فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيۡكُمۡ حُجَّةٌ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِي وَلِأُتِمَّ نِعۡمَتِي عَلَيۡكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (150)

{ ومن حيث خرجت } أي من أي مكان خرجت للسفر { فول وجهك شطر المسجد الحرام { وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } كرر سبحانه هذا تأكيدا لأمر استقبال الكعبة وللاهتمام به لأن موقع التحويل كان معتنى به في نفوسهم ، وقيل وجه التكرير أن النسخ من مظان الفتنة ومواطن الشبهة ، فإذا سمعوه مرة بعد أخرى ثبتوا واندفع ما يختلج في صدورهم ، وقيل أنه كرر هذا الحكم لتعدد علله ، فإنه سبحانه ذكر للتحويل ثلاث علل : الأولى ابتغاء مرضاته ، والثانية يجري العادة الإلهية أن يولي أهل كل ملة وصاحب دعوة جهة يستقبل بها ، والثالثة دفع حجج المخالفين فقرن بكل علة معلولها ، وقيل أراد بالأول ول وجهك شطر الكعبة إذا صليت تلقاءها ، ثم قال : وحيثما كنتم معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة وغيرها فولوا وجوهكم شطره ثم قال { ومن حيث خرجت } يعني وجوب الاستقبال في الأسفار ، فكان هذا أمرا بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواطن من نواحي الأرض .

{ لئلا } اللام لام كي وإن هي المصدرية ولا نافية { يكون للناس عليكم حجة } قيل أراد بالناس أهل الكتاب ، وقيل هو على العموم ، وقيل هم قريش واليهود . والمعنى لا حجة لأحد عليكم في التولي إلى غيره أي لتنتفي مجادلتهم لكم من قول اليهود يجحد ديننا ويتبع قبلتنا . وقول المشركين يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته { إلا الذين ظلموا منهم } يعني المعاندين من أهل الكتاب القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه ، وقيل : هم مشركو العرب وحجتهم قولهم راجعت قبلتنا ؛ وقيل : معناه لئلا يقولوا لكم قد أمرتم باستقبال الكعبة ولستم ترونها ، وقال أبو عبيدة : إلا هاهنا بمعنى الواو ، وأبطل الزجاج هذا القول وقال إنه استثناء منقطع أي لكن الذين ظلموا منهم فإنهم يحتجون ومعناه إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له ، كأن تقول ما لك علي حجة إلا أن تظلمني أي ما لك علي حجة ولكنك تظلمني ، وسمى ظلمه حجة لأن المحتج بها سماه حجة وإن كانت داحضة .

ورجح ابن جرير الطبري أن الاستثناء متصل وقال : نفى الله أن تكون لأحد حجة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في استقبالهم الكعبة ، والمعنى لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة حيث قالوا ما ولاهم ، وقالوا إن محمدا تحير في دينه وما توجه إلى قبلتنا إلا أن أهدى منه ، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو يهودي أو منافق قال : والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة والمجادلة وسماها تعالى حجة وحكم بفسادها حيث كانت من ظالم ورجح ابن عطية أن الاستثناء منقطع كما قال الزجاج قال القرطبي : وهذا على أن يكون المراد بالناس اليهود ، ثم استثنى كفار العرب كأنه قال لكن الذين ظلموا في قولهم رجع محمد صلى الله عليه وسلم إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله .

{ فلا تخشوهم } أي لا تخافوا جدالهم في التولي إليها ومطاعنهم فإنها داحضة باطلة لا تضركم { واخشوني } أي احذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم به وفرضته عليكم { ولأتم نعمتي عليكم } أي بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم لتتم لكم الملة الحنيفية ، وقيل تمام النعمة الموت على الإسلام ثم دخول الجنة ثم رؤية الله تعالى { ولعلكم تهتدون } أي لكي تهتدوا من الضلالة ولعل وعسى من الله واجب .