قوله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا } . أي استجيبوا وأطيعوا سميت الطاعة والإجابة سمعاً على المجاورة لأنه سبب للطاعة والإجابة .
قوله تعالى : { قالوا سمعنا } . قولك .
قوله تعالى : { وعصينا } . أمرك ، وقيل : سمعنا بالأذن وعصينا بالقلوب ، قال أهل المعاني : إنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم ولكن لما سمعوه وتلقوه بالعصيان نسب ذلك إلى القول اتساعاً .
قوله تعالى : { وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } . أي حب العجل ، أي معناه : أدخل في قلوبهم حب العجل وخالطها ، كإشراب اللون لشدة الملازمة . يقال : فلان أشرب اللون إذا اختلط بياضه بالحمرة ، وفي القصص : أن موسى أمر أن يبرد العجل بالمبرد ثم يذره في النهر وأمرهم بالشرب منه فمن بقي في قلبه شيء من حب العجل ظهرت سحالة الذهب على شاربه .
قوله تعالى : { قل بئسما يأمركم به } . أن تعبدوا العجل من دون الله ، أي بئس إيمان يأمر بعبادة العجل .
قوله تعالى : { إن كنتم مؤمنين } . بزعمكم ، وذلك أنهم قالوا : نؤمن بما أنزل علينا فكذبهم الله عز وجل .
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا } أي : سماع قبول وطاعة واستجابة ، { قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي : صارت هذه حالتهم { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ }{[94]} بسبب كفرهم .
{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : أنتم تدعون الإيمان وتتمدحون بالدين الحق ، وأنتم قتلتم أنبياء الله ، واتخذتم العجل إلها من دون الله ، لما غاب عنكم موسى ، نبي الله ، ولم تقبلوا أوامره ونواهيه إلا بعد التهديد ورفع الطور فوقكم ، فالتزمتم بالقول ، ونقضتم بالفعل ، فما هذا الإيمان الذي ادعيتم ، وما هذا الدين ؟ .
فإن كان هذا إيمانا على زعمكم ، فبئس الإيمان الداعي صاحبه إلى الطغيان ، والكفر برسل الله ، وكثرة العصيان ، وقد عهد أن الإيمان الصحيح ، يأمر صاحبه بكل خير ، وينهاه عن كل شر ، فوضح بهذا كذبهم ، وتبين تناقضهم .
ثم ذكر القرآن الكريم جناية أخرى تكذبهم في دعواهم : أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم - وهي إباؤهم التوراة عناداً واستكباراً فقال تعالى :
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واسمعوا قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .
ومعنى الآية الكريمة : واذكروا - يا بني إسرائيل - وقت أن أخذنا الميثاق عليكم بأن تعملوا بما في التوراة ، وتتلقوا أحكامها بالتقبل والطاعة ورفعنا فوقكم الطور لنريكم آية من آياتنا العظمى التي تقوى قلوبكم ، وتجعلكم تقبلون على تعاليم التوراة برغبة واستجابة ، وقلنا لكم خذوا ما آتيناكم بجد وحزم ، واسمعوا ما أمرناكم به سماع تدبر وطاعة ، ولكنكم - يا بني إسرائيل - يا من تدعون الإِيمان بما أنزل عليكم - أعرضتم عما أمرتم به من قبول التوراة وقلتم لنبيكم سمعنا قولك وعصينا أمرك ، وخالط حب عبادة العجل قلوبكم كما يخالط الماء أعماق البدن ولم تأبهوا بما جاءكم في التوراة من الهدى والنور وبما صحب عرضها عليكم من الآية البينة وهي رفع الجبل فوقكم حتى ظننتم أنه وافع بكم فكفرتم بذلك كله ولازالت نفوسكم تحن إلى عبادة العجل ولقد سرتم على منهج أسلافكم في العناد والجحود والإِعراض عما ينزله الله من الحق ، وإذا كان هذا شأنكم فكيف تدعون الإِيمان بما أنزل عليكم ؟
ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم على تخرصاتهم فقال تعالى : { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .
وقوله تعالى : { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور } معناه : أننا حركناه ونقلناه معلقاً فوقكم في الهواء ، لتروا بأعينكم آية كونية من شأنها أنها تحملكم على الإِيمان والطاعة إن كانت لكم عقول تعقل .
ومعنى قوله تعالى : { خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واسمعوا } : قلنا لكم خذوا ما أمرناكم به في التوراة بجد واجتهاد في تأديته ، واسمعوا ما تؤمرون به سماع طاعة وتفهم . فقوله تعالى { واسمعوا } ليس المراد به مجرد السماع للقول فقط ، بل المقصود منه السماع الذي يصحبه التدبر والاستجابة للأمر : فهو مؤكد ومقرر لقوله تعالى : { خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } .
ثم حكى - سبحانه - جوابهم الذي يدل على عنادهم فقال : { قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف طابق قوله جوابهم ؟ قلت طابقه من حيث إنه قال لهم اسمعوا : وليكن سماعكم تقبل وطاعة ، فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة .
وقد اختلف المفسرون هل صدر متهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقاص أو أنهم فعلوا فعلا مقام القول فيكون مجازاً ؟
قال الفخر الرازي : الأكثرون من المفسرين على أنهم قالوا هذا القول حقيقة . وقال أبو مسلم : وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان فعبر عن ذلك بالقول ولم يقولوه ، كقوله تعالى { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } قال : والأول أولى لأن صرف الكلام عن ظاهره بغير دليل لا يجوز .
وقوله تعالى : { وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ } عطف على قولهم سمعنا وعصينا والإِشراب ؛ السقي وجعل الشيء شارباً ، واستعمل على وجه التجوز في خلط لون بأخر كأن أحد اللونين سقى الآخر ، يقال : بياض مشرب بحمرة أي مختلط ، وفلان أشرب قلبه حب كذا بمعنى خالط حبه قلبه
قال الإِمام الرازي : قوله تعالى : { وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل } في وجه هذه الاستعارة وجهان : الأول : معناه تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب ، وقوله في قلوبهم بيان لمكان الإِشراب كقوله :
{ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } الثاني : كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض ، فكذا تلك المحبة كانت مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال .
وفي الجملة الكريمة { وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل } مضاف محذوف وهو لفظ ( حب ) لدلالة المعنى عليه .
والمعنى : إن هؤلاء اليهود الذين مردوا على العصيان قد خالط حب العجل نفوسهم حتى استقر في قلوبهم كما يخالط الماء أعماق الجسد . وحذف لفظ الحب من الجملة الكريمة ، يشعر بشدة تعلق قلوبهم بالعجل حتى لكأنهم أشروبا ذاته .
والتعبير بقوله : { وَأُشْرِبُواْ } يشير إلى أنه بلغ حبهم العجل مبلغ الأمر الذي ال اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إياه .
وقوله تعالى : { بِكُفْرِهِمْ } دليل على أن محبتهم للعجل ناشئة عن كفر سابق ، وجحود متأصل فكفرهم الذي ترتب على عبادتهم للعجل ، قد سبقه كفر آخر ، فهو كفر على كفر .
ثم أمر الله - تعالى - نبيه في ختام الآية الكريمة بتوبيخهم فقال تعالى :
{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي : قل - يا محمد - لهؤلاء اليهود الذين يدعون الإِيمان بما أنزل عليهم - قل لهم - بئس الشيء الذي يأمركم به إيمانكم قتل الأنبياء وعبادة العجل والعصيان إن كنتم مصدقين - كما زعمتم - بالتوراة ، والحق أن التوراة ما أمرتكم بشيء من ذلك فلما أنتم مؤمنين بها ولا بغيرها من كتب الله ، لأنها لا تأمر بالفحشاء .
فالجملة الكريمة خلاصة لإِبطال قولهم { نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } بعد أن أبطله الله - تعالى - فيما سبق بشواهد متعددة ، لأنهم لما زعموا ذلك ، وكانوا مع هذا يفعلون أفعالا قبيحة تناقض الإِيمان بأي كتاب سماوي ، أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يذمهم على هذه الأفعال التي تناقض الإِيمان بما أنزل عليهم لكي يعلم الناس جميعاً أن دعواهم لا أساس لها من الصحة .
وأضاف - سبحانه - الإِيمان إليهم فقال { إِيمَانُكُمْ } ولم يقل الإِيمان ، لأنه ليس إيماناً صحيحاً وإنما هو إيمان مزعوم ، فإضافة الإِيمان إليهم من باب التهكم بهم والاستهزاء بعقولهم .
