تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱسۡمَعُواْۖ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَأُشۡرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡعِجۡلَ بِكُفۡرِهِمۡۚ قُلۡ بِئۡسَمَا يَأۡمُرُكُم بِهِۦٓ إِيمَٰنُكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (93)

المفردات :

الطور : هو الجبل المعروف في شبه جزيرة سيناء .

وأشربوا في قلوبهم : أشرب قلبه كذا أي حل محل الشراب ، كأن الشيء يساغ فهو يسري في القلب المحب ويمازجه كما يسري الشراب العذب البارد في اللهاة ، وحقيقة أشربه كذا : جعله شاربا له .

التفسير :

93- وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا . واذكروا يابني إسرائيل ، إذ أخذنا الميثاق المؤكد عليكم بأن تعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعلموا بشرعه ، وكان أخذ الميثاق علبكم في موقف كله رهبة وخشوع وبيان لقدرة الله على عقاب من لم يمتثل إذ رفع فوقكم جبل الطور كأنه ظلة تظللكم ، وظننتم أنه سيقع عليكم ، وطلب منكم حينئذ أن تأخذوا ما آتاكم من الشرع بقوة : بأن تسمعوا سماع تدبر ، وفهم وقبول وتعملوا بما جاءكم فيه من التكاليف بحزم وعزم ، ولكنكم لم تلبثوا أن نقضتم العهد بمجرد أن زال عنكم هذا الموقف .

ومعنى قوله تعالى : خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا . أي قلنا لكم خذوا ما أمرناكم به من التوراة بجد واجتهاد واسمعوا ما تؤمرون به سماع طاعة وتفهم ، ثم حكى سبحانه جوابهم الذي يدل على عنادهم فقال : قالوا سمعنا وعصينا .

أي كانت حالهم في المخالفة مثل حال من قالوا سمعنا قولك وعصينا أمرك . وقال الزمخشري : في الكشاف :

( فإن قلت كيف طابق قوله جوابهم ؟ قلت : طابقه من حيث إنه قال لهم اسمعوا ، وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة ، فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة ) ( 222 ) .

وقد اختلف المفسرون : هل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا أو أنهم فعلوا فعلا مقام القول فيكون مجازا ؟

قال الفخر الرازي : ( الأكثرون من المفسرين على أنهم قالوا هذا القول حقيقة )

وقال أبو مسلم : وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان فعبر عن ذلك بالقول ولم يقولوه ، كقوله تعالى : فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين . ( فصلت11 ) قال : والأول أولى لأن صرف الكلام عن ظاهره بغير الدليل لا يجوز( 223 ) .

وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم . واختلط حب غبادة العجل بقلوبهم ، تقليدا لسادتهم من الفراعنة : الذين كانوا يعبدونه ويقدسونه ، ولم ينتفعوا بتحرير الله لهم من ذل العبودية والقتل ، حيث شق البحر لهم ونجاهم .

ولهذا انتهزوا فرصة ذهاب موسى عليه السلام لتلقي ألواح التوراة : فأرضوا حبهم لمعبودهم القديم ، وعبدوا صنما على شكل العجل ، صنعه لهم موسى السامرى من حليهم( 224 ) .

وفي تفسير ابن كثير : وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم .

قال قتادة : أشربوا حبه حتى خلص إلى قلوبهم ، وروى أحمد عن أبى الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حبك الشيء يعمى ويصم " رواه أبو داود ( 225 ) .

قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين : قل لهم هذا يا محمد : بئس الذي يأمركم به إيمانكم المزعوم بالتوراة من الأعمال التي تقترفونها ، كعبادة العجل وقتل الأنبياء ونقض الميثاق ، وقولكم : سمعنا وعصينا . وإضافة الإيمان إليهم في قولهم : إيمانكم . للإيذان بأنه ليس بإيمان حقيقة كما ينبئ عنه قوله تعالى : إن كنتم مؤمنين . فإنه قدح في دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم من التوراة وإبطال لهذه الدعوى ، وتقرير الإبطال : إن كنتم فيما اقترفتموه من الشرك والمعاصي مؤمنين بها ، عاملين فبها كما ادعيتم ، فبئسما يأمركم به إيمانكم المزعوم بها ، إذ إن الإيمان الصادق بها لا يأمركم بما اقترفتموه من الشرك والمعاصي ، فليس فيها إباحة شيء من ذلك ، وهذا برهان على عدم إيمانكم بها .

