الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيۡكُمۡ حُجَّةٌ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِي وَلِأُتِمَّ نِعۡمَتِي عَلَيۡكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (150)

وقوله تعالى : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ . . . } [ البقرة :150 ] .

المعنى : عرفتكم وجه الصواب في قبلتكم ، والحجة لذلك { لئلاَّ يكون للناسِ عليكم حجةٌ }[ البقرة :150 ] والمراد بالنَّاس العمومُ في اليهودِ والعربِ ، وغيرهم ، { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ }[ البقرة :150 ] أي : من المذكورين ممَّن تكلَّم في النازلة في قولهم : { مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ } [ البقرة : 142 ] .

وقوله تعالى : { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني . . . } [ البقرة :150 ] .

[ فيه ] تحقيرٌ لشأنهم ، وأمر باطراح أمرهم ، ومراعاة أمره سبحانه ، قال الفَخْر : وهذه الآية تدلُّ على أن الواجب علَى المَرْء في كلِّ أفعاله وتروكه أن ينصب بين عينيه خشيةَ ربه تعالى ، وأن يعلم أنه ليس في أيدي الخَلْقِ شيء البتَّةَ وألاَّ يكون مشتغل القَلْب بهم ، ولا ملتفت الخاطر إلَيْهِم ، انتهى .

قال ( ص ) { إِلاَّ الذين } استثناءٌ متَّصِلٌ ، قاله ابن عباس وغيره ، أي : لئلاَّ تكون حجةٌ من اليهود المعاندين القائلين ما ترك قبلتنا وتوجَّه للكعبة إِلاَّ حبًّا لبلده ، وقيل : منقطع ، أي : لكن الذين ظلموا منهم فإِنهم يتعلَّقون عليكم بالشُّبَه ، وزعم أبو عُبَيْدة مَعْمَرُ بْنُ المثنى : أن ( إِلاَّ ) في الآية بمعنى الواو ، قال ومنه : [ الوافر ] :

وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوه *** لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدَانِ

أي : والَّذين ظلموا ، وَالفَرْقَدَان ، ورُدَّ بأنَّ إِلاَّ بمعنى الواو لا يقوم علَيْه دليلٌ ، انتهى .

وقوله تعالى : { فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ }[ البقرة :150 ] أمر باستقبال القبْلَة ، وهو شرطٌ في الفرض إِلاَّ في القتالِ حالة الالتحامِ ، وفي النوافل إِلا في السفرِ الطويلِ للرَّاكب ، والقدرةُ على اليقينِ في مصادفتها تَمْنَعُ من الاِجتهادِ ، وعلى الاِجتهادِ تَمْنَعُ من التقليد .

وقوله سبحانه : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ }[ البقرة :150 ] عطْفٌ على قوله : ( لَئِلاَّ ) ، وقيل : هو في موضع رفع بالاِبتداء ، والخبرُ مضمرٌ ، تقديره : ولأتمَّ نعمتي عليكم عرَّفتكم قبلتي ، ونحوهُ ، { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }[ البقرة :150 ] ترجٍّ في حقِّ البشر ، والكافُ في قوله : { كَمَا } ردٌّ على قوله : { وَلأُتِمَّ } ، أي : إِتماماً كما ، وهذا أحسنُ الأقوال ، أي : لأتم نعمتي عليكم في بيان سُنَّة إِبراهيم عليه السلام .