وقوله تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم . وإنما كذبهم الله بذلك لأن التوراة تنهى عن ذلك كله ، وتأمر بخلافه ، فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة إن كان يأمرهم بذلك ، فبئس الأمر تأمر به . وإنما ذلك نفي من الله - تعالى - عن التوراة أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم وأن يكون التصديق بها يدل على شيء من مخالفة أمر الله ، وإعلام منه - جل ثناؤه - أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم ، والذي يحملهم عليه البغي والعدوان " .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد أقامت الأدلة المتعددة ، والبراهين القاطعة على كذب اليهود في دعواهم الإِيمان بما أنزل عليهم ، ووبختهم على مزاعمهم الباطلة ، وأقوالهم الفاسدة .
هذا ، ولفضيلة أستاذنا الدكتور محمد عبد الله دراز كلام رصين عند حديثه عن هذه الآيات ، فقد قال - رحمه الله - :
يقول الله تعالى في ذكر حجاج اليهود : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ . . . } .
هذا قطعة من فصل من قصة بني إسرائيل ، والعناصر الأصلية التي تبرزها لنا هذه الكلمات القليلة نلخص فيما يلي :
1 - مقالة ينصح بها الناصح لليهود : إذ يدعوهم إلى الإيمان بالقرآن .
2 - إجابتهم لهذا الناصح بمقالة تنطوي على مقصدين .
3 - الرد على هذا الجواب بركنيه من عدة وجوه .
وأٌسم لو أن محامياً بليغاً وكلت إليه الخصومة بلسان القرآن في هذه القضية ، ثم هدى إلى استنباط هذه المعاني التي تحتاج في نفس الداعي لما وسعه في أدائها أضعاف أضعاف هذه الكلمات ، ولعله بعد ذلك لا يفى بما حولها من إشارات واحتراسات وآداب وأخلاق .
قال الناصح لليهود : آمنوا بالقرآن كما آمنتم بالتوراة ، ألستم قد أمنتم بالتوراة التي جاء بها موسى لأنها أنزلها الله ؟ فالقرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أنزله الله ، فآمنوا به كما آمنتم بها .
فانظر كيف جمع القرآن هذا المعنى الكثير في هذه اللفظ الوجيز { آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ } . وسر ذلك أنه عدل بالكلام عن صريح اسم القرآن إلى كنايته . فجعل دعاءهم إلى الإِيمان به دعاء إلى الشيء بحجته ، وبذلك أخرج الدليل والدعوى في لفظ واحد .
ثم انظر كيف طوى ذكر المنزل عليه فلم يقل : آمنوا بما أنزل الله ( على محمد ) ، مع أن هذا جزء متمم لوصف القرآن المقصود بالدعوة .
أتدري لم ذلك ؟ لأنه لو ذكر لكان في نظر الحكمة البيانية زائداً ، وفي نظر الحكمة الإِرشادية مفسداً .
أما الأول فلأن هذه الخصوصية لا مدخل لها في الإِلزام ، فأدير الأمر على القدر المشترك وعلى الحد الأوسط الذي هو عمود الدليل .
وأما الثاني فلأن إلقاء هذا الاسم على مسامع الأعداء من شأنه أن يخرج أضغانهم ويثير أحقادهم فيؤدي إلى عكس ما قصده الداعي من التأليف والإِصلاح .
كان جواب اليهود أن قالوا : إن الذي دعانا للإِيمان بالتوراة ليس هو كونها أنزلها الله فحسب ، بل إننا آمنا بها لأن الله أنزلها علينا . والقرآن لم ينزله علينا ، فلكم قرآنكم ولنا توراتنا ، ولكل أمة شرعة ومنهاج .
هذا هو المعنى الذي أوجزه القرآن في قوله : { نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } وهذا هو المقصد الأول ، وقد زاد إيجاز هذه العبارة أن حذف منها فاعل الإِنزال وهو لفظ الجلالة ، لأنه تقدم ذكره في نظيرتها .
ومن البين أن اقتصارهم على الإِيمان بما أنزل عليهم يومئ إلى كفرانهم بما أنزل على غيرهم ، وهذا هو المقصد الثاني ، ولكنهم تحاشوا التصريح به لما فيه من شناعة التسجيل على أنفسهم بالكفر ، فأراد القرآن أن يبرزه ، أنظر كيف أبرزه ؟ إنه لم يجعل لازم مذهبهم مذهباً له ، ولم يدخل مضمون قولهم في جملة ما نقله من كلامهم ، بل أخرجه في معرض الشرح والتعليق على مقالتهم فقال :
{ وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ } أليس ذلك هو غاية الأمانة في النقل ؟ . . ثم جاء دور الرد والمناقشة فيما أعلنوه وما أسروه .
فتراه لا يبدأ بمحاورتهم في دعوى إيمانهم بكتابهم ، بل يتركها مؤقتاً كأنها مسلمة ليس عليهم وجوب الإِيمان بغيره من الكتب فيقول : كيف يكون الإِيمان بكتابهم باعثاً على الكفر بما هو حق مثله ؟ لا بل هو الحق كله ، وهل يعارض الحق الحق حتى يكون الإِيمان بأحدهما موجباً للكفر بالآخر ؟
ثم يترقى فيقول : وليس الأمر بين هذا الكتاب الجديد وبين الكتب السالفة عليه كالأمر بين كل حق وحق ، فقد يكون الشيء حقاص وغيره حقاً فلا يتكاذبان ، ولكنهما في شأنهما مختلفين ، فلا يشهد بعضها لبعض ، أما هذا الكتاب فإنه جاء شاهداً ومصدقاً لما بين يديه من الكتب ، فكيف يكذب به من يؤمن بها .
فانظر إلى الإِحكام في صنعه البيان : إنما هي كلمة رفعت وأخرى وضعت في مكانها عند الحاجة إليها ، فكانت هذه الكلمة حسما لكل عذر ، وسداً لكل باب من أبواب الهرب ، بل كانت هذه الكلمة وحدها بمثابة حركة تطويق للخصم تمت خطوة واحدة ، وفي غير ما جلبه ولا طنطنة .
ولما قضى وطر النفس من هذا الجانب المطوي الذي ساقه مساق الاعتراض والاستطراد ، استوى إلى الرد على المقصد الأصلي الذي تبجحوا بإعالنه والافتخار به ، وهو دعواهم الإِيمان بما أنزل عليهم ، فأوسعهم إكذاباً وتفنيداً . وبين أن داء الجحود فيهم داء قديم ، قد أشربوهن في قلوبهم ومضت عليه القرون حتى أصبح مرضاً مزمناً وأن الذي أتوه اليوم من الكفر بما أنزل على محمد ما هو إلا حلقه متصلة بسلسلة كفرهم بما أنزل عيلهم ، وساق على ذلك الشواهد التاريخية المفظة التي لا سبيل لإنكارها في جهلهم بالله ، وانتهاكهم لحرمة أنبيائه ، وتمردهم على أوامره .
{ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .
تأمل كيف أن هذا الانتقال كانت النفس قد استعدت له في آخر المرحلة السابقة ، إذ يفهم السامع من تكذيبهم لما يصدق كتابهم أنهم صاروا مكذبين لكتابهم نفسه ، وهو الذي يكذب من يصدقك يبقى مصدقاً لك ؟ ؟ .
ثم انظر بعد أن سجل القرآن على بني إسرائيل أفحش الفحش وهو وضعهم البقر الذي هو مثل في البلادة موضع المعبود الأقدس ، وبعد أن وصف قسوة قلوبهم في تأبيهم على أوامر الله مع حملهم عليها بالآيات الرهيبة . بعد كل ذلك تراه لا يزيد على أن يقول في أول الأمر : إن هذا " ظلم " وفي الثانية ( بئسما ) صنعتم ، أذلك كل ما تقابل به هذه الشناعات ؟ نعم إنهما كلمتان وافيتان بمقدار الجريمة لو فهمتا على وجههما ، ولكن أين حدة الألم وحرارة الاندفاع في الانتقام ؟ بل أين الإِقذاع والتشنيع ؟ وأين الإِسراف والفجور الذي تراه في كلام الناس ، إذا أحفظوا بالنيل من مقامهم .
تالله ما أعف هذه الخصومة وما أعز هذا الجانب ، وأغناه عن شكر الشاكرين وكفر الكافرين ، وتالله إن هذا الكلام لا يصدر عن نفس بشر " .
