قوله تعالى : { يوم ترونها } يعني : الساعة ، وقيل : الزلزلة ، { تذهل } قال ابن عباس : تشغل ، وقيل : تنسى ، يقال : ذهلت عن كذا أي تركته واشتغلت بغيره عنه { كل مرضعة عما أرضعت } أي : كل امرأة معها مرضع بلا هاء ، إذا أريد به الصفة ، مثل حائض وحامل ، فإذا أرادوا الفعل أدخلوا الهاء . { وتضع كل ذات حمل حملها } أي : تسقط ولدها من هول ذلك اليوم . قال الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام ، وهذا يدل على أن هذه الزلزلة تكون في الدنيا لأن بعد البعث لا يكون حمل . ومن قال : تكون في القيامة ، قال هذا على وجه تعظيم الأمر لا على حقيقته ، كقولهم : أصابنا أمر يشيب منه الوليد ، يريد شدته . { وترى الناس سكارى وما هم بسكارى } قرأ حمزة و الكسائي : سكرى وما هم بسكرى بلا ألف وهما لغتان في جمع السكران ، مثل : كسلى وكسالى . قال الحسن : معناه : وترى الناس سكارى من الخوف ، وما هم بسكارى من الشراب . وقيل : معناه : وترى الناس كأنهم سكارى ، { ولكن عذاب الله شديد } .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر ، أنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر بن بكير الكوفي ، أنا وكيع عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا آدم قم فابعث بعث النار من ولدك قال : فيقول لبيك وسعديك والخير كله في يديك ، يا رب وما بعث النار ؟ قال فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ، قال : فحينئذ يشيب المولود ، وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ، قال : فيقولون : وأينا ذلك الواحد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تسعمائة وتسعة وتسعون من يأجوج ومأجوج ومنكم واحد ، فقال الناس : الله أكبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، والله إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ، والله لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ، قال فكبر الناس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ، أو الشعرة السوداء في الثور الأبيض " .
وروي عن عمران بن حصين ، وأبي سعيد الخدري ، وغيرهما " أن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلاً فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثوا المطي حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأها عليهم فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ، ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا قدوراً ، والناس ما بين باك أو جالس حزين متفكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتدرون أي يوم ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذلك يوم يقول الله عز وجل لآدم قم فابعث بعث النار من ولدك ، قال : فيقول آدم : من كل كم ؟ فيقول الله عز وجل : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحد إلي الجنة ، قال : فكبر ذلك على المسلمين وبكوا وقالوا : فمن ينجو إذن يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :أبشروا وسددوا وقاربوا فإن معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلا كثرتاه : يأجوج ومأجوج ، ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ، فكبروا وحمدوا الله ، ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ، فكبروا وحمدوا الله ، ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة ، وإن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً ، ثمانون منها أمتي ، وما المسلمون في الكفار إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة ، بل كالشعرة السوداء في الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود . ثم قال : ويدخل من أمتي سبعون ألفاً الجنة بغير حساب ، فقال عمر : سبعون ألفاً ؟ قال : نعم ومع كل واحد سبعون ألفاً ، فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ادع الله لي أن يجعلني منهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت منهم ، أو قال اللهم اجعله منهم ، فقام رجل منهم فقال : ادع الله أن يجعلني منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبقك بها عكاشة " .
{ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدها ، خصوصا في هذه الحال ، التي لا يعيش إلا بها .
{ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } من شدة الفزع والهول ، { وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى } أي : تحسبهم -أيها الرائي لهم- سكارى من الخمر ، وليسوا سكارى .
{ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } فلذلك أذهب عقولهم ، وفرغ قلوبهم ، وملأها من الفزع ، وبلغت القلوب الحناجر ، وشخصت الأبصار ، وفي ذلك اليوم ، لا يجزي والد عن ولده ، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا .
