قوله تعالى : { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } . وإنما كرر لتأكيد النسخ .
قوله تعالى : { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا } . اختلفوا في تأويل هذه الآية ، ووجه قوله " إلا " فقال بعضهم : معناه حولت القبلة إلى الكعبة لئلا يكون للناس عليكم حجة إذا توجهتم إلى غيرها فيقولون : ليست لكم قبلة ( إلا الذين ظلموا ) وهم قريش واليهود . فأما قريش فتقول رجع محمد إلى الكعبة ، لأنه علم أنها الحق وأنها قبلة آبائه ، فكذلك يرجع إلى ديننا ، وأما اليهود فتقول لم ينصرف عن بيت المقدس مع علمه بأنه حق إلا أنه يعمل برأيه . وقال قوم : ( لئلا يكون للناس عليكم حجة ) يعني اليهود ، وكانت حجتهم على طريق المخاصمة على المؤمنين في صلاتهم إلى بيت المقدس أنهم كانوا يقولون ما درى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم نحن . وقوله ( إلا الذين ظلموا ) وهم مشركو مكة ، وحجتهم : أنهم قالوا لما صرفت قبلتهم إلى الكعبة : إن محمداً قد تحير في دينه وسيعود إلى ملتنا كما عاد إلى قبلتنا ، وهذا معنى قول مجاهد وعطاء وقتادة ، وعلى هذين التأويلين يكون الاستثناء صحيحاً .
وقوله ( إلا الذين ظلموا ) يعني لا حجة لأحد عليكم إلا مشركو قريش فإنهم يحاجونكم فيجادلونكم ويخاصمونكم بالباطل والظلم والاحتجاج بالباطل يسمى حج كما قال الله تعالى ( حجتهم داحضة عند ربهم ) وموضع " الذين " خفض كأنه قال سوى الذين ظلموا قاله الكسائي ، وقال الفراء نصب بالاستثناء .
قوله تعالى : { منهم } . يعني من الناس ، وقيل هذا استثناء منقطع عن الكلام الأول ، معناه ولكن الذين ظلموا يجادلونكم بالباطل ، كما قال الله تعالى ( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) يعني لكن يتبعون الظن فهو كقول الرجل مالك عندي حق إلا أن تظلمني .
قال أبو ورق { لئلا يكون للناس } يعني اليهود { عليكم حجة } وذلك أنهم عرفوا أن الكعبة قبلة إبراهيم ووجدوا في التوراة أن محمداً سيحول إليها فحول الله تعالى إليها لئلا يكون لهم حجة فيقولوا : إن النبي الذي نجده في كتابنا سيحول إليها ولم تحول أنت ، فلما حول إليها ذهبت حجتهم ( إلا الذين ظلموا ) يعني إلا أن يظلموا فيكتموا ما عرفوا من الحق . وقال أبو عبيدة قوله ( إلا الذين ظلموا ) ليس باستثناء ولكن " إلا " في موضع واو العطف يعني : والذين ظلموا أيضاً لا يكون لهم حجة ، كما قال الشاعر :
وكل أخ مفارقه أخوه *** لعمر أبيك إلا الفرقدان
معناه والفرقدان ، أيضاً يتفرقان ، فمعنى الآية فتوجهوا إلى الكعبة لئلا يكون للناس ، يعني اليهود عليكم حجة فيقولوا لم تركتم الكعبة وهي قبلة إبراهيم وأنتم على دينه ولا الذين ظلموا وهم مشركو مكة فيقولون لم ترك محمد قبلة جده وتحول عنها إلى قبلة اليهود .
قوله تعالى : { فلا تخشوهم } . في انصرافكم إلى الكعبة وفي تظاهرهم عليكم بالمجادلة فإني وليكم أظهركم عليهم بالحجة والنصرة .
قوله تعالى : { واخشوني ولأتم نعمتي عليكم } . عطف على قوله : ( لئلا يكون للناس عليكم حجة ) ولكي أتم نعمتي عليكم ، بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم فتتم لكم الملة الحنيفية ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه تمام النعمة الموت على الإسلام .
قال : سعيد بن جبير لا يتم نعمة على المسلم إلا أن يدخل الجنة .
قوله تعالى : { ولعلكم تهتدون } . لكي تهتدوا من الضلالة . ولعل وعسى من الله واجب .
ثم خاطب الأمة عموما فقال : { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } وقال : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } أكده ب " إن " واللام ، لئلا يقع لأحد فيه أدنى شبهة ، ولئلا يظن أنه على سبيل التشهي لا الامتثال .
