مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱسۡمَعُواْۖ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَأُشۡرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡعِجۡلَ بِكُفۡرِهِمۡۚ قُلۡ بِئۡسَمَا يَأۡمُرُكُم بِهِۦٓ إِيمَٰنُكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (93)

قوله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين }

اعلم أن في الإعادة وجوها : أحدها : أن التكرار في هذا وأمثاله للتأكيد وإيجاب الحجة على الخصم على عادة العرب ، وثانيها : أنه إنما ذكر ذلك مع زيادة وهي قولهم : { سمعنا وعصينا } وذلك يدل على نهاية لجاجهم .

أما قوله تعالى : { قالوا سمعنا وعصينا } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : أن إظلال الجبل لاشك أنه من أعظم المخوفات ومع ذلك فقد أصروا على كفرهم وصرحوا بقولهم { سمعنا وعصينا } وهذا يدل على أن التخويف وإن عظم لا يوجب الانقياد .

المسألة الثانية : الأكثرون من المفسرين اعترفوا بأنهم قالوا هذا القول ، قال أبو مسلم : وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان فعبر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه كقوله تعالى : { أن يقول له كن فيكون } وكقوله : { قالتا أتينا طائعين } والأول أولى لأن صرف الكلام عن ظاهره بغير الدليل لا يجوز .

أما قوله تعالى : { وأشربوا في قلوبهم العجل } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : وأشربوا في قلوبهم حب العجل ، وفي وجه هذا الاستعارة وجهان ، الأول : معناه تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب ، وقوله : { في قلوبهم } بيان لمكان الإشراف كقوله : { إنما يأكلون في بطونهم نارا } الثاني : كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض فكذا تلك المحبة كانت مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال .

المسألة الثانية : قوله : { وأشربوا } يدل على أن فاعلا غيرهم فعل بهم ذلك ، ومعلوم أنه لا يقدر عليه سوى الله ، أجابت المعتزلة عنه من وجهين : الأول : ما أراد الله أن غيرهم فعل بهم ذلك لكنهم لفرط ولوعهم وإلفهم بعبادته أشربوا قلوبهم حبه فذكر ذلك على ما لم يسم فاعله كما يقال فلان : معجب بنفسه ، الثاني : أن المراد من أشرب أي زينه عندهم ودعاهم إليه كالسامري وإبليس وشياطين الإنس والجن . أجاب الأصحاب عن الوجهين بأن كلا الوجهين صرف اللفظ عن ظاهره وذلك لا يجوز المصير إليه إلا لدليل منفصل ، ولما أقمنا الدلائل العقلية القطعية على أن محدث كل الأشياء هو الله لم يكن بنا حاجة إلى ترك هذا الظاهر .

أما قوله تعالى : { بكفرهم } فالمراد باعتقادهم التشبيه على الله وتجويزهم العبادة لغيره سبحانه وتعالى .

أما قوله : { قل بئسما يأمركم به إيمانكم } ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : المراد بئسما يأمركم به إيمانكم بالتوراة لأنه ليس في التوراة عبادة العجل وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما قال في قصة شعيب : { أصلاتك تأمرك } وكذلك إضافة الإيمان إليهم .

المسألة الثانية : الإيمان عرض ولا يصح منه الأمر والنهي لكن الداعي إلى الفعل قد يشبه بالآمر كقوله تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } .

أما قوله تعالى : { إن كنتم مؤمنين } فالمراد التشكيك في إيمانهم والقدح في صحة دعواهم .