ويومئذ { يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }
وهناك { يعض الظالم على يديه ، يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا } وتسود حينئذ وجوه وتبيض وجوه ، وتنصب الموازين ، التي يوزن بها مثاقيل الذر ، من الخير والشر ، وتنشر صحائف الأعمال وما فيها من جميع الأعمال والأقوال والنيات ، من صغير وكبير ، وينصب الصراط على متن جهنم ، وتزلف الجنة للمتقين ، وبرزت الجحيم للغاوين . { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا* وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا } ويقال لهم : { لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } وإذا نادوا ربهم ليخرجهم منها ، قال : { اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ } قد غضب عليهم الرب الرحيم ، وحضرهم العذاب الأليم ، وأيسوا من كل خير ، ووجدوا أعمالهم كلها ، لم يفقدوا منها نقيرا ولا قطميرا .
هذا ، والمتقون في روضات الجنات يحبرون ، وفي أنواع اللذات يتفكهون ، وفيما اشتهت أنفسهم خالدون ، فحقيق بالعاقل الذي يعرف أن كل هذا أمامه ، أن يعد له عدته ، وأن لا يلهيه الأمل ، فيترك العمل ، وأن تكون تقوى الله شعاره ، وخوفه دثاره ، ومحبة الله ، وذكره ، روح أعماله .
ثم فصل - سبحانه - هذا الشىء العظيم تفصيلاً يزيد فى وجل القلوب فقال : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ . . } .
والضمير فى " ترونها " ، يعود إلى الزلزلة لأنها هى المتحدث عنها والظرف " يوم " منصوب بالفعل تذهل ، والرؤية بصرية لأنهم يرون ذلك بأعينهم .
والذهول : الذهاب عن الأمر والانشغال عنه مع دهشة وحيرة وخوف ، ومنه قول عبد الله ابن رواحة - رضى الله عنه - :
ضربا يُزيل الهامَ عن مَقِيله . . . ويُذْهِل الخليلَ عن خليله
أى : أن هذه الزلزلة من مظاهر شدتها ورهبتها ، أنكم ترون الأم بسببها تنسى وتترك وليدها الذى ألقمته ثديها . وكأنها لا تراه ولا تحس به من شدة الفزع .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : لم قيل { مُرْضِعَةٍ } دون مرضع ؟ قلت : المرضعة التى هى فى حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبى ، والمرضع : التى من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع فى حال وصفها به ، فقيل : مرضعة ، ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه ، وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة { عَمَّآ أَرْضَعَتْ } عن إرضاعها : أو عن الذى أرضعته وهو الطفل .
وقوله - سبحانه - : { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } بيان لحالة ثانية تدل على شدة الزلزلة وعلى عنف آثارها .
أى : وترونها - أيضاً - تجعل كل حاملتضع حملها قبل تمامه من شدة الفزع .
ثم بين - سبحانه - حالة ثالثة لللآثار التى تدل على شدة هذه الزلزلة فقال : { وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } .
أى : وترى - أيها المخاطب - الناس فى هذا الوقت العصيب ، هيئتهم كهيئة السكارى من قوة الرعب والفزع . وما هم على الحقيقة بسكارى ، لأنهم لم يشربوا ما يسكرهم ولكن عذاب الله شديد . أى : ولكن شدة عذابه - سبحانه - هى التى جعلتهم بهذه الحالة التى تشبه حالة السكارى فى الذهول والاضطراب .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى فقال : " وتراهم سكارى على التشبيه ، وما هم بسكارى على التحقيق ، ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله ، هو الذى أذهب عقولهم ، وطير تمييزهم ، وردهم فى نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه . . " .
وقد علق صاحب الانتصاف على عبارة صاحب الكشاف هذه فقال : قال الأحمد : والعلماء يقولون : إن من أدلة المجاز صدق نقيضه ، كقولك : زيد حمار ، إذا وصفته بالبلادة ، ثم يصدق أن تقول : وما هو بحمار ، فتنفى عنه الحقيقة ، فكذلك الآية ، بعد أن أثبت السكر المجازى نفى الحقيقة أبلغ نفى مؤكد بالباء ، والسر فى تأكيده : التنبيه على أن هذا السكر الذى هو بهم فى تلك الحالة ليس من المعهود فى شىء ، وإنما هو أمر لم يعهدوا مثله من قبل . والاستدراك بقوله { ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } راجع إلى قوله : { وَمَا هُم بسكارى } وكأنه تعليل لإثبات السكر المجازى ، فكأنهى قيل : إذا لم يكونوا سكارى من الخرم فما هذا السكر الغريب وما سببه ؟ فقال : شدة عذاب الله - تعالى - " .
