معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسۡـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ} (273)

قوله تعالى : { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } . اختلفوا في موضع هذه اللام : قيل هي مردودة على موضع اللام من قوله ( فلأنفسكم ) كأنه قال : وما تنفقوا من خير فللفقراء ، وإنما تنفقون لأنفسكم ، وقيل : معناها الصدقات التي سبق ذكرها ، وقيل : خبره محذوف تقديره : للفقراء الذين صفتهم كذا حق واجب ، وهم فقراء المهاجرين ، كانوا نحواً من أربعمائة رجل ، لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر ، وكانوا في المسجد يتعلمون القرآن ، ويرضخون النوى بالنهار ، وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أصحاب الصفة ، فحث الله تعالى عليهم الناس ، فكان من عنده فضل أتاهم به أذا أمسى . ( الذين أحصروا في سبيل الله ) فيه أقاويل ، قال قتادة : وهو هؤلاء حسبوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله .

قوله تعالى : { لا يستطيعون ضربا في الأرض } . لا يتفرغون للتجارة وطلب المعاش ، وهم أهل الصفة الذين ذكرناهم ، وقيل : حسبوا أنفسهم على طاعة الله ، وقيل : معناه حسبهم الفقر والعدم عن الجهاد في سبيل الله ، وقيل : هؤلاء قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد في سبيل الله فصاروا زمني ، أحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في سبيل الله للجهاد ، وقيل : معناه من كثرة ما جاهدوا صارت الأرض كلها حرباً عليهم فلا يستطيعون ضرباً في الأرض من كثرة أعدائهم .

قوله تعالى : { يحسبهم } . قرأ أبو جعفر وابن عامر وعاصم وحمزة : " يحسبهم " وبابه بفتح السين ، وقرأ الآخرون بالكسر .

قوله تعالى : { الجاهل } . بحالهم .

قوله تعالى : { أغنياء من التعفف } . أي من تعففهم عن السؤال وقناعتهم ، يظن من لا يعرف حالهم أنهم أغنياء ، والتعفف التفعل ، من العفة وهي الترك ، يقال :عف عن الشيء إذا كف عنه ، وتعفف إذا تكلف في الإمساك .

قوله تعالى : { تعرفهم بسيماهم } . السيماء والسيمياء والسمة : العلامة التي يعرف بها الشيء ، واختلفوا في معناها هاهنا فقال مجاهد : هو التخشع والتواضع وقال السدي : أثر الجهد من الحاجة والفقر ، وقال الضحاك : صفرة ألوانهم من الجوع والضر ، وقيل رثاثة ثيابهم .

قوله تعالى : { لا يسألون الناس إلحافا } . قال عطاء : إذا كان عندهم غداء لا يسألون عشاء ، وإذا كان عندهم عشاء لا يسألون غداء ، وقيل معناه : لا يسألون الناس إلحافاً أصلاً ، لأنه قال : من التعفف ، والتعفف ترك السؤال ، ولأنه قال : تعرفهم بسيماهم ، ولو كانت المسألة من شأنهم لما كانت إلى معرفتهم بالعلامة من حاجة ، فمعنى الآية : ليس لهم سؤال فيقع فيه إلحاف ، والألحاف : الإلحاح واللجاج .

أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن إبراهيم بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن يعقوب ، أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا أنس بن عياض عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن الزبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأن يأخذ أحدكم حبله ، فيذهب فيأتي بحزمة حطب غلى ظهره ، فيكف الله بها وجهه ، خير له من أن يسأل الناس أشياءهم أعطوه أم منعوه " .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس ، ترده اللقمة واللقمتان والتمر والتمرتان . قالوا : فمن المسكين يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يجد غنى فيغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يقوم فيسأل الناس " . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافاً " .

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الظاهري ، أخبرنا جدي سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أخبرنا محمد بن زكريا بن غدافر ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد الديري ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن هارون بن ريان ، عن كنانة العدوي ، قبيصة بن مخارق قال : " إني تحملت بحمالة في قومي ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسوا الله إني تحملت بحمالة في قومي وأتيتك لتعينني فيها " قال : بل نتحملها عنك يا قبيصة ، ونؤديها إليهم من الصدقة ثم قال : يا قبيصة إن المسألة حرمت إلا في إحدى ثلاث : في رجل أصابته جاحة فاجتاحت ماله فيسأل حتى يصيب قواماً من عيشه ثم يمسك ، وفي رجل أصابته حاجة حتى يشهد له ثلاثة نفر من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة أن المسألة قد حلت له ، فيسأل حتى يصيب القوام من العيش ثم يمسك ، وفي رجل تحمل بحمالة فيسأل حتى إذا بلغ أمسك ، وما كان غير ذلك فإنه سحت يأكله صاحبه سحتاً " .

