الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيۡكُمۡ حُجَّةٌ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِي وَلِأُتِمَّ نِعۡمَتِي عَلَيۡكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (150)

{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } إلى { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ } أيّها المؤمنون . { فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } هي لام كي دخلت على أن فكتبت بالكسرة ما قبلها ، وترك بعضهم همزها تخفيفاً ، والحجة فعلة من الحج وهو الفصل ، ومنه المحجة وهي الطريق الواضح المسلوك ؛ لأنّه مقصود ، ويُقال : للمخاصمة محاجة لقصد كلّ واحد من الخصمين إلى إقامة بينته ، وإبطال ما في يد صاحبه .

واختلفوا في تأويل هذه الآية ووجه قوله { إِلاَّ } فقال بعض أهل التأويل : ومعنى الآية حوّلت القبلة إلى الكعبة لئلاّ يكون للنّاس عليكم حجّة إذا صلّيتم إليها فيحتجّون عليكم ويقولون : لم تركتم التوجه إلى الكعبة وتوجهتم إلى غيرها لولا إنّه ليست لكم قبلة ؟ { إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ } وهم قريش واليهود وأمّا قريش فتقول إنّما رجع إلى الكعبة لأنّه علم أنّها قبلة آبائه وهي الحقّ وكذا يرجع إلى ديننا ويعلم أنّه الحقّ ، وأمّا اليهود فإنّهم يقولون لم ينصرف عن بيت المقدس مع علمه بأنّه حق إلاّ إنّه إنّما يفعل برأيه فيزعم إنّه أَمر به ، وهذا القول اختيار المفضّل بن سلمة الضبي وهو قول صحيح مرضي .

وقال قوم : معنى الآية { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ } يعني لأهل الكتاب عليكم حجّة وكانت حجّتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في صلاتهم نحو بيت المقدّس إنّهم كانوا يقولون : ما درى محمّد وأصحابه أين قبلتهم حتّى هديناهم نحن ، وقولهم : يخالفنا محمّد في ديننا ويتّبع قبلتنا فهذه الحُجّة التي كانوا يحتجوّن بها على المؤمنين على وجه الخصومة والتموية بها على الجّهال من المشركين ثمّ قال { إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ } وهم مشركوا مكّة وحجّتهم إنّهم قالوا : لمّا صرفت القبلة إلى الكعبة أنّ محمّداً قد تحيّر في دينه فتوجّه إلى قبلتنا وعلم إنّا أهدى سبيلاً منه وانّه لا يستغني عنّا ويوشك أن يرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا ، وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والربيع والسّدي واختيار محمد بن جرير .

وعلى هذين القولين إلاّ استثناء صحيح على وجه نحو قولك : ما سافر أحد من النّاس إلاّ أخوك فهو إثبات للأخ من السفر ، وما هو منفي عن كلّ أحد من النّاس ، وكذلك قوله تعالى { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ } من قريش نفي عن أن يكون لأحد حجة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بسبب تحولهم إلى الكعبة { إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ } من قريش فإن لهم قبلهم حجة لما ذكرنا .

ومعنى الحجة في هذين القولين : الخصومة والجدل ، والدعوى بالباطل كقوله { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } [ الشورى : 15 ] : أي لا خصومة ، وقوله { أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ } [ البقرة : 139 ] وليحاجوكم وتحاجون وحاججتم كلّها بمعنى المجادلة والمخاصمة لا بمعنى الدليل والبرهان ، وموضع الّذين خفض كأنه قال : إلاّ للذين ظلموا . فلما سقطت اللام حلّت ( الّذين ) محلها قاله الكسائي .

قال الفراء : موضعه نصب بالاستثناء ، وإنّما ( . . . . . . ) منهم ردّ إلى لفظ الناس ؛ لأنّه عام ، وإن كان كلّ واحد منهم غير الآخر والله أعلم ، وقال بعضهم : هو استثناء منقطع من الكلام الأول ومعناه إلاّ يكون للنّاس كلّهم عليكم حجة اللّهمّ إلاّ الّذين ظلموا فإنّهم يحاجونكم في الباطل ويجادلونكم بالظلم ، وهذا كما يقول للرجل : النّاس كلّهم لك سامرون إلاّ الظالم لك : يعني لا ( . . . . . . ) ذلك بتركه حمدك لعداوته لك ، وكقولك للرجل : مالك عندي حق إلاّ أن تظلم ، ومالك حجة إلاّ الباطل ، والباطل لا يكون حجّة ، وهذا استثناء من غير الحسن . كقول القائل : ليس في الدّار أحد إلاّ الوحش . كقول النابغة :

وما بالرّبع من أحد إلاّ وأرى لأياماً *** أمنّها وننوي كالحوض بالمظلومة الجلد

وهذا قول الفراء والمؤرخ .

وقال أبو روق : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ } يعني اليهود عليكم حجة ؛ وذلك إنّهم كانوا قد عرفوا إنّ الكعبة قبلة إبراهيم وقد كانوا وجدوا في التوراة أنّ محمّداً سيحوّل إليها . فحوّلهُ الله إليها لئلا يكون لهم حجة فيحتجون . بأن هذا النبيّ الّذي نجده في كتابنا سيحوّل إليها ولم تحوّل أنت فلمّا حوّل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذهبت حجّتهم ثمّ قال : { إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ } منهم يعني إلاّ أن يظلموكم فيكتموا ما عرفوا .

وقال الأخفش : معناه لكفى الّذي ظلموا مالهم به من علم إلاّ إتّباع الظن يعني : لكن يتبعون الظّن ، قوله : { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى } [ الليل : 19-20 ] يعني لكن تبتغى وجه ربّك فيكون منفرداً من الكلام الأوّل .