هذا ، وقد اختلف العلماء فى وقت هذه الزلزلة المذكورة هنا ، فمنهم من يرى أنها تكون فى آخر عمر الدنيا ، وأول أحوال الساعة ومنهم من يرى أنها تكون يوم القيامة ، بعد خروج الناس من قبروهم للحساب .
وقد وفى هذه المسألة حقها الإمام ابن كثير فقال ما ملخصه : " قال قائلون : هذه الزلزلة كائنة فى آخر عمر الدنيا . وأول أحوال الساعة .
وقال آخرون : بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال ، كائن يوم القيامة فى العرصات ، بعد القيام من القبور .
ثم ساق - رحمه الله - سبعة أحاديث استدل بها أصحاب الرأى الثانى .
ومن هذه الأحاديث ما رواه الشيخان عن أبى سعيد الخدرى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يقول الله - تعالى - يوم القيامة : يا آدم . فيقول : لبيك ربنا وسعديك . فيُنَادَى بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار ، قال : يا رب ، وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف - أراه قال - تسعمائة وتسعة وتسعين ، فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد " . فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم . فقال - صلى الله عليه وسلم - : " مِن يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحد ، ثم أنتم فى الناس كالشعرة البيضاء فى الثور الأسود ، وإنى لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة - فكبرنا - ثم قال : ثلث أهل الجنة - فكبرنا - ثم قال : شطر أهل الجنة فكبرنا " " .
وعلى الرأى الأول تكون الزلزلة بمعناها الحقيقى ، بأن تتزلزل الأرض وتضطرب ، ويعقبها طلوع الشمس من مغربها ، ثم تقوم الساعة .
وعلى الرأى الثانى تكون الزلزلة المقصود بها شدة الخوف والفزع ، كما فى قوله - تعالى - فى شأن المؤمنين بعد أن أحاطت بهم جيوش الأحزاب : { هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } فالمقصود : أصيبوا بالفزع والخوف ، وليس المقصود أن الأرض تحركت واضطربت من تحتهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يوم ترونها تذهل كل مرضعة}: تدع البنين لشدة الفزع من الساعة.. {عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها} النساء والدواب حملها من شدة الفزع، {وترى الناس سكارى} من الخوف {وما هم بسكارى} من الشراب، {ولكن عذاب الله شديد}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله تعالى:"يَوْمَ تَرَوْنَها" يقول جلّ ثناؤه: يوم ترون أيها الناس زلزلة الساعة، تذهل من عظمها كل مرضعة مولود عما أرضعت.
ويعني بقوله: "تَذْهَلُ": تنسى وتترك من شدّة كربها...
فتأويل الكلام إذن: يوم ترون أيها الناس زلزلة الساعة، تنسى وتترك كلّ والدة مولود ترضع ولدها عما أرضعت...
"وتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَها "قال: ألقت الحوامل ما في بطونها لغير تمام. "وتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا": يقول: وتسقط كل حامل من شدّة كرب ذلك حملها.
وقوله: "وَتَرَى النّاسَ سُكارَى" قرأت قرّاء الأمصار وَتَرَى النّاسَ سُكارَى على وجه الخطاب للواحد، كأنه قال: وترى يا محمد الناس سُكارى وما هم بسُكارى... ومعنى الكلام: وترى الناس يا محمد من عظيم ما نزل بهم من الكرب وشدّته سُكارى من الفزع وما هم بسُكارى من شرب الخمر...
"وَلَكِنّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ" يقول تعالى ذكره: ولكنهم صاروا سكارى من خوف عذاب الله عند معاينتهم ما عاينوا من كرب ذلك وعظيم هوله، مع علمهم بشدّة عذاب الله.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} قال الحسن: تذهل الأم عن ولدها لغير فطام، وتلقي الحامل ما في بطنها لغير تمام.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والذهول:الذهاب عن الشيء دهشا وحيرة، وهذا تهويل ليوم القيامة، وتعظيم لما يكون فيه من الشدة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... والذهول: الذهاب عن الأمر مع دهشة
فإن قلت: لم قيل: {مُرْضِعَةٍ} دون مرضع؟ قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي. والمرضع: التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، فقيل: مرضعة؛ ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة. {عَمَّا أَرْضَعَتْ} عن إرضاعها، أو عن الذي أرضعته وهو الطفل... "سكارى"... والمعنى: وتراهم سكارى على التشبيه، وما هم بسكارى على التحقيق ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم وطير تمييزهم وردّهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه. وقيل: وتراهم سكارى من الخوف، وما هم بسكارى من الشراب.
فإن قلت: لم قيل أوّلا: ترون، ثم قيل: ترى، على الإفراد؟ قلت لأنّ الرؤية أوّلاً علقت بالزلزلة فجعل الناس جميعاً رائين لها، وهي معلقة أخيراً بكون الناس على حال السكر، فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائياً لسائرهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والذهول: الغفلة عن الشيء بطريان ما يشغل عنه من هم أو وجع أو غيره.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
«المرضع»: من لها ولد ترضعه. و«المرضعة»: من ألقمت الثدي للرضيع. وعلى هذا فقوله تعالى: {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت} أبلغ من مرضع في هذا المقام. فإن المرأة قد تذهل عن الرضيع إذا كان غير مباشر للرضاعة. فإذا التقم الثدي واشتغلت برضاعة لم تذهل عنه إلا لأمر أعظم عندها من اشتغالها بالرضاع.
وتأمل رحمك الله تعالى السر البديع في عدوله سبحانه عن كل حامل إلى قوله: {ذات حمل} فإن الحامل قد تطلق على المهيأة للحمل، وعلى من هي في أول حملها ومبادئه. فإذا قيل: ذات حمل لم يكن إلا لمن ظهر حملها وصلح للوضع كاملا، أو سقطا. كما يقال: ذات ولد. فأتى في المرضعة بالتاء التي تحقق فعل الرضاعة دون التهيؤ لها. وأتى في الحامل بالسبب الذي يحقق وجود الحمل وقبوله للوضع. والله سبحانه وتعالى أعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان المراد بالساعة القيام وما والاه، جعل مظروفاً لذلك اليوم الذي هو من ذلك الوقت إلى افتراق الفريقين إلى داري الإبعاد والإسعاد، والهوان والغفران، فقال تعالى: {يوم ترونها} أي الزلزلة أو كل مرضعة، أضمرها قبل الذكر، تهويلاً للأمر وترويعاً للنفس {تذهل} أي تنسى وتغفل حائرة مدهوشة، وهو العامل في "يوم "ويجوز أن يكون عامله معنى الكلام، أي تستعظمون جداً ذلك اليوم عند المعاينة وإن كنتم الآن تكذبون، ويكون ما بعده استئنافاً ودل بالسور على عموم تأثيره لشدة عظمته فقال: {كل مرضعة} أي بالفعل {عما أرضعت} من ولدها وغيره... {وتضع كل ذات حمل حملها} أي تسقطه قبل التمام رعباً وفزعاً...
ولما كان الناس كلهم يرون الزلزلة، ولا يرى الإنسان السكر -إلا من غيره قال في الزلزلة {ترونها} وقال في {السكر}: {وترى الناس سكارى} أي لما هم فيه من الدهش والحيرة والبهت لما شاهدوا من حجاب العز وسلطان الجبروت وسرادق الكبرياء، ثم دل على أن ذلك ليس على حقيقته بقوله، نافياً لما يظن إثباته بالجملة الأولى: {وما هم بسكارى} أي من الخمر.
ولما نفى أن يكونوا سكارى من الخمر، أثبت ما أوجب لهم تلك الحالة فقال: {ولكن عذاب الله} ذي العز والجبروت {شديد} فهو الذي وجب أن يظن بهم السكر، لأنه أذهب خوفه حولهم، وطير هوله عقولهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {يوم ترونها تذهل} الخ... بيان لجملة {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} [الحج: 1] لأن ما ذكر في هذه الجملة يبيّن معنى كونها شيئاً عظيماً وهو أنه عظيم في الشرّ والرعب.
