قوله تعالى : { ولو شئنا لرفعناه بها } ، أي : رفعنا درجته ومنزلته بتلك الآيات ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لرفعناه بعلمه بها . وقال مجاهد وعطاء : لرفعنا عنه الكفر ، وعصمناه بالآيات .
قوله تعالى : { ولكنه أخلد إلى الأرض } ، أي : سكن إلى الدنيا ومال إليها . قال الزجاج : خلد وأخلد واحد . وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام ، يقال : أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ، والأرض هاهنا عبارة عن الدنيا ، لأن ما فيها من القفار والرباع كلها أرض ، وسائر متاعها مستخرج من الأرض .
قوله تعالى : { واتبع هواه } ، انقاد لما دعاه إليه الهوى ، قال ابن زيد : كان هواه مع القوم ، قال عطاء : أراد الدنيا ، وأطاع شيطانه ، وهذه أشد آية على العلماء ، وذلك أن الله أخبر أنه آتاه آياته من اسمه الأعظم والدعوات المستجابة ، والعلم ، والحكمة ، فاستوجب بالسكون إلى الدنيا ، واتباع الهوى ، تغيير النعمة عليه والانسلاخ عنها ، ومن الذي يسلم من هاتين الخلتين إلا من عصمه الله ؟
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنا عبد الله بن محمود ، أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنا عبد الله بن المبارك ، عن زكريا بن أبي زائدة ، عن محمد بن عبد الرحمن ابن سعيد بن زرارة ، عن كعب بن مالك الأنصاري ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ) .
قوله تعالى : { فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } ، يقال : لهث الكلب يلهث لهثاً : إذا أدلع لسانه . قال مجاهد : هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به ، والمعنى : أن هذا الكافر إن زجرته لم ينزجر ، وإن تركته لم يهتد ، فالحالتان عنده سواء ، كحالتي الكلب ، إن طرد وحمل عليه بالطرد كان لاهثاً ، وإن ترك وربض كان لاهثاً ، قال القتبي : كل شيء يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب ، فإنه يلهث في حال الكلال وفي حال الراحة ، وفي حال العطش ، فضربه الله مثلاً لمن كذب بآياته فقال : إن وعظته فهو ضال ، كالكلب إن طردته لهث ، وإن تركته على حاله لهث ، نظيره قوله تعالى : { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } [ الأعراف : 193 ] ، ثم عم بهذا التمثيل جميع من يكذب بآيات الله .
قوله تعالى : { ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } ، وقيل : هذا مثل لكفار مكة ، وذلك أنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم ، ويدعوهم إلى طاعة الله ، فلما جاءهم نبي لا يشكون في صدقه كذبوه ، فلم يهتدوا تركوا أو دعوا .
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا بأن نوفقه للعمل بها ، فيرتفع في الدنيا والآخرة ، فيتحصن من أعدائه . وَلَكِنَّهُ فعل ما يقتضي الخذلان ، فَأَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ ، أي : إلى الشهوات السفلية ، والمقاصد الدنيوية . وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وترك طاعة مولاه ، فَمَثَلُهُ في شدة حرصه على الدنيا وانقطاع قلبه إليها ، كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أي : لا يزال لاهثا في كل حال ، وهذا لا يزال حريصا ، حرصا قاطعا قلبه ، لا يسد فاقته شيء من الدنيا .
ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا بعد أن ساقها اللّه إليهم ، فلم ينقادوا لها ، بل كذبوا بها وردوها ، لهوانهم على اللّه ، واتباعهم لأهوائهم ، بغير هدى من اللّه .
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ في ضرب الأمثال ، وفي العبر والآيات ، فإذا تفكروا علموا ، وإذا علموا عملوا .
وقوله { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } كلام مستأنف مسوق لبيان ما ذكر من الانسلاخ وما يتبعه .
والضمير في قوله { لَرَفَعْنَاهُ } يعود إلى الشخص المعبر عنه بالاسم الموصول { الذي } والضمير في قوله { بِهَا } يعود إلى الآيات . ومفعول المشيئة محذوف .
أى : ولو شئنا رفعه بسبب تلك الآيات إلى درجات الكمال والعرفان لرفعنان لأننا لا يستعصى على قدرتنا شىء ، ولكننا لم نفعل ذلك لأن سنتنا جرت أن نرفع من عنده الاستعداد لذلك أما الذين استحبوا العمى على الهدى فنذرهم في ضلالهم يعمهون .
وقد بين القرآن هذا المعنى في قوله : { ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ } أخلد إلى الأرض : أى ركن إليها . وأصل الإخلاد اللزوم للمكان من الخلود .
