوا الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر زال عنهم ذلك ، ولهذا قال مجاهد : إنهم خير أمة على الشرائط المذكورة في الآية ، وهذا يقتضي أن يكون تأمرون ، وما بعده في محل نصب على الحال أي : كنتم خير أمة حال كونكم آمرين ناهين مؤمنين بالله ، وبما يجب عليكم الإيمان به من كتابه ، ورسوله ، وما شرعه لعباده ، فإنه لا يتم الإيمان بالله سبحانه إلا بالإيمان بهذه الأمور . قوله : { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب } أي : اليهود إيماناً كإيمان المسلمين بالله ، ورسله وكتبه : { لَكَانَ خَيْراً لهُمْ } ولكنهم لم يفعلوا ذلك ؛ بل قالوا : نؤمن ببعض الكتاب ، ونكفر ببعض ، ثم بين حال أهل الكتاب بقوله : { منْهُمُ المؤمنون } وهم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ، فإنهم آمنوا بما أنزل عليه ، وما أنزل من قبله : { وَأَكْثَرُهُم الفاسقون } أي : الخارجون عن طريق الحق المتمردون في باطلهم المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولما جاء به ، فيكون هذا التفصيل على هذا كلاماً مستأنفاً جواباً ، عن سؤال مقدر ، كأنه قيل : هل منهم من آمن فاستحق ما وعده الله .

/خ112