ويتعلق {يوم ترونها} بفعل {تذهل} وتقديمُه على عامله للاهتمام بالتوقيت بذلك اليوم وتوقع رؤيته لكل مخاطب من الناس. وأصل نظم الجملة: تذهل كل مرضعة عما أرضعت يوم تَرون زَلزلة الساعة. فالخطاب لكلّ من تتأتّى منه رُؤية تلك الزَلزلة بالإمكان.
وضمير النصب في {ترونها} يجوز أن يعود على {زلزلة} [الحج: 1] وأطلقت الرؤية على إدراكها الواضح الذي هو كرؤية المرئيات لأنّ الزلزلة تُسمع ولا ترى. ويجوز أن يعود إلى الساعة.
ورؤيتُها: رؤيةُ ما يحدث فيها من المرئيات من حضور الناس للحشر وما يتبعه ومشاهدة أهوال العذاب. وقرينة ذلك قوله {تذهل كل مرضعة} الخ.
والذهول: نسيان ما من شأنه أن لا يُنسى لوجود مقتضى تذكره؛ إما لأنه حاضر أو لأن علمه جديد وإنما ينسى لشاغل عظيم عنه، فذكر لفظ الذهول هنا دون النسيان لأنه أدل على شدّة التشاغل. قاله شيخنا الجدّ الوزير قال: وشفقة الأم على الابن أشد من شفقة الأب، فشفقتها على الرضيع أشد من شفقتها على غيره. وكلّ ذلك يدل بدلالة الأوْلى على ذهول غيرها من النساء والرجال. وقد حصل من هذه الكناية دلالة على جميع لوازم شدّة الهول وليس يلزم في الكناية أن يصرح بجميع اللوازم لأن دلالة الكناية عقليّة وليست لفظية.
والتحقت هاء التأنيث بوصف {مرضعة} للدلالة على تقريب الوصف من معنى الفعل، فإن الفعل الذي لا يوصف بحدثه غير المرأة تَلحقه علامة التأنيث ليفاد بهذا التقريب أنها في حالة التلبّس بالإرضاع، كما يقال: هي ترضع.. ولولا هذه النكتة لكان مقتضى الظاهر أن يقال: كلّ مرضع، لأن هذا الوصف من خصائص الأنثى فلا يحتاج معه إلى الهاء التي أصل وضعها للفرق بين المؤنث والمذكر خيفة اللبس...
والمراد: أن ذلك يحصل لكلّ مرضعة موجودة في آخر أيام الدنيا. فالمعنى الحقيقي مراد، فلم يقتض أن يكون الإرضاع واقعاً، فأطلق ذهول المرضع وذات الحمل وأريد ذهول كل ذي علق نفيس عن عِلقه على طريقة الكناية.
وزيادة كلمة (كلّ) للدلالة على أن هذا الذهول يعتري كل مرضع وليس هو لبعض المراضع باحتمال ضعف في ذاكرتها. ثمّ تقتضي هذه الكناية كناية عن تعميم هذا الهول لكل الناس لأن خصوصية هذا المعنى بهذا المقام أنه أظهر في تصوير حالة الفزع والهلع بحيث يذهل فيه من هو في حال شدّة التيقظ لوفرة دواعي اليقظة.
وذلك أن المرأة لشدّة شفقتها كثيرة الاستحضار لما تشفق عليه، وأن المرضع أشد النساء شفقة على رضيعها، وأنها في حال ملابسة الإرضاع أبعد شيء عن الذهول فإذا ذهلت عن رضيعها في هذه الأحوال دلّ ذلك على أن الهول العارض لها هول خارق للعادة. وهذا من بديع الكناية عن شدة ذلك الهول لأن استلزام ذهول المرضع عن رضيعها لشدّة الهول يستلزم شدّة الهول لغيرها بطريق الأوْلى، فهو لزوم بدرجة ثانية، وهذا النوع من الكناية يسمى الإيماء.
و (مَا) في {عما أرضعت} موصولة ما صْدقُها الطفل الرضيع. والعائد محذوف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل، وحذفُ مثله كثير.
والإتيان بالموصول وصلته في تعريف المذهول عنه دون أن يقول عن ابنها للدلالة على أنها تذهل عن شيء هو نصب عينها وهي في عمل متعلّق به وهو الإرضاع زيادة في التكني عن شدة الهول.