يعدد ، تبارك وتعالى ، عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم عنه ، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه ؛ ولهذا قال : { قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } وقد تقدم تفسير ذلك . { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [ بِكُفْرِهِمْ ]{[2179]} } قال : أشربوا [ في قلوبهم ]{[2180]} حبه ، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم . وكذا قال أبو العالية ، والربيع بن أنس .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عصام بن خالد ، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني ، عن خالد بن محمد الثقفي ، عن بلال بن أبي الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حُبُّك الشيء يُعْمِي ويُصم "
ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح عن بَقِيَّة ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به{[2181]} وقال السدي : أخذ موسى ، عليه السلام ، العجل فذبحه ثم حرقه بالمبرد ، ثم ذراه في البحر ، فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه ، ثم قال لهم موسى : اشربوا منه . فشربوا ، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب . فذلك حين يقول الله تعالى : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل{[2182]} عن أبي إسحاق ، عن عمارة بن عبد{[2183]} وأبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب ، قال : عمد موسى إلى العجل ، فوضع عليه المبارد ، فبرده بها ، وهو على شاطئ نهر ، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب{[2184]} .
وقال سعيد بن جبير : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } قال : لما أحرق العجل بُرِدَ ثم نسف ، فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران .
وحكى القرطبي عن كتاب القشيري : أنه ما شرب منه أحد ممن عبد العجل إلا جنَّ [ ثم قال القرطبي ]{[2185]} وهذا شيء غير ما هاهنا ؛ لأن المقصود من هذا السياق ، أنه ظهر النقير على شفاههم ووجوههم ، والمذكور هاهنا : أنهم أشربوا في قلوبهم حب العجل ، يعني : في حال عبادتهم له ، ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة :
تغلغل حب عثمة في فؤادي *** فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب*** ولا حزن ولم يبلغ سرور
أكاد إذا ذكرت العهد منها *** أطير لو أن إنسانا يطير
وقوله : { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه ، من كفركم بآيات الله ومخالفتكم الأنبياء ، ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم - وهذا أكبر ذنوبكم ، وأشد الأمور عليكم - إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين ، فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة ، من نقضكم المواثيق ، وكفركم بآيات الله ، وعبادتكم العجل ؟ !
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطّورَ خُذُواْ مَآآتَيْنَاكُم بِقُوّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ }
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَإذْ أخَذْنَا مِيثاقَكُمْ } : واذكروا إذ أخذنا عهودكم بأن خذوا ما آتيناكم من التوراة التي أنزلتها إليكم أن تعملوا بما فيها من أمري ، وتنتهوا عما نهيتكم فيها بجدّ منكم في ذلك ونشاط ، فأعطَيْتُمْ على العمل بذلك ميثاقكم ، إذْ رفعنا فوقكم الجبل . أما قوله : وَاسْمَعُوا فإن معناه : واسمعوا ما أمرتكم به ، وتقبلوه بالطاعة كقول الرجل للرجل يأمره بالأمر : سمعت وأطعت ، يعني بذلك : سمعت قولك وأطعت أمرك . كما قال الراجز :
السّمْعُ والطّاعَةُ والتّسْلِيمُ *** خَيْرٌ وأعْفَى لِبَنِي تَمِيمْ
يعني بقوله السمع : قبول ما يسمع والطاعة لما يؤمر . فكذلك معنى قوله : وَاسْمَعُوا اقبلوا ما سمعتم واعملوا به .
قال أبو جعفر : فمعنى الآية : وإذ أخذنا ميثاقكم أن خذوا ما آتيناكم بقوّة ، واعملوا بما سمعتم ، وأطيعوا الله ، ورفعنا فوقكم الطور من أجل ذلك .
وأما قوله : قالُوا سَمِعْنا فإن الكلام خرج مخرج الخبر عن الغائب بعد أن كان الابتداء بالخطاب ، فإن ذلك كما وصفنا من أن ابتداء الكلام إذا كان حكاية فالعرب تخاطب فيه ثم تعود فيه إلى الخبر عن الغائب وتخبر عن الغائب ثم تخاطب كما بينا ذلك فيما مضى قبل . فكذلك ذلك في هذه الآية لأن قوله : { وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ } بمعنى : قلنا لكم فأجبتمونا . وأما قوله : قالُوا سَمِعْنا فإنه خبر من الله عن اليهود الذين أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة وأن يطيعوا الله فيما يسمعون منها أنهم قالوا حين قيل لهم ذلك : سمعنا قولك وعصينا أمرك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهُمُ العِجْلَ بكُفْرِهِمْ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : { وأشربوا في قلوبهم }حبّ العجل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهمُ العِجْلَ } قال : أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ }قال : أشربوا حبّ العجل بكفرهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : { وَأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِمُ العِجْلَ } قال : أشربوا حبّ العجل في قلوبهم .
وقال آخرون : معنى ذلك أنهم سقوا الماء الذي ذُرّي فيه سحالة العجل . ذكر من قال ذلك .
حدثني موسى بن هارون . قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : لما رجع موسى إلى قومه أخذ العجل الذي وجدهم عاكفين عليه فذبحه ، ثم حَرَقَه بالمبرد ، ثم ذراه في اليمّ ، فلم يبق بحر يومئذ يجري إلا وقع فيه شيء منه . ثم قال لهم موسى : اشربوا منه فشربوا منه ، فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب فذلك حين يقول الله عزّ وجل : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال : لما سُحِل فألقي في اليمّ استقبلوا جرية الماء ، فشربوا حتى ملئوا بطونهم ، فأورث ذلك من فعله منهم جُبْنا .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين اللذين ذكرت بقول الله جل ثناؤه : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ } تأويل من قال : وأشربوا في قلوبهم حبّ العجل لأن الماء لا يقال منه : أشرب فلان في قلبه ، وإنما يقال ذلك في حبّ الشيء ، فيقال منه : أشرب قلب فلان حبّ كذا ، بمعنى سقي ذلك حتى غلب عليه وخالط قلبه كما قال زهير :
فَصَحَوْتُ عَنْهَا بَعْدَ حُبّ داخِلٍ *** والحُبّ يُشْرَبُهُ فُؤَادُكَ دَاءُ
قال : ولكنه ترك ذكر الحبّ اكتفاءً بفهم السامع لمعنى الكلام ، إذ كان معلوما أن العجل لا يشرب القلب ، وأن الذي يشرب القلب منه حبه ، كما قال جل ثناؤه : { وَاسألْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الّتي كانَتْ حاضرَةَ البَحْرِ } ، { وَاسْألِ القَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَالْعِيرَ الّتِي أقْبَلْنَا فِيهَا } ، وكما قال الشاعر :
* ألا إنّني سُقّيتُ أسودَ حالِكا *** أَلاَ بَجَلي مِنَ الشّرَابِ أَلا بَجَلْ
يعني بذلك سَمّا أسود ، فاكتفى بذكر أسود عن ذكر السم لمعرفة السامع معنى ما أراد بقوله : «سُقيت أسود » ، ويروى :
*** ألا إنّني سُقِيتُ أسْوَدَ سالخا ***
وقد تقول العرب : إذا سرّك أن تنظر إلى السخاء فانظر إلى هَرِم أو إلى حاتم ، فتجتزىء بذكر الاسم من ذكر فعله إذا كان معروفا بشجاعة أو سخاء أو ما أشبه ذلك من الصفات . ومنه قول الشاعر :
يَقُولُونَ جاهِدْ يا جَمِيلُ بِغَزْوَةٍ *** وَإنّ جِهادا طَيّءٌ وَقِتالُهَا
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ بِئْسَما يأْمُرُكُمْ بِهِ إيمانُكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : قل يا محمد ليهود بني إسرائيل : بئس الشيء يأمركم به إيمانكم إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله ورسله ، والتكذيب بكتبه ، وجحود ما جاء من عنده . ومعنى إيمانهم تصديقهم الذي زعموا أنهم به مصدّقون من كتاب الله ، إذ قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله ، فقالوا : نؤمن بما أنزل علينا .
وقوله : { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم . وإنما كذّبهم الله بذلك لأن التوراة تنهى عن ذلك كله وتأمر بخلافه ، فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة إن كان يأمرهم بذلك فبئس الأمر يأمر به . وإنما ذلك نفي من الله تعالى ذكره عن التوراة أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم ، وأن يكون التصديق بها يدلّ على شيء من مخالفة أمر الله ، وإعلام منه جل ثناؤه أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم ، والذي يحملهم عليه البغيُ والعدوانُ .
{ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا } أي قلنا لهم : خذوا ما أمرتم به في التوراة بجد واسمعوا سماع طاعة .