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو عبد الجبار ابن محمد الجراحي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي ، أخبرنا قتيبة ، أخبرنا شريك عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أوخدوش أو كدوح قيل يا رسول الله وما يغنيه ؟ قال : خمسون درهماً أو قيمتها ذهبا " .

قوله تعالى : { وما تنفقوا من خير } . من مال .

قوله تعالى : { فإن الله به عليم } . وعليه مجازي .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسۡـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ} (273)

ثم ذكر مصرف النفقات الذين هم أولى الناس بها فوصفهم بست صفات أحدها الفقر ، والثاني قوله : { أحصروا في سبيل الله } أي : قصروها على طاعة الله من جهاد وغيره ، فهم مستعدون لذلك محبوسون له ، الثالث عجزهم عن الأسفار لطلب الرزق فقال : { لا يستطيعون ضربا في الأرض } أي : سفرا للتكسب ، الرابع قوله : { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } وهذا بيان لصدق صبرهم وحسن تعففهم . الخامس : أنه قال : { تعرفهم بسيماهم } أي : بالعلامة التي ذكرها الله في وصفهم ، وهذا لا ينافي قوله : { يحسبهم الجاهل أغنياء } فإن الجاهل بحالهم ليس له فطنة يتفرس بها ما هم عليه ، وأما الفطن المتفرس فمجرد ما يراهم{[150]}  يعرفهم بعلامتهم ، السادس قوله : { لا يسألون الناس إلحافا } أي : لا يسألونهم سؤال إلحاف ، أي : إلحاح ، بل إن صدر منهم سؤال إذا احتاجوا لذلك لم يلحوا على من سألوا ، فهؤلاء أولى الناس وأحقهم بالصدقات لما وصفهم به من جميل الصفات ، وأما النفقة من حيث هي على أي شخص كان ، فهي خير وإحسان وبر يثاب عليها صاحبها ويؤجر ، فلهذا قال : { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم }


[150]:- في النسختين: يراه.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسۡـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ} (273)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ للفقراء الّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أغنياء مِنَ التّعَفّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ }

أما قوله : { لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } فبيان من الله عزّ وجلّ عن سبيل النفقة ووجهها . ومعنى الكلام : وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ، تنفقون للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله . واللام التي في الفقراء مردودة على موضع اللام في فلأنفسكم ، كأنه قال : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ } يعني به : وما تتصدّقوا به من مال ، فللفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ، فلما اعترض في الكلام بقوله : «فلأنفسكم » ، فأدخل الفاء التي هي جواب الجزاء فيه تركت إعادتها في قوله : «للفقراء » ، إذ كان الكلام مفهوما معناه . كما :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فِلأَنْفُسِكُمْ } أما «ليس عليك هداهم » ، فيعني المشركين ، وأما النفقة فبين أهلها ، فقال : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله .

وقيل : إن هؤلاء الفقراء الذين ذكرهم الله في هذه الآية ، هم فقراء المهاجرين عامة دون غيرهم من الفقراء . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } مهاجري قريش بالمدينة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أمر بالصدقة عليهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قوله : { لِلْفِقُرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } . . . الآية . قال : هم فقراء المهاجرين بالمدينة .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال : فقراء المهاجرين .

القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } .

يعني تعالى ذكره بذلك : الذين جعلهم جهادهم عدوّهم يحصرون أنفسهم فيحبسونها عن التصرف فلا يستطيعون تصرّفا . وقد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى الإحصار : تصيير الرجل المحصر بمرضه أو فاقته أو جهاده عدوّه ، وغير ذلك من علله إلى حالة يحبس نفسه فيها عن التصرّف في أسبابه بما فيه الكفاية فيما مضى قبل .