{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل هو مطلع عليكم في جميع أحوالكم ، فتأدبوا معه ، وراقبوه بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، فإن أعمالكم غير مغفول عنها ، بل مجازون عليها أتم الجزاء ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
وقال هنا : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي : شرعنا لكم استقبال الكعبة المشرفة ، لينقطع عنكم احتجاج الناس من أهل الكتاب والمشركين ، فإنه لو بقي مستقبلا بيت المقدس ، لتوجهت عليه الحجة ، فإن أهل الكتاب ، يجدون في كتابهم أن قبلته المستقرة ، هي الكعبة البيت الحرام ، والمشركون يرون أن من مفاخرهم ، هذا البيت العظيم ، وأنه من ملة إبراهيم ، وأنه إذا لم يستقبله محمد صلى الله عليه وسلم ، توجهت نحوه حججهم ، وقالوا : كيف يدعي أنه على ملة إبراهيم ، وهو من ذريته ، وقد ترك استقبال قبلته ؟
فباستقبال الكعبة{[107]} قامت الحجة على أهل الكتاب والمشركين ، وانقطعت حججهم عليه .
{ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } أي : من احتج منهم بحجة ، هو ظالم فيها ، وليس لها مستند إلا اتباع الهوى والظلم ، فهذا لا سبيل إلى إقناعه والاحتجاج عليه ، وكذلك لا معنى لجعل الشبهة التي يوردونها على سبيل الاحتجاج محلا يؤبه لها ، ولا يلقى لها بال ، فلهذا قال تعالى : { فَلَا تَخْشَوْهُمْ } لأن حجتهم باطلة ، والباطل كاسمه مخذول ، مخذول صاحبه ، وهذا بخلاف صاحب الحق ، فإن للحق صولة وعزا ، يوجب خشية من هو معه ، وأمر تعالى بخشيته ، التي هي أصل{[108]} كل خير ، فمن لم يخش الله ، لم ينكف عن معصيته ، ولم يمتثل أمره .
وكان صرف المسلمين إلى الكعبة ، مما حصلت فيه فتنة كبيرة ، أشاعها أهل الكتاب ، والمنافقون ، والمشركون ، وأكثروا فيها من الكلام والشبه ، فلهذا بسطها الله تعالى ، وبينها أكمل بيان ، وأكدها بأنواع من التأكيدات ، التي تضمنتها هذه الآيات .
منها : الأمر بها ، ثلاث مرات ، مع كفاية المرة الواحدة ، ومنها : أن المعهود ، أن الأمر ، إما أن يكون للرسول ، فتدخل فيه الأمة تبعا ، أو للأمة عموما ، وفي هذه الآية أمر فيها الرسول بالخصوص في قوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ } والأمة عموما في قوله : { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ }
ومنها : أنه رد فيه جميع الاحتجاجات الباطلة ، التي أوردها أهل العناد وأبطلها شبهة شبهة ، كما تقدم توضيحها ، ومنها : أنه قطع الأطماع من اتباع الرسول قبلة أهل الكتاب ، ومنها قوله : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } فمجرد إخبار الصادق العظيم كاف شاف ، ولكن مع هذا قال : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ }
ومنها : أنه أخبر - وهو العالم بالخفيات - أن أهل الكتاب متقرر عندهم ، صحة هذا الأمر ، ولكنهم يكتمون هذه الشهادة مع العلم .
ولما كان توليته لنا إلى استقبال القبلة ، نعمة عظيمة ، وكان لطفه بهذه الأمة ورحمته ، لم يزل يتزايد ، وكلما شرع لهم شريعة ، فهي نعمة عظيمة قال : { وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ }
فأصل النعمة ، الهداية لدينه ، بإرسال رسوله ، وإنزال كتابه ، ثم بعد ذلك ، النعم المتممات لهذا الأصل ، لا تعد كثرة ، ولا تحصر ، منذ بعث الله رسوله إلى أن قرب رحيله من الدنيا ، وقد أعطاه الله من الأحوال والنعم ، وأعطى أمته ، ما أتم به نعمته عليه وعليهم ، وأنزل الله عليه : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }
فلله الحمد على فضله ، الذي لا نبلغ له عدا ، فضلا عن القيام بشكره ، { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : تعلمون الحق ، وتعملون به ، فالله تبارك وتعالى - من رحمته - بالعباد ، قد يسر لهم أسباب الهداية غاية التيسير ، ونبههم على سلوك طرقها ، وبينها لهم أتم تبيين ، حتى إن من جملة ذلك أنه يقيض للحق ، المعاندين له فيجادلون فيه ، فيتضح بذلك الحق ، وتظهر آياته وأعلامه ، ويتضح بطلان الباطل ، وأنه لا حقيقة له ، ولولا قيامه في مقابلة الحق ، لربما لم يتبين حاله لأكثر الخلق ، وبضدها تتبين الأشياء ، فلولا الليل ، ما عرف فضل النهار ، ولولا القبيح ، ما عرف فضل الحسن ، ولولا الظلمة ما عرف منفعة النور ، ولولا الباطل ما اتضح الحق اتضاحا ظاهرا ، فلله الحمد على ذلك .