{ قالوا سمعنا } قولك { وعصينا } أمرك { وأشربوا في قلوبهم العجل } تداخلهم حبه ورسخ في قلوبهم صورته ، لفرط شغفهم به ، كما يتداخل الصبغ الثوب ، والشراب أعماق البدن . وفي قلوبهم : بيان لمكان الإشراب كقوله تعالى : { إنما يأكلون في بطونهم نارا } { بكفرهم } بسبب كفرهم وذلك لأنهم كانوا مجسمة ، أو حلولية ولم يروا جسما أعجب منه ، فتمكن في قلوبهم ما سول لهم السامري { قل بئسما يأمركم به إيمانكم } أي بالتوراة ، والمخصوص بالذم محذوف نحو هذا الأمر ، أو ما يعمه وغيره من قبائحهم المعدودة في الآيات الثلاث إلزاما عليهم { إن كنتم مؤمنين } تقرير للقدح . في دعواهم الإيمان بالتوراة ، وتقديره إن كنتم مؤمنين بها لم يأمركم بهذه القبائح ولا يرخص لكم فيها إيمانكم بها ، أو إن كنتم مؤمنين بها فبئسما يأمركم به إيمانكم بها ، لأن المؤمن ينبغي أن لا يتعاطى إلا ما يقتضيه إيمانه ، لكن الإيمان بها لا يأمر به ، فإذا لستم بمؤمنين .
عطف على قوله : { فلم تقتلون أنبياء الله } [ البقرة : 91 ] والقصد منه تعليم الانتقال في المجادلة معهم إلى ما يزيد إبطال دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم خاصة ، وذلك أنه بعد أن أكذبهم في ذلك بقوله : { فلم تقتلون أنبياء الله من قبل } كما بينا ، ترقى إلى ذكر أحوالهم في مقابلتهم دعوة موسى الذي يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا بما جاءهم به فإنهم مع ذلك قد قابلوا دعوته بالعصيان قولاً وفعلاً فإذا كانوا أعرضوا عن الدعوة المحمدية بمعذرة أنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل عليهم فلماذا قابلوا دعوة أنبيائهم بعد موسى بالقتل ؟ ولماذا قابلوا ؟ دعوة موسى بما قابلوا . فهذا وجه ذكر هذه الآيات هنا وإن كان قد تقدم نظائرها فيما مضى ، فإن ذكرها هنا في محاجة أخرى وغرض جديد ، وقد بينتُ أن القرآن ليس مثل تأليف في علم يُحال فيه على ما تقدم بل هو جامع مواعظ وتذكيرات وقوارع ومجادلات نزلت في أوقات كثيرة وأحوال مختلفة فلذلك تتكرر فيه الأغراض لاقتضاء المقام ذكرها حينئذ عند سبب نزول تلك الآيات .
وفي « الكشاف » أن تكرير حديث رفع الطور هنا لما نيط به من الزيادة على ما في الآية السابقة معنى في قوله : { قالوا سمعنا وعصينا } الآية وهي نكتة في الدرجة الثانية .
وقال البيضاوي إن تكرير القصة للتنبيه على أن طريقتهم مع محمد صلى الله عليه وسلم طريقة أسلافهم مع موسى وهي نكتة في الدرجة الأولى وهذا إلزام لهم بعمل أسلافهم بناءً على أن الفرع يَتْبَع أصله والولد نسخة من أبيه ، وهو احتجاج خطابي .
والقول في هاته الآيات كالقول في سابقتها [ البقرة : 63 ] وكذلك القول في { البينات } . إلا أن قوله : { واسمعوا } مراد به الامتثال فهو كناية كما تقول فلان لا يسمع كلامي أي لا يمتثل أمري إذ ليس الأمر هنا بالسماع بمعنى الإصغاء إلى التوراة فإن قوله : { خذوا ما آتيناكم بقوة } يتضمنه ابتداء لأن المراد من الأخذ بالقوة الاهتمام به وأول الاهتمام بالكلام هو سماعه والظاهر أن قوله : { خذوا ما آتيناكم بقوة } لا يشمل الامتثال فيكون قوله : { واسمعوا } دالاً على معنى جديد وليس تأكيداً ، ولك أن تجعله تأكيداً لمدلول { خذوا ما آتيناكم بقوة } بأن يكون الأخذ بقوة شاملاً لنية الامتثال وتكون نكتة التأكيد حينئذ هي الإشعار بأنهم مظنة الإهمال والإخلال حتى أكد عليهم ذلك قبل تبين عدم امتثالهم فيما يأتي ففي هذه الآية زيادة بيان لقوله في الآية الأولى : { واذكروا ما فيه } [ البقرة : 63 ] .
واعلم أن من دلائل النبوة والمعجزات العلمية إشارات القرآن إلى العبارات الني نطق بها موسى في بني إسرائيل وكتبت في التوراة فإن الأمر بالسماع تكرر في مواضع مخاطباتِ موسى لملإ بني إسرائيل بقوله : اسمع يا إسرائيل ، فهذا من نكت اختيار هذا اللفظ للدلالة على الامتثال دون غيره مما هو أوضح منه وهذا مثل ما ذكرنا في التعبير بالعهد .
وقوله : { قالوا سمعنا وعصينا } يحتمل أنهم قالوه في وقت واحد جواباً لقوله : { واسمعوا } وإنما أجابوه بأمرين لأن قوله : { اسمعوا } تضمن معنيين معنى صريحاً ومعنى كنائياً فأجابوا بامتثال الأمر الصريح وأما الأمر الكنائي فقد رفضوه وذلك يتضمن جواب قوله : { خذوا ما آتيناكم بقوة } أيضا لأنه يتضمن ما تضمنه { واسمعوا } وفي هذا الوجه بعد ظاهر إذ لم يعهد منهم أنهم شافهوا نبيهم بالعزم على المعصية وقيل : إن قوله : { سمعنا } جواب لقوله : { خذوا ما آتيناكم } أي سمعنا هذا الكلام ، وقوله : { وعصينا } جواب لقوله : { واسمعوا } لأنه بمعنى امتثلوا ليكون كل كلام قد أجيب عنه ويبعده أن الإتيان في جوابهم بكلمة { سمعنا } مشير إلى كونه جواباً لقوله : { اسمعوا } لأن شأن الجواب أن يشتمل على عبارة الكلام المجاب به وقوله : ليكون كل كلام قد أجيب عنه قد علمت أن جعل { سمعنا وعصينا } جواباً لقوله : { واسمعوا } يغني عن تطلب جواب لقوله : { خذوا } ففيه إيجاز ، فالوجه في معنى هذه الآية هو ما نقله الفخر عن أبي مسلم أن قولهم : { عصينا } كان بلسان الحال يعني فيكون { قالوا } مستعملاً في حقيقته ومجازه أي قالوا : سمعنا وعصوا فكأن لسانهم يقول عصينا . ويحتمل أن قولهم { عصينا } وقع في زمن متأخر عن وقت نزول التوراة بأن قالوا عصينا في حثهم على بعض الأوامر مثل قولهم لموسى حين قال لهم : ادخلوا القرية { لن ندخلها أبداً } [ المائدة : 24 ] وهذان الوجهان أقرب من الوجه الأول . وفي هذا بيان لقوله في الآية الأولى : { ثم توليتم من بعد ذلك } [ البقرة : 64 ] .
والإشراب هو جعل الشيء شارباً ، واستعير لجعل الشيء متصلاً بشيء وداخلاً فيه ووجه الشبه هو شدة الاتصال والسريان لأن الماء أسرى الأجسام في غيره ولذا يقول الأطباء الماء مطية الأغذية والأدوية ومَركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن فلذلك استعاروا الإشراب لشدة التداخل استعارة تبعية قال بعض الشعراء :
تغلغل حب عثمة في فؤادي *** فباديه مع الخافي يسيـر{[152]}
تغلغل حيث لم يبلغ شـراب *** ولا حزن ولم يبلغ سرور
ومنه قولهم أشرب الثوب الصبغ ، قال الراغب : من عادتهم إذا أرادوا مخامرة حب وبغض أن يستعيروا لذلك اسم الشراب اه . وقد اشتهر المعنى المجازي فهجر استعمال الإشراب بمعنى السقي وذكر القلوب قرينة على أن إشراب العجل على تقدير مضاف من شأن القلب مثل عبادة العجل أو تأليه العجل . وإنما جعل حبهم العجل إشراباً لهم للإشارة إلى أنه بلغ حبهم العجل مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إياه كقولهم أُولِع بكذا وشُغِف .