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : في ذلك بنحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال : حصروا أنفسهم في سبيل الله للغزو .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال : كانت الأرض كلها كفرا لا يستطيع أحد أن يخرج يبتغي من فضل الله إذا خرج خرج في كفر . وقيل : كانت الأرض كلها حربا على أهل هذا البلد ، وكانوا لا يتوجهون جهة إلا لهم فيها عدوّ ، فقال الله عزّ وجلّ : { لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } . . . الآية¹ كانوا ههنا في سبيل الله .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : الذين أحصرهم المشركون فمنعوهم التصرّف . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } حصرهم المشركون في المدينة .

ولو كان تأويل الآية على ما تأوّله السدي ، لكان الكلام : للفقراء الذين حصروا في سبيل الله ، ولكنه «أحصروا » ، فدلّ ذلك على أن خوفهم من العدوّ الذي صير هؤلاء الفقراء إلى الحال التي حَبسوا وهم في سبيل الله أنفسهم ، لا أن العدوّ هم كانوا الحابسيهم ، وإنما يقال لمن حبسه العدوّ : حصره العدوّ ، وإذا كان الرجل المحبس من خوف العدوّ قيل : أحصره خوف العدوّ .

القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ } .

يعني بذلك جل ثناؤه : لا يستطيعون تقلبا في الأرض ، وسفرا في البلاد ، ابتغاء المعاش وطلب المكاسب ، فيستغنوا عن الصدقات رهبة العدوّ ، وخوفا على أنفسهم منهم . كما :

حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ } حبسوا أنفسهم في سبيل الله للعدوّ ، فلا يستطيعون تجارة .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ } يعني التجارة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد قوله : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ } كان أحدهم لا يستطيع أن يخرج يبتغي من فضل الله .

القول في تأويل قوله تعالى : { يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التّعَفّفِ } .

يعني بذلك : يحسبهم الجاهل بأمرهم وحالهم أغنياء من تعففهم عن المسألة وتركهم التعرّض لما في أيدي الناس صبرا منهم على البأساء والضرّاء . كما :

حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِيَاءَ } يقول : يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء من التعفف .

ويعني بقوله : { مِنَ التّعَفّفِ } من ترك مسألة الناس ، وهو التفعل من العفة عن الشيء ، والعفة عن الشيء : تركه ، كما قال رؤبة :

فَعَفّ عَنْ أسْرَارِها بَعْدَ العَسَقْ

يعني برىء وتجنب .

القول في تأويل قوله تعالى : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ } .

يعني بذلك جل ثناؤه : تعرفهم يا محمد بسيماهم ، يعني بعلامتهم وآثارهم ، من قول الله عزّ وجلّ : { سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السّجُودِ } هذه لغة قريش ، ومن العرب من يقول : «بسيمائهم » فيمدها ، وأما ثقيف وبعض أسد ، فإنهم يقولون : «بسيميائهم » ومن ذلك قول الشاعر :

غُلامٌ رَماهُ اللّهُ بالحُسْنِ يافِعالَهُ سِيمِيَاءُ لا تَشُقّ عَلى البَصَرْ

وقد اختلف أهل التأويل في السيما التي أخبر الله جل ثناؤه أنها لهؤلاء الفقراء الذين وصفت صفتهم وأنهم يعرفون بها ، فقال بعضهم : هو التخشع والتواضع . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ } قال : التخشع .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث ، قال : كان مجاهد يقول : هو التخشع .

وقال آخرون يعني بذلك : تعرفهم بسيما الفقر وجهد الحاجة في وجوههم . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ } بسيما الفقر عليهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ } يقول : تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة .

وقال آخرون : معنى ذلك : تعرفهم برثاثة ثيابهم ، وقالوا : الجوع خفيّ . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ } قال : السيما : رثاثة ثيابهم ، والجوع خفيّ على الناس ، ولم تستطع الثياب التي يخرجون فيها تخفى على الناس .

وأول الأقوال في ذلك بالصواب : أن يقال : إن الله عزّ وجلّ أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم . وإنما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدرك تلك العلامات والاَثار منهم عند المشاهدة بالعيان ، فيعرفهم وأصحابه بها ، كما يدرك المريض فيعلم أنه مريض بالمعاينة .