قال الطبري : قوله : إن كنتم مؤمنين . أي إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم ، إنما كذبهم الله بذلك لأن التوراة تنهى عن ذلك كله وتأمر بخلافه ، فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة إن كان يأمرهم بذلك ، فبئس الأمر تأمر به ، إنما ذلك نفي من الله تعالى عن التوراة أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم ، وأن يكون التصديق بها يدل على شيء من مخالفة أمر الله ، وإعلام منه جل ثناؤه أن الذي يأمر بذلك أهواؤهم ، والذي يحملهم عليه البغي والعدوان( 226 ) .

وقد ذكر الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراز ألوانا من الإعجاز البياني والنفسي تنطوي عليها الآيات السابقة في حجاج اليهود .

ففي تفسير الآية( 91 ) من سورة البقرة : وإذا قيل لكم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم . . .

قال الأستاذ دراز : هذه الآية قطعة من فصل من قصة بني إسرائيل والعناصر الأصلية التي تبرزها لنا هذه الكلمات القليلة تتلخص فيما يلي :

1- مقالة ينصح بها الناصح لليهود : إذ يدعوهم إلى الإيمان بالقرآن .

2- إجابتهم لهذا الناصح بمقالة تنطوي على مقصدين .

3- الرد على هذا الجواب بركنيه من عدة وجوه . وفي ختام الآية 91 : قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين .

يقول الأستاذ دراز :

لقد استوى القرآن إلى الرد على المقصد الأصلي الذي تبجحوا بإعلانه ، فأوسعهم تكذيبا وتفنيدا ، وبين أن داء الجحود فيهم داء قديم ، قد أشربوه في قلوبهم ، ومضت عليه القرون حتى أصبح مرضا مزمنا ، وأن الذي أتوه اليوم من الكفر بما أنزل على محمد ماهو إلا حلقة متصلة بسلسلة كفرهم بما أنزل عليهم ، وساق على ذلك الشواهد التاريخية المفظعة التي لا سبيل إلى إنكارها ، في جهلهم بالله ، وانتهاكهم لحرمة أنبيائه وتمردهم على أوامره .

قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين . تأمل كيف أن هذا انتقال كانت النفس قد استعدت له في آخر المرحلة السابقة إذ يفهم السامع من تكذيبهم لما يصدق كتابهم أنهم صاروا مكذبين كتابهم نفسه ، وهل الذي يكذب من يصدقك يبقى مصدقا لك ؟

ثم انظر بعد أن سجل القرآن على بني إسرائيل أفحش الفحش وهو وضعهم البقر الذي هو مثل في البلادة موضع المعبود الأقدس ، وبعد أن وصف قسوة قلوبهم في تأبيهم على أوامر الله مع حملهم عليها بالآيات الرهيبة . بعد كل ذلك تراه لا يزيد على أن يقول في الأمر : إن هذا ( ظلم ) وفي الثانية ( بئسما ) صنعتم ، أذلك ما تقابل به هذه الشناعات ؟ نعم إنهما كلمتان وافيتان بمقدار الجريمة لو فهمتا على وجههما ، ولكن أين حدة الألم وحرارة الاندفاع في الانتقام .

بل أين الإقذاع والتشنيع ؟ وأين الإسراف والفجور الذي تراه في كلام الناس ، إذا أحفظوا بالنيل من مقامهم .

لله ما أعف هذه الخصومة وما أعز هذا الجناب وأغناه عن شكر الشاكرين وكفر الكافرين ، وتالله إن هذا الكلام لا يصدر عن نفس بشر( 227 ) .