والعجلَ مفعول { أشربوا } على حذف مضاف مشهور في أمثاله من تعليق الأحكام وإسنادها إلى الذوات مثل
{ حُرِّمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] أي أكل لحمها . وإنما شغفوا به استحساناً واعتقاداً أنه إلههم وأن فيه نفعهم لأنهم لما رأوه من ذهب قدسوه من فرط حبهم الذهب . وقد قوي ذلك الإعجاب به بفرط اعتقادهم ألوهيته ولذلك قال تعالى : { بكفرهم } فإن الاعتقاد يزيد المعتقد توغلاً في حب معتقده .
وإسناد الإشراب إلى ضمير ذواتهم ثم توضيحه بقوله : { في قلوبهم } مبالغة وذلك مثل ما يقع في بدل البعض والاشتمال وما يقع في تمييز النسبة . وقريب منه قوله تعالى : { إنما يأكلون في بطونهم ناراً } [ النساء : 10 ] وليس هو مثل ما هنا لأن الأكل متمحض لكونه منحصراً في البطن بخلاف الإشراب فلا اختصاص له بالقلوب .
وقوله : { قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين } تذييل واعتراض ناشىء عن قولهم { سمعنا وعَصَيْنا } هو خلاصة لإبطال قولهم : { نؤمن بما أنزل علينا } [ البقرة : 91 ] بعد أن أبطل ذلك بشواهد التاريخ وهي قوله : { قل فلم تقتلون أنبئاء الله } [ البقرة : 91 ] وقوله : { ولقد جاءكم موسى بالبينات } وقوله : { قالوا سمعنا وعصينا } ولذلك فَصَله عن قوله : { قل فلم تقتلون أنبئاء الله } لأنه يجري من الأول مجرى التقرير والبيان لحاصله ، والمعنى قل لهم إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم كما زعمتم يعني التوراة فبئسما أمركم به هذا الإيمان إذ فعلتم ما فعلتم من الشنائع من قتل الأنبياء ومن الإشراك بالله في حين قيام التوراة فيكم فكيف وأنتم اليوم لا تعرفون من الشريعة إلا قليلاً ، وخاصة إذا كان هذا الإيمان بزعمهم يصدهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فالجملة الشرطية كلها مقول { قل } والأمر هنا مستعمل مجازاً في التسبب .
وإنما جعل هذا مما أمرهم به إيمانهم مع أنهم لم يدعوا ذلك لأنهم لما فعلوه وهم يزعمون أنهم متصلبون في التمسك بما أنزل إليهم حتى أنهم لا يخالفونه قيد فتر ولا يستمعون لكتاب جاء من بعده فلا شك أن لسان حالهم ينادي بأنهم لا يفعلون فعلاً إلا وهو مأذون فيه من كتابهم ، هذا وجه الملازمة وأما كون هذه الأفعال مذمومة شنيعة فذلك معلوم بالبداهة فأنتج ذلك أن إيمانهم بالتوراة يأمرهم بارتكاب الفظائع وهذا ظاهر الكلام والمقصود منه القدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال ذلك بطريق يستنزل طائرهم ويرمي بهم في مهواة الاستسلام للحجة فأظهر إيمانهم المقطوع بعدمه في مظهر الممكن المفروض ليتوصل من ذلك إلى تبكيتهم وإفحامهم نحو : { قل إن كان للرحمن من ولد فأنا أول العابدين } [ الزخرف : 81 ] ولهذا أضيف الإيمان إلى ضميرهم لإظهار أن الإيمان المذموم هو إيمانهم أي الذي دخله التحريف والاضطراب لما هو معلوم من أن الإيمان بالكتب والرسل إنما هو لصلاح الناس والخروج بهم من الظلمات إلى النور فلا جرم أن يكون مرتكبو هاته الشنائع ليسوا من الإيمان بالكتاب الذي فيه هدى ونور في شيء فبطل بذلك كونهم { مؤمنين } وهو المقصود فقوله : { بئسما يأمركم } جواب الشرط مقدم عليه أو { قل } دليل الجواب ولأجل هذا جيء في هذا الشرط بإن التي من شأن شرطها أن يكون مشكوك الحصول وينتقل من الشك في حصوله إلى كونه مفروضاً كما يفرض المحال وهو المراد هنا ؛ لأن المتكلم عالم بانتفاء الشرط ولأن المخاطبين يعتقدون وقوع الشرط فكان مقتضى ظاهر حال المتكلم أن لا يؤتى بالشرط المتضمن لكونهم { مؤمنين } إلا منفياً ومقتضى ظاهر حال المخاطب أن لا يؤتى به إلا مع إذا ولكن المتكلم مع علمه بانتفاء الشرط فرضه كما يفرض المحال استنزالاً لطائرهم .
وفي الإتيان بإن إشعار بهذا الفرض حتى يقعوا في الشك في حالهم وينتقلوا من الشك إلى اليقين بأنهم غير مؤمنين حين مجيء الجواب وهو { بئسما يأمركم } وإلى هذا أشار صاحب « الكشاف » كما قاله التفتزاني وهو لا ينافي كون القصد التبكيت لأنها معان متعاقبة يفضي بعضها إلى بعض فمن الفرض يتولد التشكيك ومن التشكيك يظهر التبكيت .
ولا معنى لجعل { إن كنتم مؤمنين } ابتداء كلام وجوابه محذوفاً تقديره فإيمانكم لا يأمركم بقتل الأنبياء وعبادة العجل إلخ لأنه قطع لأواصر الكلام وتقدير بلا داع مع أن قوله : { قل بئسما يأمركم به إيمانكم } إلخ يتطلبه مزيد تطلب ونظائره في آيات القرآن كثيرة . على أن معنى ذلك التقدير لا يلاقي الكلام المتقدم المثبت أن إيمانهم أمَرهم بهذا المذام فكيف ينفي بَعْد ذلك أن يكون إميانهم يأمرهم ؟
و { بئسما } هنا نظير بئسما المتقدم في قوله : { بئسما اشتروا به أنفسهم } [ البقرة : 90 ] سوى أن هذا لم يؤت له باسمٍ مخصوص بالذم لدلالة قوله : { وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } والتقدير بئسما يأمركم به إيمانكم عبادةُ العجل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة}، يعني: الجنة، وذلك أن اليهود قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وأن الله لن يعذبنا، فقال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: قل لهم {... فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} [أي] فأحبوا الموت إن كنتم أولياء الله وأحباؤه، وأنكم في الجنة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذه الآية مما احتجّ الله بها لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم. وذلك أن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم فيما كان بينه وبينهم من الخلاف، كما أمره الله أن يدعو الفريق الاَخر من النصارى إذ خالفوه في عيسى صلوات الله عليه وجادلوا فيه إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة. وقال لفريق اليهود: إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدّعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله، بل إن أعطيتم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها والفوز بجوار الله في جنانه، إن كان الأمر كما تزعمون أن الدار الاَخرة لكم خالصة دوننا. وإن لم تُعْطَوْها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا وانكشف أمرنا وأمركم لهم. فامتنعت اليهود من إجابة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها. كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في عيسى إذ دُعوا إلى المباهلة من المباهلة فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ أنّ اليَهُودَ تَمَنّوُا المَوْتَ لَمَاتُوا وَلَرَأَوْا مَقاعِدَهُمْ مِنَ النّارِ، وَلَوْ خَرَجَ الّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَرَجَعُوا لا يَجِدُونَ أَهْلاً وَلا مالاً».
...عن ابن عباس في قوله: {فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه.
فانكشف، لمن كان مشكلاً عليه أمر اليهود يومئذ، كذبهم وبَهْتهم وبغيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت حجة رسول الله وحجة أصحابه عليهم، ولم تزل والحمد لله ظاهرة عليهم وعلى غيرهم من سائر أهل الملل. وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: {فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ لأنهم} فيما ذكر لنا قالُوا {نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحبّاؤهُ} وقالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كَانَ هُودا أوْ نَصَارَى} فقال الله لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم إن كنتم صادقين فيما تزعمون فتمنوا الموت، فأبان الله كذبهم بامتناعهم من تمني ذلك، وأفلج حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو اليهود أن يتمنوا الموت، وعلى أيّ وجه أمروا أن يتمنوه.
فقال بعضهم: أمروا أن يتمنوه على وجه الدعاء على الفريق الكاذب منهما.
وقال آخرون: إنهم قالُوا "لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصارى "وَقالُوا: {نحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحِبّاؤُهُ} فقيل لهم: {فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، فلم يفعلوا.