وقد يجوز أن تكون تلك السيما كانت تخشعا منهم ، وأن تكون كانت أثر الحاجة والضرّ ، وأن تكون كانت رثاثة الثياب ، وأن تكون كانت جميع ذلك ، وإنما تدرك علامات الحاجة وآثار الضرّ في الإنسان ، ويعلم أنها من الحاجة والضرّ بالمعاينة دون الوصف ، وذلك أن المريض قد يصير به في بعض أحوال مرضه من المرض نظر آثار المجهود من الفاقة والحاجة ، وقد يلبس الغنيّ ذو المال الكثير الثياب الرثة ، فيتزيا بزيّ أهل الحاجة ، فلا يكون في شيء من ذلك دلالة بالصفة على أن الموصوف به مختلّ ذو فاقة ، وإنما يدري ذلك عند المعاينة بسيماه ، كما وصفهم الله نظير ما يعرف أنه مريض عند المعاينة دون وصفه بصفته .

القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ يَسألُونَ النّاسَ إلْحافا } .

يقال : قد ألحف السائل في مسألته إذا ألحّ فهو يلحف فيها إلحافا .

فإن قال قائل : أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غير إلحاف ؟ قيل : غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئا على وجه الصدقة ، إلحافا أو غير إلحاف ، وذلك أن الله عزّ وجلّ وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف ، وأنهم إنما كانوا يعرفون بسيماهم ، فلو كانت المسألة من شأنهم لم تكن صفتهم التعفف ، ولم يكن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم إلى علم معرفتهم بالأدلة والعلامة حاجة ، وكانت المسألة الظاهرة تنبىء عن حالهم وأمرهم . وفي الخبر الذي :

حدثنا به بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن هلال بن حصن ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : أعوزنا مرة فقيل لي : لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته . فانطلقت إليه مُعْنقا ، فكان أوّل ما واجهني به : «مَنْ اسْتَعَفّ أعَفّهُ الله ، ومَنِ اسْتَغْنَى أغْنَاهُ الله ، ومَنْ سَأَلَنا لَمْ نَدّخِرْ عَنْهُ شَيْئا نَجِدُهُ » ، قال : فرجعت إلى نفسي ، فقلت : ألا أستعفّ فيفعني الله ! فرجعت فما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بعد ذلك من أمر حاجة حتى مالت علينا الدنيا فغرقتنا إلا من عصم الله .

الدلالة الواضحة على أن التعفف معنى ينفي معنى المسألة من الشخص الواحد ، وأن من كان موصوفا بالتعفف فغير موصوف بالمسألة إلحافا أو غير إلحاف .

فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت ، فما وجه قوله : { لاَ يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحافا } وهم لا يسألون الناس إلحافا أو غير إلحاف ؟ قيل له : وجه ذلك أن الله تعالى ذكره لما وصفهم بالتعفف وعرّف عباده أنهم ليسوا أهل مسألة بحال بقوله : { يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِيَاءَ مِنَ التّعَفّفِ } وأنهم إنما يعرفون بالسيما ، زاد عباده إبانة لأمرهم ، وحسن ثناء عليهم بنفي الشره والضراعة التي تكون في الملحّين من السؤال عنهم . وقال : كان بعض القائلين يقول في ذلك نظير قول القائل : فَلَمّا رأيت مثل فلان ، ولعله لم يره مثله أحدا ولا نظيرا .

وبنحو الذي قلنا في معنى الإلحاف قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لاَ يَسألُونَ الناسَ إلْحافا } قال : لا يلحفون في المسألة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { لا يَسْألُونَ النّاسَ إِلْحافا } قال : هو الذي يلح في المسألة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { لا يَسألُونَ النّاسَ إِلْحافا } ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «إِنّ اللّهَ يُحِبّ الحَلِيمَ الغَنِيّ المُتَعَفّفَ ، وَيُبْغِضُ الغَنِيّ الفاحِشَ البَذِيّ السّائِلَ المُلْحِفَ » قال : وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «إِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثا ، قِيلَ وَقَالَ ، وَإضَاعَةَ المَالِ وَكَثْرَةَ السّوءَالِ » فإذا شئت رأيته في قيل وقال يومه أجمع وصدر ليلته ، حتى يُلقى جفية على فراشه ، لا يجعل الله له من نهاره ولا ليلته نصيبا ، وإذا شئت رأيته ذا مال في شهوته ولذاته وملاعبه ، ويعدله عن حقّ الله ، فذلك إضاعة المال ، وإذا شئت رأيته باسطا ذراعيه ، يسأل الناس في كفيه ، فإذا أعطي أفرط في مدحهم ، وإن منع أفرط في ذمهم .