ثم كرر- سبحانه- الأمر للمؤمنين بأن يتجهوا في صلاتهم إلى المسجد الحرام فقال : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } .
أي : ومن أي مكان خرجت - يا محمد - فول وجهك تلقاء المسجد الحرام ، وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرض الله ، فولوا وجوهكم في صلاتكم تجاهه ونحوه .
وتلك هي المرة الثالثة التي تكرر فيها الأمر للمؤمنين بالتوجه إلى المسجد الحرام في صلاتهم ، وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة وتشديده لأن تحول القبلة كان أول نسخ في الإِسلام - كما قال كثير من العلماء - فاقتضى الأمر تأكيده في نفوس المؤمنين حتى يستقر في مشاعرهم ، ويذهب ما يثار حولها من شبهات أدراجح الرياح ، ولأن الله - تعالى - أنط بكل واحد من هذه الأوامر الثلاثة بالتحول ما لم ينط بالآخر من أحكام فاختلفت فوائدها ، فكأنه - سبحانه - يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين .
الزموا هذه القبلة لأنهاه هي القبلة التي ترضونها وترغبون فيها وطالما تمنيتموها ، والزموها - أيضاً - لأنها هي القبلة التي لن تنسخ بعد ذلك .
والزموها - كذلك - لأن لزومكم إياها يقطع حجة اليهود الجاحدين ، وغيرهم من المعاندين والخاسرين .
وقد اقترن هذا الأمر الثالث بالتوجه إلى المسجد الحرام في هذا الآية الكريمة بحكم ثلاث .
أولها : قوله تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني } والمراد من الناس اليهود ومن لف لفهم من المناوئين للدعوة الإِسلامية .
والمعنى عليك - أيها النبي - ومن معك من المؤمنين أن تتجهوا في صلاتكم إلى الكعبة المشرفة ، لكي تقطعوا دابر فتنة اليهود وحجتهم فقد قالوا لكم وقت اتجاهكم إلى بيت المقدس .
إذا كان لكم أيها المسلمون دين يخالف ديننا فلماذا تتجهون إلى قبلتنا ، إلى غير ذلك من أقوالهم الفاسدة فاتجاهكم إلى المسجد الحرام من شأنه أن يزيل هذه الحجة التي قد تبدو مقبولة في نظر ضعاف العقول .
وقوله تعالى : { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } استثناء من الناس ، والمعنى :
لئلا يكون لأحد من اليهود حجة عليكم ، إلا المعاندين منهم القائلين : ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا حباً لدين قومه ، واشتياقاً لمكة ، وهؤلاء لا تخافون مطاعنهم بل اجعلوا خوفكم منى وحدي ولا تقيموا لما يشاغبون به في أمر القبلة وغيره وزنا ، فإني كفيل أن أرد عنكم كيدكم وأحبط سعيهم ، فأنتم ، أيها المؤمنون - ما توجهتهم إلى بيت المقدس ثم إلى المسجد الحرام إلا بإذن ربكم وأمره ، ففي الحالتين أنتم مطيعون لخالقكم - عز وجل - .
وقد أحسن صاحب الكشاف في شرحه للجملة الكريمة ، وصرح بأنه يجوز أن يراد بالناس وبالذين ظلموا مشركوا العرب فقال :
{ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } استثناء من الناس ، ومعناه : لئلا يكون حجة لأحد من اليهود إلا المعاندين منهم ، القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحباً لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء قبله ، فإن قلت : أي حجة كانت تكون للمنصفين منهم لو لم يحول حتى احترز من تلك الحجة ، ولم يبال بحجة المعاندين ؟
قلت : كانوا يقولون ما له لا يحول إلى قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة ؟ فإن قلت : كيف أطلق اسم الحجة على قول المعاندين ؟
قلت : لأنهم يسوقونه سياق الحجة ، ويجوز أن يكون المعنى : لئلا يكون للعرب عليكم حجة واعتراض في ترككم التوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم وإسماعيل أبي العرب إلا الذين ظلموا منهم وهم أهل مكة ، حين يقولون بداله فرجع إلى قبله آبائه ، ويوشك أن يرجع إلى دينهم " .