{قلْ إنْ كانَت لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةِ عِنْدَ اللّهِ خَالِصَةً}: فإنه يقول: قل يا محمد إن كان نعيم الدار الاَخرة ولذاتها لكم يا معشر اليهود عند الله. فاكتفى بذكر «الدار» من ذكر نعيمها لمعرفة المخاطبين بالآية معناها.
" خالِصَةً" فإنه يعني به صافية، كما يقال: خلص لي فلان بمعنى صار لي وحدي وصَفَا لي يقال: منه خلص لي هذا الشيء... ويقال للرجل: هذا خُلْصاني، يعني خالصتي من دون أصحابي. وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يتأول قوله: "خالِصَةً": خاصة، وذلك تأويل قريب من معنى التأويل الذي قلناه في ذلك... عن ابن عباس: {قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ} قال: قل يا محمد لهم يعني اليهود إن كانت لكم الدار الاَخرة يعني الخير عِنْدَ اللّهِ خَالِصَةً يقول: خاصة لكم.
وأما قوله: "مِنْ دُونِ النّاسِ" فإن الذي يدل عليه ظاهر التنزيل أنهم قالوا: لنا الدار الآخرة عند الله خالصة من دون جميع الناس. ويبين أن ذلك كان قولهم من غير استثناء منهم من ذلك أحدا من بني آدم إخبارُ الله عنهم أنهم قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصَارَى}. إلا أنه رُوي عن ابن عباس قول غير ذلك... عن ابن عباس: {مِنْ دُونِ النّاسِ} يقول: من دون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين استهزأتم بهم، وزعمتم أن الحق في أيديكم، وأن الدار الآخرة لكم دونهم.
وأما قوله: {فَتَمَنّوُا المَوْتَ} فإن تأويله: تشهّوه وأَرِيدُوه. وقد رُوي عن ابن عباس أنه قال في تأويله: «فسلوا الموت». ولا يعرف التمني بمعنى المسألة في كلام العرب، ولكن أحسب أن ابن عباس وجه معنى الأمنية إذا كانت محبة النفس وشهوتها إلى معنى الرغبة والمسألة، إذ كانت المسألة هي رغبة السائل إلى الله فيما سأله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وذلك أن أعداء الله تعالى كانوا يقولون: إن الجنة لنا في الآخرة بقولهم: {لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} [البقرة: 111] وقولهم: {وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا} [البقرة: 135] وقولهم {نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18]، [فقال الله تعالى {قل} لهم {إن كانت لكم الدار الآخرة} كما تزعمون، وأنكم {أبناء الله وأحباؤه} كما تقولون {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} وذلك أن المرء لا يكره الانتقال إلى داره وإلى بستانه، بل يتمنى ذلك. وكذلك المرء لا يكره القدوم على [أبيه] ولا على ابنه ولا على حبيبه، ولا يخاف نقمته ولا عذابه، بل يجد عنده الكرامات والهدايا. فإن كان كما تقولون {فتمنوا الموت} حتى تنجوا من غم الدنيا من تحمل الشدائد التي فيها {إن كنتم صادقين} في زعمكم بأن الآخرة لكم، وأنكم {أبناء الله وأحباؤه}.
فإن قيل: إنكم تقولون: إن الآخرة للمؤمنين، ثم لا أحد منهم يتمنى الموت إذا قيل له: تمن الموت، [فما معنى الاحتجاج] عليهم بذلك؟ وذلك على المؤمنين كهو عليهم؛ قيل بوجهين:
أحدهما: أن المؤمنين لم يجعلوا لأنفسهم من الفضل والمنزلة عند الله ما جعل أولئك لأنفسهم، فكان في تمنيهم صدق ما ادعوا لأنفسهم، وفي الامتناع عن ذلك ظهور صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني:... أنهم ادعوا أنهم {أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18]، وفي تمنيهم الموت ردهم وصرفهم إلى الحبيب والأب الذي ادعوه، ولا أحد يرغب عن حبيبه وأبيه، فدل امتناعهم عن ذلك على كذبهم في دعاويهم، وبالله نستعين...
أحدهما: إظهار كذبهم وتَبكيتهم به.
والثاني: الدلالة على نبوة النبي عليه السلام؛ وذلك أنه تحداهم بذلك كما أمر الله تعالى بتحدّي النصارى بالمباهلة، فلولا علمهم بصدقه صلى الله عليه وسلم وكذبهم لسارعوا إلى تمني الموت، ولسَارَعَت النَّصَارى إلى المباهلة، لا سيّما وقد أخبر الفريقين أنهم لو فعلوا ذلك لنزل الموت والعذاب بهم، وكان يكون في إظهارهم التمني والمباهلة تكذيبٌ له ودَحْضٌ لحجته إذا لم ينزل بهم ما أوْعَدَهُم، فلما أحجموا عن ذلك مع التحدي والوعيد مع سهولة هذا القول، دلّ ذلك على علمهم بصحة نبوته بما عرفوه من كتبهم من نعته وصفته، كما قال تعالى: {ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم}...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}: قال أهل المعاني: إنّهم لم يقولوا هذا بألسنتهم، ولكن لما سمعوا الأمر وتلقوه بالعصيان نُسب ذلك عنهم إلى القول اتساعاً.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: يعني فاعملوا بما سمعتم.
[و] الثاني: أي اقبلوا ما سمعتم، كما قيل سمع الله لمن حمده، أي قبل الله حمده
{قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} فيه تأويلان:
أحدهما: أنهم قالوا ذلك حقيقة، ومعناه سمعنا قولك وعصينا أمرك.
والثاني: أنهم لم يقولوه ولكن فعلوا ما دل عليه، فقام الفعل منهم مقام القول.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كرَّرَ الإخبار عن غُلُوِّهم في حُبِّ العجل، ونُبُوِّهم عن قبول الحق... فلا النصحُ نَجَعَ فيهم، ولا العقوبةُ أوجبت إقلاعهم عن معاصيهم، ولا بالذم فيهم احتفلوا، ولا بموجب الأمر عملوا!
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يعني إن صحّ قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً.
و {الناس} للجنس وقيل: للعهد وهم المسلمون.
{فَتَمَنَّوُاْ الموت} لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من الدار ذات الشوائب،
كما روى عن المبشرين بالجنة ما روى. كان علي رضي الله عنه يطوف بين الصفين في غلالة، فقال له ابنه الحسن: ما هذا بزيّ المحاربين. فقال: يا بنيّ لا يبالي أبوك على الموت سقط، أم عليه سقط الموت.
وعن حذيفة رضي الله عنه أنه كان يتمنى الموت، فلما احتضر قال: حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم. يعني على التمني.
وقال عمار بصفين: الآن ألاقي الأحبة محمداً وحزبه.
وكان كل واحد من العشرة يحب الموت ويحنّ إليه.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
والذي قدمته أيديهم: قتل الأنبياء وتكذيبهم، وتبديل التوراة...
أحدها: أن التكرار في هذا وأمثاله للتأكيد وإيجاب الحجة على الخصم على عادة العرب.
وثانيها: أنه إنما ذكر ذلك مع زيادة وهي قولهم: {سمعنا وعصينا} وذلك يدل على نهاية لجاجهم.
أما قوله تعالى: {قالوا سمعنا وعصينا} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أن إظلال الجبل لاشك أنه من أعظم المخوفات ومع ذلك فقد أصروا على كفرهم وصرحوا بقولهم {سمعنا وعصينا} وهذا يدل على أن التخويف وإن عظم لا يوجب الانقياد.
المسألة الثانية: الأكثرون من المفسرين اعترفوا بأنهم قالوا هذا القول...
أما قوله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل} ففيه مسائل:
الثاني: كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض، فكذا تلك المحبة كانت مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وفي هذا التكرار أيضاً من الفائدة تذكارهم بتعداد نعم الله عليهم ونقمه منهم، ليزدجر الأخلاف بما حل بالأسلاف. وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل، لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال ابن جرير: وهذه الآية مما احتج الله به لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مُهَاجَره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم؛ وذلك أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم إلى قضية عادلة بينه وبينهم، فيما كان بينه وبينهم من الخلاف، كما أمره أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إذا خالفوه في عيسى ابن مريم، عليه السلام، وجادلوه فيه، إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة.
فقال لفريق من اليهود: إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك غير ضار بكم إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله، بل أعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها، والفوز بجوار الله في جناته إن كان الأمر كما تزعمون: من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا. وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا، وانكشف أمرنا وأمركم لهم فامتنعت اليهود من الإجابة إلى ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت، فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها، كما امتنع فريق من النصارى.
