السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيۡكُمۡ حُجَّةٌ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِي وَلِأُتِمَّ نِعۡمَتِي عَلَيۡكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (150)

{ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } .

تنبيه : ما مقطوعة من حيث في موضعي هذه السورة ، وكرر سبحانه وتعالى التولي لشطر المسجد الحرام ثلاث مرات لتأكيد أمر القبلة وتشديده ؛ لأنّ النسخ من مظان الفتنة والشبهة وتسويل الشيطان ، فكرر عليهم ليثبتوا ويقوموا ويجدّوا ؛ ولأنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر ؛ لأنه تعالى علق بكل آية فائدة ، ففي الأولى أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر محمد أو أمر القبلة حق لمشاهدتهم له في التوراة والإنجيل ، وفي الثانية أنه تعالى شهد أنه حق وشهادة الله تعالى مغايرة لعلم أهل الكتاب ، وفي الثالثة بيان العلة وهي قطع حجة اليهود أو لأن الأحوال ثلاثة أوّلها : أن يكون الإنسان في المسجد الحرام وثانيها : أن يخرج عنه ويكون في البلد وثالثها : أن يخرج عن البلد ، فالآية محمولة على الأوّل والثانية على الثاني والثالثة على الثالث وقوله تعالى : { لئلا يكون الناس } أي : اليهود والمشركين { عليكم حجة } أي : مجادلة في التولي علة لقوله : قولوا والمعنى أن التولية عن الصخرة إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة ، وأن محمداً يجحد ديننا ويتبعنا في قبلتنا ويدفع احتجاج المشركين بأنه يدّعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته ، وقرأ ورش بإبدال الهمزة من لئلا ياء مفتوحة وقفاً ووصلاً وحمزة يبدلها وقفا لا وصلاً ، والباقون بهمزة مفتوحة وصلاً ووقفاً وقوله تعالى : { إلا الذين ظلموا منهم } بدل واستثناء متصل أي : لئلا يكون لأحد من الناس حجة إلا المعاندين منهم ، فإنهم يقولون ما تحول إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحبه لبلده أو بدا له فرجع إلى دين آبائه ويوشك أن يرجع إلى دينهم { فلا تخشوهم } أي : فلا تخافوا مطاعنتهم في قبلتكم ، فإنهم لا يضرونكم { واخشوني } بامتثال أمري فلا تخالفوا ما أمرتكم به .

تنبيه : الياء هنا ثابتة في الرسم وهي في القراءة ثابتة وقفاً ووصلاً .

فإن قيل : أي حجة تكون لغير الذين ظلموا لو لم تحوّل حتى احترز من تلك الحجة ولم يبال بحجة المعاندين ؟ أجيب : بأنهم كانوا يقولون : ما له لا يحوّل إلى قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة .

فإن قيل : كيف أطلق الحجة على قول المعاندين ؟ أجيب : بأنّ المراد بالحجة ما يتمسك به حقاً كان أو باطلاً كما قال تعالى : { حجتهم داحضة } ( الشورى ، 16 ) وقوله تعالى : { ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون } أي : إلى الحق علة لمحذوف أي : وأمرتكم بذلك لإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أو عطف على علة مقدرة كأنه قيل : واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم ، قال «الكشاف » : وقيل : هو معطوف على لئلا يكون ، وجرى عليه البيضاوي والسيوطي . قال البيضاويّ : تبعاً «للكشاف » وفي الحديث «تمام النعمة دخول الجنة » أي : ورؤية الله تعالى وعن علي رضي الله تعالى عنه تمام النعمة الموت على الإسلام ، قال شيخنا القاضي زكريا : روى الحديث الترمذيّ وذكره مع الأثر بعده ربما يرجح العطف على المقدر .