وثانيها : قوله تعالى : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } أي : ولو وجوهكم شطر المسجد الحرام { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } ولتكون قبلتكم مستقلة عن قبلة اليهود وغيرهم ، فالجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } .
وثالثها : قوله - تعالى - { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون } أي : ولكي ترشدوا للصواب في كل أموركم فما ضلت عنه الأمم من الحق هديناكم إليه ، وخصصناكم به ولهذا كانت أمتكم خير أمة أخرجت للناس .
والجملة الكريمة معطوفة على الجملة السابقة وهي قوله تعالى : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } أي : ولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } ولتكون قبلتكم مستقلة عن قبلة اليهود وغيرهم ، فالجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } .
وثالثها : قوله - تعالى - : { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : ولي ترشدوا للصواب في كل أموركم فما ضلت عنه الأمم من الحق هديناكم إليه ، وخصصناكم به ولهذا كانت أمتكم خير أمة أخرجت للناس .
والجملة الكريمة معطوفة على الجملة السابقة وهي قوله تعالى : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } .
وبذلك تكون الآيات الكريمة التي نزلت في شأن تحويل القبلة إلى المسجد الحرام قد ثبتت المؤمنين ، ودحضت كل شبهة أوردها اليهود وغيرهم في هذه المسألة .
خامساً : هذا ، وفي ختام هذا المبحث نحب أن نجيب على السؤال الخامس ، وهو : لماذا فصل القرآن الكريم الحديث عن تحويل القبلة فنقول :
لقد شرع الله - تعالى - تحويل القبلة إلى الكعبة بعد أن صلى المسلمون إلى بيت المقدس فترة من الزمان ، وكرر الأمر بتولية الوجوه إلى المسجد الحرام عند الصلاة ، وأقام الأدلة الساطعة على أن ذلك التحويل هو الحق ، وأتى بألوان من العوعيد لمن لم يتبع أوامره ، وساق وجوهاً من التأكيدات تدل على عناية بالغة بشأنها .
والمقتضى لهذه العناية وذلك التفصيل - مع أن التوجه إليها فرع من فروع الدين - هو أن التحويل من بيت المقدس إلى المسجد الحرام . كان أول نسخ في الإِسلام - كما قال بذلك كثير من العلماء - والنسخ من مظان الفتنة والشبهة وتسويل الشيطان ، فاقتضى الأمر بسط الحديث في مسألة القبلة ليزدادوا إيماناً على إيمانهم .
ولأن هذا التحويل - أيضاً - جاء على خلاف رغبة اليهود ، فإنهم كانوا يحرصون على استمرار المسلمين في التوجه إلى بيت المقدس ، لأنه قبلتهم ، فلما حصل التحويل إلى المسجد الحرام ، اتخذوا منه مادة للطعن في صحة النبوة ليفتنوا ضعفاء العقيدة ، وسلكوا لبلبلة أفكار المسلمين كل وسيلة .
فزعموا أن نسخ الحكم بعد شرعه مناف للحكمة ، ومباين للعقول ، فلا يقع في الشرائع الإِلهية ، وساقوا من الشبهات والمفتريات ما بينا بعضه عند تفسيرنا للآيات الكريمة .