فهذا الكلام منه أوله حسن، وأما آخره فيه نظر؛ وذلك أنه لا تظهر الحجة عليهم على هذا التأويل، إذ يقال: إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أن يتمنوا الموت فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت، وكم من صالح لا يتمنى الموت، بل يود أن يعمر ليزداد خيرًا وترتفع درجته في الجنة، كما جاء في الحديث: (خيركم من طال عمره وحسن عمله). وجاء في الصحيح النهي عن تمني الموت، وفي بعض ألفاظه: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما محسنًا فلعله أن يزداد، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب). ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا: فها أنتم تعتقدون -أيها المسلمون- أنكم أصحاب الجنة، وأنتم لا تتمنون في حال الصحة الموت؛ فكيف تلزمونا بما لا نُلزمكم؟
وهذا كله إنما نشأ من تفسير الآية على هذا المعنى، فأما على تفسير ابن عباس فلا يلزم عليه شيء من ذلك، بل قيل لهم كلام نَصَف: إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس، وأنكم أبناء الله وأحبّاؤه، وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار، فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم، واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة. فلما تيقَّنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ونعته، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه. فعلم كل أحد باطلهم، وخزيهم، وضلالهم وعنادهم -عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
{قالوا سمعنا وعصينا}: قال ابن عرفة:... هو مغالطة منهم لأن السماع في قوله: « واسمعوا» ليس المراد به حقيقة بل هو من مجاز إطلاق السبب على مسببه، لأن السماع سبب في الطاعة، فكأنهم أمروا بالطاعة فغالطوا في ذلك، وحملوا الأمر بالسماع على حقيقته من أن المراد به الاستماع فقط فقالوا: « سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا»
قوله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ...} الباء إما للمصاحبة أي مع كفرهم، أو للسببية فيكون العقوبة على الذنب بالذنب كما ورد أن المعاصي تزيد الكفر.
قيل لابن عرفة: إنما كفروا بعبادتهم العجل، ولم يتقدم لهم قبل ذلك كفر بوجه؟ فقال: لا بل كفروا أولا كفرا عاما بالاعتقاد، ثم عبدوا العجل بالفعل.
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
قال أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَاج: في هذه الآية أعظم حجة، وأظهر دلالة على صحَّة الرسالة، لأنهُ قال لهم {فَتَمَنَّوُاْ الموت}، وأعلمهم أنهم لَنْ يتمنَّوْهُ أبداً، فلم يتمنَّهُ وَاحِدٌ منهم، وعن النبيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم: (والَّذي نَفُسِي بيَدِهِ، لا يقولها رجُلٌ منهم إلا غصَّ بِرِيقِهِ) يعني: يموتُ مكانه، قال أبو محمَّدٍ الأصيليُّ: من أَعجب أمرهم أنَّهُ لا تُوجَدُ منهم جماعةٌ، ولا واحدٌ من يومِ أَمَرَ اللَّهُ تعالى بذلك نبيَّهُ يقدَّم عليه، ولا يجيب إليه، وهذا موجودٌ مشاهَدٌ لمن أراد أن يمتحنه منهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قالوا سمعنا وعصينا}: ولما كانت فائدة السماع القبول ومن سمع فلم يقبل كان كمن لم يسمع قال {واسمعوا} وإلا دفناكم به، وذلك حيث يكفي غيركم في التأديب رفع الدرة والسوط عليه فينبعث للتعلم الذي أكثر النفوس الفاضلة تتحمل فيه المشاق الشديدة لما له من الشرف ولها به من الفخار؛ ولما ضلوا بعد هذه الآية الكبرى وشيكاً مع كونها مقتضية للثبات على الإيمان بعد أخذ الميثاق الذي لا ينقضه ذو مروءة فكان ضلالهم بعده منبئاً عن أن العناد لهم طبع لازم فكانوا كأنهم عند إعطاء العهد عاصون قال مترجماً عن أغلب أحوال أكثرهم في مجموع أزمانهم وهو ما عبر عنه في الآية السالفة بقوله: {ثم توليتم} [البقرة: 83] مؤذناً بالغضب عليهم بالإعراض عن خطابهم بعد إفحامهم بالمواجهة في تقريعهم حيث ناقضوا ما قال لهم من السماع النافع لهم فأخبروا أنهم جعلوه ضاراً... قالوا سمعنا... وعصينا... وساقه لغرابته مساق جواب سائل كأنه قال: رفع الطور فوقهم أمر هائل جداً مقتض للمبادرة إلى إعطاء العهد ظاهراً وباطناً والثبات عليه فما فعلوا؟ فقيل: بادروا إلى خلاف ذلك.
{وأشربوا} فأعظم الأمر بإسناد الفعل إليهم ثم إلى قلوبهم...
{بكفرهم} وفيه إشارة إلى أن من أعرض عن امتثال الأمر استحق الإبعاد عن مقام الأنس...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وأما السياق الذي وردت فيه هذه الآية بهذا النظم والأسلوب المخالفين لأسلوب تلك الآية مع الاتحاد في المعنى فهو إقامة الحجة على اليهود الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورد زعمهم أنهم مؤمنون بشريعة لا يطالبهم الله بالإيمان بغيرها كما قلنا في التي قبلها، ولذلك ختم الآية بقوله تعالى مخاطبا للنبي عليه الصلاة والسلام {قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} أي إن صح زعمكم أنكم مؤمنون بشريعة – والإيمان الحقيقي العمل بما له من السلطان على الإرادة – فبئسما يأمركم به ذلك الإيمان من الأعمال التي منها عبادة العجل وقتل الأنبياء ونقض الميثاق.
لكن هذا الزعم مشكوك فيه بل يصح القطع بعدمه، بدليل الأعمال التي يستحيل أن تكون أثرا له. ولا ينسى القارئ ما تقدم من ربط الإيمان بالعمل الصالح في تفسيره قوله تعالى {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته} الآية. هذه حجة عليهم بطبيعة الإيمان وأثره في عمل المؤمن وتليها حجة أخرى تتعلق بفائدة الإيمان ومثوبته في الحياة الأخرى، وهي قوله عز وجل: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين}...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} أي صار حب العجل نافذا فيهم نفوذ الماء فيما يدخل فيه.
وقوله: بكفرهم، أي إن سبب هذا الحب الشديد لعبادة العجل هو ما كانوا عليه من الوثنية في مصر، فرسخ الكفر في قلوبهم بتمادي الأيام وورثه الخلف عن السلف.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والسياق هنا يلتفت من الخطاب إلى الحكاية.. يخاطب بني إسرائيل بما كان منهم، ويلتفت إلى المؤمنين -وإلى الناس جميعا- فيطلعهم على ما كان منهم.. ثم يلقن الرسول [ص] أن يجبههم بالترذيل والتبشيع لهذا اللون من الإيمان العجيب الذي يدعونه إن كان يأمرهم بكل هذا الكفر الصريح: (قل: بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين!).. ونقف هنا لحظة أمام التعبيرين المصورين العجيبين: (قالوا: سمعنا وعصينا).. (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم).. إنهم قالوا: سمعنا. ولم يقولوا عصينا. ففيم إذن حكاية هذا القول عنهم هنا؟ إنه التصوير الحي للواقع الصامت كأنه واقع ناطق. لقد قالوا بأفواههم: سمعنا. وقالوا بأعمالهم: عصينا. والواقع العملي هو الذي يمنح القول الشفوي دلالته. وهذه الدلالة أقوى من القول المنطوق...
وهذا التصوير الحي للواقع يومئ إلى مبدأ كلي من مبادئ الإسلام: إنه لا قيمة لقول بلا عمل. إن العمل هو المعتبر. أو هي الوحدة بين الكلمة المنطوقة والحركة الواقعة، وهي مناط الحكم والتقدير...
