ثم ذكر أمراً آخر هو أبين في عنادهم وأنهم إنما هم مع الهوى فقال مقبلاً على خطابهم لأنه أشد في التقريع { وإذ أخذنا }{[3760]} وأظهره في مظهر العظمة تصويراً{[3761]} لمزيد جرأتهم{[3762]} { ميثاقكم } على الإيمان والطاعة { ورفعنا فوقكم الطور } الجبل العظيم الذي جعلناه زاجراً لكم عن الرضى بالإقامة في حضيض الجهل ورافعاً إلى أوج العلم وقلنا لكم وهو فوقكم { خذوا ما آتيناكم } من الأصول والفروع في هذا الكتاب العظيم { بقوة } .
{[3763]}ولما كانت فائدة السماع القبول ومن سمع فلم يقبل كان كمن لم يسمع قال {[3764]}{ واسمعوا }{[3765]} وإلا دفناكم به ، {[3766]}وذلك{[3767]} حيث يكفي غيركم في التأديب رفع{[3768]} الدرة{[3769]} والسوط عليه فينبعث للتعلم{[3770]} الذي أكثر النفوس الفاضلة تتحمل فيه المشاق الشديدة لما له{[3771]} من الشرف ولها به من الفخار ؛ ولما ضلوا بعد هذه الآية الكبرى وشيكاً مع كونها مقتضية للثبات على الإيمان بعد أخذ الميثاق الذي لا ينقضه ذو مروءة فكان ضلالهم بعده {[3772]}منبئاً عن{[3773]} أن العناد لهم طبع لازم فكانوا كأنهم عند إعطاء العهد عاصون قال مترجماً{[3774]} عن أغلب أحوال أكثرهم في مجموع أزمانهم وهو ما عبر عنه في الآية السالفة بقوله :
{ ثم توليتم }{[3775]} [ البقرة : 83 ] مؤذناً بالغضب عليهم بالإعراض عن خطابهم بعد إفحامهم{[3776]} بالمواجهة في تقريعهم{[3777]} حيث ناقضوا ما قال لهم من السماع النافع لهم فأخبروا أنهم جعلوه ضاراً { قالوا سمعنا{[3778]} } {[3779]}أي بآذاننا{[3780]} { وعصينا }{[3781]} أي وعملنا بضد ما سمعنا{[3782]} ؛ وساقه لغرابته{[3783]} مساق جواب سائل كأنه قال : رفع الطور فوقهم أمر هائل جداً مقتض للمبادرة إلى إعطاء العهد ظاهراً وباطناً والثبات عليه فما فعلوا ؟ فقيل : بادروا إلى خلاف ذلك { وأشربوا }{[3784]} فأعظم الأمر بإسناد الفعل إليهم ثم إلى قلوبهم ، وهو من الإشراب وهو{[3785]} مداخلة نافذة سائغة كالشراب وهو الماء المداخل{[3786]} كلية الجسم للطافته ونفوذه - قاله الحرالي{[3787]} : {[3788]}وقال الكشاف : و{[3789]}خلط لون بلون { في قلوبهم العجل } أي حبه{[3790]} وحذفه للإيذان بشدة التمكن بحيث صار المضاف هو المضاف إليه{[3791]} { بكفرهم } وفيه إشارة إلى أن من أعرض عن امتثال الأمر استحق الإبعاد عن مقام الأنس .
قال الإمام أبو الحسن الحرالي في المفتاح الباب الثامن في وجوه بيان الإقبال والإعراض في القرآن : اعلم أن كل مربوب يخاطب{[3792]} بحسب ما{[3793]} في وسعه لقنه{[3794]} وينفى عنه ما ليس في وسعه لقنه{[3795]} فلكل سن من أسنان القلوب خطاب إقبال بحسب لقنه ، وربما كان له إباء عن بعض ذلك فيقع عنه الإعراض بحسب بادي ذلك الإباء ، وربما تلافته النعمة فعاد الإقبال{[3796]} إليه بوجه ما دون صفاء الإقبال الأول ، وربما تناسقت الإقبالات مترتبة فيعلو البيان والإفهام{[3797]} بحسب رتبة من توجه إليه الإقبال ، ويشتد الإدبار بحسب بادي الإدبار ، وربما تراجع لفف البيان فيها بعضها على بعض ، فخطاب الإقبال على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم إفهام في القرآن
ألم تر إلى ربك كيف مد الظل }[ الفرقان : 45 ] الآية{[3798]}
{ وهو الذي جعل لكم الليل لباساً }[ الفرقان : 47 ] الآية{[3799]} : تفاوت الخطابين بحسب تفاوت المخاطبين ،
{ أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما }{[3800]} [ الأنبياء : 30 ] أعرض عنهما الخطاب ونفى عنهم ما ليس في حالهم رؤيته . { خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم } خاطبهم وأمرهم ، فلما عصوا أعرض وجه الخطاب عنهم ثم تلافاهم بخطاب لسان نبي الرحمة لهم ، واستمر إعراضه هو تعالى عنهم{[3801]} في تمادي الخطاب
{ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء }{[3802]} [ الطلاق : 1 ] تنزل الخطاب في الرتبتين ليبين{[3803]} للأعلى{[3804]} ما يبينه للأدنى
{ ذلك{[3805]} خير لكم{[3806]} وأطهر }{[3807]} [ المجادلة : 12 ] وهذا الباب عظيم النفع في الفهم لمن استوضح بيانه والتفاف{[3808]} موارده في القرآن - انتهى .
والدليل الوجودي{[3809]} على إشرابهم حب العجل مسارعتهم إلى عبادة ما يشبهه في عدم الضر والنفع والصورة ، ففي السفر الرابع من التوراة في قصة بالاق ملك الأمورانيين الذي استنجد بلعام بن بعور ما نصه : وسكن بنو إسرائيل ساطيم وبدأ الشعب{[3810]} أن يسفح ببنات مواب{[3811]} ودعين{[3812]} الشعب إلى ذبائح آلهتهم وأكل الشعب من ذبائحهم وسجدوا{[3813]} لآلهتهم وكمل بنو إسرائيل العبادة{[3814]} بعليون{[3815]} الصنم واشتد غضب الله على بني إسرائيل - انتهى .
ولما بين سبحانه عظيم كفرهم وعنادهم مع وقاحتهم بادعاء{[3816]} الإيمان والاختصاص بالجنان أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم على وجه التهكم{[3817]} بهم{[3818]} {[3819]}مؤكداً لذمهم{[3820]} بالتعبير بما وضع لمجامع الذم{[3821]} فقال{[3822]} { قل بئسما{[3823]} } {[3824]}أي بئس شيئاً الشيء الذي{[3825]} { يأمركم به } من الكفر { إيمانكم } هذا الذي ادعيتموه ؛ وأوضح هذا التهكم{[3826]} بقوله على سبيل الفرض{[3827]} والتشكيك{[3828]} { إن كنتم مؤمنين } على ما زعمتم ، فحصل من هذا أنهم إما كاذبون في دعواهم ، وإما أنهم أجهل الجهلة حيث عملوا ما لا يجامعه الإيمان وهم لا يعلمون .