ويبدو أن شغبهم هذا ، كان له آثاره عند ذوي النفوس المريضة وضعاف الإِيمان فلهذا كله أخذت مسألة القبلة شأناً غير شأن بقية الأحكام الفرعية ، فكان مقتضى الحال أن يكون الحديث عنها مستفيضاً ، ومدعماً بالأدلة والبراهين ، وهذا ما راعاه القرآن الكريم عند حديثه عن مسألة القبلة ، فلقد قرر وكرر ، ووعد وتوعد ، ووضح وبين ، ليدفع كل شبهة ، وليجتث كل حجة ، ويزيد المؤمنين إيماناً على إيمانهم ، وينهض بضعفاء الإِيمان إلى منزلة الراسخين في العلم ، ويهوى باليهود ومن حذا حذوهم في مكان سحيق ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
{ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } كرر هذا الحكم لتعدد علله ، فإنه تعالى ذكر للتحويل ثلاث علل . تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بابتغاء مرضاته ، وجري العادة الإلهية على أن يولي أهل كل ملة وصاحب دعوة وجهة يستقبلها ويتميز بها ودفع حجج المخالفين على ما نبينه . وقرن بكل علة معلولها كما يقرن المدلول بكل واحد من دلائله تقريبا وتقريرا ، مع أن القبلة لها شأن . والنسخ من مظان الفتنة والشبهة فبالحري أن يؤكد أمرها ويعاد ذكرها مرة بعد أخرى . { لئلا يكون للناس عليكم حجة } علة لقوله { فولوا } ، والمعنى أن التولية عن الصخرة إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة ، وأن محمدا يجحد ديننا ويتبعنا في قبلتنا . والمشركين بأنه يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته { إلا الذين ظلموا منهم } استثناء من الناس ، أي لئلا يكون لأحد من الناس حجة إلا المعاندين منهم بإنهم يقولون ، ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده ، أو بدا له فرجع إلى قبلة آبائه ويوشك أن يرجع إلى دينهم . وسمى هذه حجة كقوله تعالى : { حجتهم داحضة عند ربهم } لأنهم يسوقونها مساقها . وقيل الحجة بمعنى الاحتجاج . وقيل الاستثناء للمبالغة في نفي الحجة رأسا كقوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
للعلم بأن الظالم لا حجة له ، وقرئ : { إلا الذين ظلموا منهم } . على أنه استئناف بحرف التنبيه . { فلا تخشوهم } فلا تخافوهم ، فإن مطاعنهم لا تضركم . { واخشوني } فلا تخالفوا ما أمرتكم به . { ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون } علة محذوف أي وأمرتكم لإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتدائكم ، أو عطف على علة مقدرة مثل واخشوني لأحفظكم منهم ولأتم نعمتي عليكم ، أو لئلا يكون وفي الحديث " تمام النعمة دخول الجنة " . وعن علي رضي الله تعالى عنه " تمام النعمة الموت على الإسلام " .
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 150 )
قوله تعالى : { فولوا وجوهكم شطره } هو فرض استقبال القبلة على المصلين ، وفرض المصلي ما دام يرى الكعبة أن يصادفها باستقباله ، فإذا غابت عنه ففرضه الاجتهاد في مصادفتها ، فإن اجتهد ثم كشف الغيب أنه أخطأ فلا شيء عليه عند كثير من العلماء ، ورأى مالك رحمه الله أن يعيد في الوقت إحرازاً لفضيلة القبلة( {[1408]} ) .
وقوله تعالى : { لئلا يكون للناس عليكم حجة } الآية ، قرأ نافع وحده بتسهيل الهمزة ، وقرأ الباقون { لئلا } بالهمز ، والمعنى : عرفتكم وجه الصواب في قبلتكم والحجة في ذلك { لئلا }( {[1409]} ) ، وقوله : { للناس } عموم في اليهود والعرب وغيرهم ، وقيل : المراد بالناس اليهود ثم استثنى كفار العرب .
قال القاضي أبو محمد : وقوله { منهم } يرد هذا التأويل : وقالت فرقة { إلا الذين } استثناء متصل ، وهذا مع عموم لفظة الناس( {[1410]} ) ، والمعنى أنه لا حجة( {[1411]} ) لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا ، يعني اليهود وغيرهم من كل من تكلم في النازلة في قولهم { ما ولاهم } استهزاء ، وفي قولهم : تحير محمد في دينه ، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو من منافق ، وسماها تعالى حجة وحكم بفسادها حين كانت من ظلمة ، وقالت طائفة { إلا الذين } استثناء منقطع وهذا مع كون الناس اليهود فقط ، وقد ذكرنا ضعف هذا القول ، والمعنى : لكن الذين ظلموا( {[1412]} ) يعني كفار قريش في قولهم رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله ، ويدخل في ذلك كل من تكلم في النازلة من غير اليهود ، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وابن زيد : «ألا » بفتح الهمزة وتخفيف اللام على معنى استفتاح الكلام ، فيكون { الذين } ابتداء( {[1413]} ) ، أو على معنى الإغراء بهم فيكون { الذين } نصباً بفعل مقدر .
وقوله تعالى : { فلا تخشوهم واخشوني } الآية ، تحقير لشأنهم وأمر باطراح أمرهم ومراعاة أمره ، وقوله { ولأتم } عطف على قوله { لئلا }( {[1414]} ) ، وقيل : هو مقطوع في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر بعد ذاك ، والتقدير لأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي ونحوه( {[1415]} ) . و { لعلكم تهتدون } ترجٍّ في حق البشر .