فأما الصورة الغليظة التي ترسمها: (وأشربوا في قلوبهم العجل) فهي صورة فريدة. لقد أشربوا. أشربوا بفعل فاعل سواهم. أشربوا ماذا؟ أشربوا العجل! وأين أشربوه؟ أشربوه في قلوبهم! ويظل الخيال يتمثل تلك المحاولة العنيفة الغليظة، وتلك الصورة الساخرة الهازئة: صورة العجل يدخل في القلوب إدخالا، ويحشر فيها حشرا، حتى ليكاد ينسى المعنى الذهني الذي جاءت هذه الصورة المجسمة لتؤديه، وهو حبهم الشديد لعبادة العجل، حتى لكأنهم أشربوه إشرابا في القلوب! هنا تبدو قيمة التعبير القرآني المصور، بالقياس... إنه التصوير.. السمة البارزة في التعبير القرآني الجميل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إبطال لدعوى قارة في نفوسهم اقتضاها قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} [البقرة: 91] الذي أرادوا به الاعتذار عن إعراضهم عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم بعذر أنهم متصلبون في التمسك بالتوراة لا يعدونها وأنهم بذلك استحقوا محبة الله إياهم وتكون الآخرة لهم، فلما أبطلت دعوى إيمانهم بما أنزل عليهم بإلزامهم الكذب في دعواهم بسند ما أتاه سلفهم وهم جدودهم من الفظائع مع أنبيائهم والخروج عن أوامر التوراة بالإشراك بالله تعالى بعبادة العجل، عقب ذلك بإبطال ما في عقائدهم من أنهم أهل الانفراد برحمة الله ما داموا متمسكين بالتوراة وأن من خالفها لا يكون له حظ في الآخرة، وارتكب في إبطال اعتقادهم هذا طريقة الإحالة على ما عقدوا عليه اعتقادهم من الثقة بحسن المصير أو على شكهم في ذلك، فإذا ثبت لديهم شكهم في ذلك علموا أن إيمانهم بالتوراة غير ثابت على حقه وذلك أشد ما يفت في أعضادهم ويسقط في أيديهم لأن ترقب الحظ الأخروي أهم ما يتعلق به المعتقد المتدين فإن تلك هي الحياة الدائمة والنعيم المقيم. فهذه الآية تحدت اليهود كما تحدى القرآن مشركي العرب بقوله: {فأتوا بسورة من مثله} [البقرة: 23]. وإنما فصلت هاته الجملة عما قبلها لاختلاف السياق لأن هذه الآية إلقاء حجة عليهم والآيات السابقة تفظيع لأحوالهم وإن كان في كل من ذلك احتجاج لكن الانتقال من أسلوب إلى أسلوب كان محسناً للفصل دون العطف لا سيما مع افتتاح الاحتجاج ب"قل".
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وهنا إشارة بيانية يحسن التنبيه إليها:
الأولى: في كلمة {لكم} فيها اللام المفيدة للملكية أو الاختصاص، وقد ابتدأ بها بيانا لدعمهم، ولذلك جاء بعدها خالصة لكم من دون الناس.
الثانية: الإشارة إلى أن الدار الآخرة هي عند الله تعالى مالك يوم الدين، وهو الذي تدعون أنكم أبناؤه وأحباؤه ومع ذلك تكفرون به وتتخذون العجل تشركون وتعبدونه.
الثالثة: الإشارة إلى أنهم ليسوا صادقين، بل هم كاذبون؛ ولذلك كانت أداة التعليق إن في قوله: {إن كنتم صادقين} ولهذا نفى الله سبحانه أن يتمنوه.
تنبيه: يلاحظ أن الله تعالى أمر نبيه بأن يتولى الرد عليهم في قوله تعالى: {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا (90)} [البقرة] وقوله تعالى: {قل بئسما يأمركم به إيمانكم... (93)} [البقرة] وفي قوله تعالى: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله}. لم يتول الله تعالى الرد والجدل معهم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى الجدل معهم فما الحكمة في ذلك؟
نقول ما تصل إليه مداركنا – والله هو الحكيم العليم – إن مجادلتهم التي فيها التحدي كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم فناسب أن يتولى بأمر الله تعالى الرد هو عليه الصلاة والسلام؛ ولأن مقام الله تعالى أعلى من أن ينزل لمجادلة الكافرين الظالمين لأنفسهم...
بعد أن ذكرهم الله سبحانه وتعالى بكفرهم بعبادتهم للعجل.. وكان هذا نوعا من التأنيب الشديد والتذكير بالكفر... أراد أن يؤنبهم مرة أخرى وأن يذكرهم أنهم آمنوا خوفا من وقوع جبل الطور عليهم... ولم يكن الجبل سيقع عليهم... لأن الله لا يقهر أحدا على الإيمان... ولكنهم بمجرد أن رأوا جبل الطور فوقهم آمنوا... مثلهم [في ذلك] كالطفل الذي وصف له الطبيب دواء مرا ليشفي ولذلك فإن رفع الله سبحانه وتعالى لجبل الطور فوقهم ليأخذوا الميثاق والمنهج... لا يقال إنه فعل ذلك إرغاما لكي يؤمنوا... إنه إرغام المحب... يريد الله من خلقه ألا يعيشوا بلا منهج سماوي فرفع فوقهم جبل الطور إظهارا لقوته وقدرته تبارك وتعالى حتى إذا استشعروا هذه القوة الهائلة وما يمكن أن تفعله لهم وبهم آمنوا...
الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتهم إلى أنه لم يترك حيلة من الحيل حتى يتلقى بنو إسرائيل منهج الله الصحيح... لكن غريزة الاستكبار والعناد منعتهم أن يستمروا على الإيمان.
{ميثاقكم}. هل الميثاق منهم أو هو ميثاق الله؟. طبعا هو ميثاق الله... ولكن الله جل جلاله خاطبهم بقوله: {ميثاقكم} لأنهم أصبحوا طرفا في العقد... وما داموا قد أصبحوا طرفا أصبح ميثاقهم... ولابد أن نؤمن أن رفع جبل الطور فوق اليهود لم يكن لإجبارهم لأخذ الميثاق منهم حتى لا يقال أنهم أجبروا على ذلك... هم اتبعوا موسى قبل أن يرفع فوقهم جبل الطور...فلابد أنهم أخذوا منهجه باختيارهم وطبقوه باختيارهم لأن الله سبحانه وتعالى لم يبق الطور مرفوعا فوق رءوسهم أينما كانوا طوال حياتهم حتى يقال أنهم أجبروا... فلو أنهم أجبروا لحظة وجود جبل الطور فوقهم... فإنهم بعد أن انتهت هذه المعجزة لم يكن هناك ما يجبرهم على تطبيق المنهج... ولكن المسألة أن الله تبارك وتعالى... حينما يرى من عباده مخالفة فإنه قد يخيفهم... وقد يأخذهم بالعذاب الأصغر علهم يعودون إلى إيمانهم... وهذا يأتي من حب الله لعباده لأنه يريدهم مؤمنين...
ولكن اليهود قوم ماديون لا يؤمنون إلا بالمادة والله تبارك وتعالى أراد أن يريهم آية مادية على قلوبهم تخشع وتعود إلى ذكر الله...
{خذوا ما آتيناكم بقوة} لأن ما يؤخذ بقوة يعطى بقوة... والأخذ بقوة يدل على عشق الآخذ للمأخوذ... ومادام المؤمن يعشق المنهج فإنه سيؤدي مطلوباته بقوة... فالإنسان دائما عندما يأخذ شيئا لا يحبه فإنه يأخذه بفتور وتهاون.
{واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا}... القول هو عمل اللسان والفعل للجوارح كلها ما عدا اللسان... القول أن تنطق بلسانك والفعل أن تقوم جوارحك بالتنفيذ...والعمل أن يطابق القول الفعل...
هم: {قالوا سمعنا وعصينا}... قالوا سمعنا في القول وفي الفعل عصينا.. وليس معنى ذلك أنهم قالوا بلسانهم عصينا في الفعل... فالمشكلة جاءت من عطف عصينا على سمعنا... فتحسب أنهم قالوا الكلمتين... و [ليس الأمر كذلك] [ف] هم قالوا سمعنا ولكنهم لم ينفذوا فلم يفعلوا والله سبحانه وتعالى يريدهم أن يسمعوا سماع طاعة لا سماع تجرد أي مجرد سماع... ولكنهم سمعوا ولم يفعلوا شيئا [فكان] عدم فعلهم معصية.
{وأشربوا في قلوبهم العجل}. الحق تبارك وتعالى يريد أن يصور لنا ماديتهم.. فالحب أمر معنوي وليس أمراً مادياً لأنه غير محسوس.. وكان التعبير يقتضي أن يقال وأشربوا حب العجل... ولكن الذي يتكلم هو الله... يريد أن يعطينا الصورة الواضحة الكاملة في أنهم أشربوا العجل ذاته أي دخل العجل إلى قلوبهم. لكن كيف يمكن أن يدخل العجل في هذا الضيق وهو القلب...الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى الشيوع في كل شيء بكلمة أشربوا... لأنها وصف لشرب الماء والماء يتغلغل في كل الجسم...والصورة تعرب عن تغلغل المادية في قلوب بني إسرائيل حتى كأن العجل دخل في قلوبهم وتغلغل كما يدخل الماء في الجسم مع أن القلب لا تدخله الماديات...
(94- *** قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ***)