وروى أبو عبيد عن أبي عبيدة إنّه قال : ليس موضع إلاّ هاهنا موضع الاستثناء لأنّه لا يكون للظالم حجّة إنّما هو في موضع واو العطف كأنّه قال : ولا الّذين ظلموا يعني والّذين ظلموا لا يكون لهم أيضاً حجّة .

وأنشد المفضل :

ما بالمدينة دار غير واحدة *** دار الخليفة إلاّ دار مروانا

وأنشد أيضاً :

وكلّ أخ مفارقة أخوه *** لعمر أبيك إلاّ الفرقدان

يعني والفرقدان أيضاً متفرقان

وأنشد الأخفش :

وارى لها داراً بأغدرة السي *** دان لم يدرس لها رسم

إلاّ رماداً هامداً دفعت *** عنه الرياح خوالد سحم

أي : وأرى داراً ورماداً ، يؤيّد هذا القول ما روى أبو بكر بن مجاهد عن بعضهم إنّه قرأ بعضهم : ( إلى الّذين ظلموا ) مخفّفا يعني مع الّذين ظلموا .

ومعنى الآية : لئلاً يكون للنّاس ، يعني اليهود عليكم حجّة في أمر الكعبة حيث لا يستقبلونها وهي قبلة إبراهيم فيقولون لكم تزعمون إنّكم على دين إبراهيم ولم تستقبلوا قبلته ولا للذين ظلموا وهم مشركوا مكّة لأنّهم قالوا : إنّ الكعبة قبلة جدّنا إبراهيم فما بال محمّد تحوّل عنها فلا يصلّي إليها ويصلّي إلى قبلة اليهود .

وقال قطرب : معناها إلاّ على الّذين ظلموا فيكون ردّه على الكاف والميم أي إلاّ على الّذين ظلموا فإنّ عليهم الحجّة فحذف حرف الجر وهذا إختيار أبي منصور الأزهري .

قال الثعلبي : سمعت أبا القاسم الحبيبي يحكيها عنه وحكى محمّد بن جرير عن بعضهم إنّه قال : { إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ } هاهنا ناس من العرب كانوا يهوداً ونصارى وكانوا يحتجّون على النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمّا سائر العرب فلم يكن لهم حجّة وكانت حجّة من إحتجّ أيضاً داحضة باطلة لأنّك تقول لمن تريد أن تكسر حُجّته عليه : أنّ لك عليّ حجّة ولكن منكسرة إنك لتحتجّ بلا حجّة وحجّتك ضعيفة ، فمعنى الآية : { إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } من أهل الكتاب فإنّ لهم عليكم حجّة واهية . { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } في انصرافكم إلى الكعبة وفي تظاهرهم عليكم في المحاجة والمجاوبة فانّي وليّكم أظهركم عليهم بالحجّة والنصرة . { وَاخْشَوْنِي } في تركها ومخالفتها . { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } عليكم عطف على قوله { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } ولكن أتمّ نعمتي بهدايتي ايّاكم إلى قبلة إبراهيم فتتمّ لكم الملّة الحنيفيّة وقال علي ( كرّم الله وجهه ) : تمام النعمة : الموت على الإسلام ، وروي عنه أيضاً إنّه قال : النّعم ستة : الإسلام والقرآن ومحمّد والستر والعافية والغنى ممّا في أيدي النّاس . { وَلَعَلَّكُمْ } في لعلّ ست لغات : علّ ولعلّ ولعنّ وعنّ ولعّا .

ولها ستة أوجه هي من الله عزّ وجلّ واجب ، ومن النّاس على معاني قد تكون بمعنى الاستفهام كقول القائل : لعلّك فعلت ذلك مستفهماً .

وتكون بمعنى الظّن كقول القائل : قدم فلان فردّ عليه الرّاد : لعلّ ذلك .

بمعنى أظنّ وأرى ذلك .

وتكون بمعنى الإيجاب بمنزلة ما أخلقه كقوله : قد وجبت الصّلاة فيرد الرّاد : لعلّ ذلك أي ما أخلقه .

وأنشد الفراء :

لعلّ المنايا مرّة ستعود *** وآخر عهد الزائرين جديد

وتكون بمعنى الترجّي والتمنّي كقولك : لعلّ الله أن يرزقني مالاً ، ولعلّني أحجّ .

وأنشد الفراء :

لعلّي في هدى أفي وجودي *** وتقطيعي التنوقة واختيالي

سيوشك أن يتيح إلى كريم *** ينالك بالذّرى قبل السؤال

ويكون بمعنى عسى تكون ما يراد ولا يكون كقوله : { يهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ } [ غافر : 36 ] . أي عسى أبلغ .

وقال أبو داود :

فأبلوني بليتكم لعلّي *** أُصالحكم واستدرج نويا

أي نواي ويكون بمعنى كي على الجزاء كقوله : { انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } [ الأنعام : 65 ] بمعنى لكي يفقهوا ونظائرها كثيرة وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي لكي تهتدوا من الضّلالة . قال الربيع : خاصم يهودي أبا العالية فقال : إنّ موسى كان يصلّي إلى صخرة بيت المقدس ، فقال أبو العالية : كان يصلّي عند الصخرة إلى البيت الحرام فقال لي : بيني وبينك مسجد صالح فإنه نحته من الجبل فقال أبو العالية : قد صلّيت فيه وقبلته إلى البيت الحرام .

قال : فأخبر أبو العالية إنّه مرّ على مسجد ذي القرنين وقبلته الكعبة .