وقوله {وتضع كل ذات حمل حملها} هو كناية أيضاً كقوله {تذهل كل مرضعة عما أرضعت}. ووضع الحمل لا يكون إلا لشدة اضطراب نفس الحامل من فرط الفزع والخوف لأنّ الحمل في قرار مكين.
والحمل: مصدر بمعنى المفعول، بقرينة تعلقه بفعل {تضعُ} أي تضع جنينها.
والتعبير ب {ذات حمل} دون التعبير: بحامل، لأنه الجاري في الاستعمال في الأكثر. فلا يقال: امرأة حامل، بل يقال: ذات حمل قال تعالى: {وأُولاتُ الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4]، مع ما في هذه الإضافة من التنبيه على شدة اتصال الحمل بالحامل فيدل على أن وضعها إياه لسبب مفظع.
والقول في حمله على الحقيقة أو على معنى الكناية كالقول في {تذهل كل مرضعة عما أرضعت}.
والخطاب في {ترى الناس} لغير معيّن، وهو كل من تتأتى منه الرؤية من الناس، فهو مساو في المعنى للخطاب الذي في قوله {يوم ترونها}، وإنما أوثر الإفرادُ هنا للتفنن كراهية إعادة الجمع. وعدل عن فعل المضي إلى المضارع في قوله {وترى} لاستحضار الحالة والتعجيب منها كقوله {فتثير سحاباً} [الروم: 48] وقوله {ويصنع الفلك} [هود: 38].
وقرأ الجمهور {سُكارى} بضم السين المهملة وبألف بعد الكاف. ووصف الناس بذلك على طريقة التشبيه البليغ. وقوله بعده {وما هم بسكارى} قرينة على قصد التشبيه وليبني عليه قوله بعده {ولكن عذاب الله شديد}... وسُكارى وسَكرى جمع سكران، وهو الذي اختل شعور عقله من أثر شرب الخمر، وقياس جمعه سكارى...
و {عذاب الله} صادق بعذابه في الدنيا وهو عذاب الفزع والوجَع، وعذاب الرعب في الآخرة بالإحساس بلفح النار وزبْن ملائكة العذاب...
الذهول: هو انصراف جارحة عن مهمتها الحقيقية لهول رأته فتنشغل بما رأته عن تأدية وظيفتها فالذهول- إذن- سلوك لا إرادي قد يكون ذهولا عن شيء تفرضه العاطفة، أو عن شيء تفرضه الغريزة. العاطفة كالأم التي تذهل عن ولدها، وعاطفة الأمومة تتناسب مع حاجة الولد، ففي مرحلة الحمل مثلا تجد الأم تحتاط في مشيتها، وفي حركاتها، خوفا على الجنين في بطنها، وهذه العاطفة من الله جعلها في قلب الأم للحفاظ على الوليد، وإلا تعرض لما يؤذيه أو يودي بحياته. فانظر إلى المرضعة، وكيف تذهل عن رضيعها وتنصرف عنه، وأي هول هذا الذي يشغلها، ويعطل عندها عاطفة الأمومة والحنان ويعطل حتى الغريزة. وقوله تعالى: {وتضع كل ذات حمل حملها} بعد أن تكلم عن المرضع رقى المسألة إلى الحامل، ومعلوم أن الاستمساك بالحمل غريزة قوية لدى الأم حتى في تكوينها الجسماني، فالرحم بمجرد أن تصل إليه البويضة المخصبة ينغلق عليها، كما قال سبحانه وتعالى: {ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى} [الحج 5]: فإذا ما جاء وقت الميلاد انفتح له بقدرة الله، فهذه- إذن- مسألة غريزية فوق قدرة الأم ودون إرادتها. إذن: وضع هذا الحمل دليل هول كبير وأمر عظيم يحدث... وقوله تعالى: {ولكن عذاب الله شديد} إنهم لم يروا العذاب بعد، إنها مجرد قيام الساعة وأهوالها أفقدتهم توازنهم، لأن الذي يصدق في أن القيامة تقوم بهذه الصورة يصدق في أن بعدها عذابا في جهنم...