أى : ولو شئنا لرفعنا هذا الإنسان إلى منازل الأبرار بسبب تلك الآيات ولكنه هو الذي ركن إلى الدنيا ، واطمأن بها ، واستحوذت بشهواتها على نفسه ، واختار لنفسه طريق التسفل المنافى للرفعة ، واتبع هواه في ذلك فلم ينتفع بشىء من الآيات التي آتيناه إياه .
أى : أن مقتضى هذه الآيات أن ترفع صاحبها إلى أعلى عليين ، ولكن هذا المقتضى عارضه مانع وهو إخلاد من أتى هذه الآيات إلى الأرض واتباعه للهوى ، فتغلب المانع على المقتضى ، فهو كما قال القائل :
قالوا فلان عالم فاضل . . . فأكرموه مثلما يقتضى
فقلت : لما لم يكن عاملا . . . تعارض المانع والمقتضى
قال الآلوسى : وما ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه - تعالى - ونسبة الانسلاخ والإخلاد إلى العبد ، مع أن الكل من الله - تعالى - ، أذ فيه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه . ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم " اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك " .
وقوله { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } .
اللهث : إدلاع اللسان بالنفس الشديد . يقال : لهث الكلب يلهث - كسمع ومنع - لهثا ولهاثا ، إذا أخرج لسانه في التنفس .
والمعنى : فمثل هذا الإنسان الذي آتيناه فانسلخ منها وأصبح إيتاء الآيات وعدمها بالنسبة له سواء ، مثله كمثل الكلب إن شددت عليه وأتبعته لهث ، وإن تركته على حاله لهث - أيضا - ، فهو دائم اللهث في الحالين . لأن اللهث طبيعة فيه ، وكذلك حال الحريص على الدنيا ، المعرض عن الآيات بعد إيتائها ، إن وعظته فهو لإيثاره الدنيا على الآخرة لا يقبل الوعظ ، وإن تركت وعجه فهو حريص - أيضا - على الدنيا وشهواتها .
والإشارة في قوله { ذَّلِكَ مَثَلُ القوم } إلى وصف الكلب أو إلى المنسلخ من الآيات ، أى : ذلك المثل البعيد الشأن في الغرابة مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا من الجاحدين المستكبرين المنسلخين عن الهدى بعد أن كان في حوزتهم .
وقوله { اقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أى : إذا ثبت ذلك ، فاقصص على قومك أيها الرسول الكريم المقصوص عليك من جهتنا لعلهم يتفكرون فينزجرون عما هم عليه من الكفر والضلال .
والفاء في قوله { اقصص } لترتيب ما بعدها على ما قبلها . والقصص مصدر بمعنى اسم المفعول ، واللام فيه للعهد ، وجملة الترجى في محل نصب على أنها حال من ضمير المخاطب أو في موضع المفعول له . أى فاقصص القصص راجيا لتفكرهم ، أو رجاءً لتفكرهم .
ثم إذا نحن أولاء أمام مشهد مفزع بائس نكد . . إذا نحن بهذا المخلوق ، لاصقا بالأرض ، ملوثا بالطين . ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب ، يلهث إن طورد ويلهث إن لم يطارد . . كل هذه المشاهد المتحركة تتتابع وتتوالى ؛ والخيال شاخص يتبعها في انفعال وانبهار وتأثر . . فإذا انتهى إلى المشهد الأخير منها . . مشهد اللهاث الذي لا ينقطع . سمع التعليق المرهوب الموحي ، على المشهد كله :
( ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون . ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون ) . .
ذلك مثلهم ! فلقد كانت آيات الهدى وموحيات الإيمان متلبسة بفطرتهم وكيانهم وبالوجود كله من حولهم . ثم إذا هم ينسلخون منها انسلاخاً . ثم إذا هم أمساخ شائهو الكيان ، هابطون عن مكان " الإنسان " إلى مكان الحيوان . . مكان الكلب الذي يتمرغ في الطين . . وكان لهم من الإيمان جناح يرفون به إلى عليين ؛ وكانوا من فطرتهم الأولى في أحسن تقويم ، فإذا هم ينحطون منها إلى أسفل سافلين !
وقوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } يقول تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } أي : لرفعناه من التدنس عن{[12393]} قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها ، { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ } أي : مال إلى زينة الدنيا وزهرتها ، وأقبل على لذاتها ونعيمها ، وغرّته كما غرت غيره من غير أولي البصائر{[12394]} والنهى .
وقال أبو الزاهرية في قوله تعالى : { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ } قال : تراءى له الشيطان على غَلْوة من قنطرة بانياس ، فسجدت الحمارة لله ، وسجد بلعام للشيطان . وكذا قال عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نُفَير ، وغير واحد .
وقوله تعالى : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ } اختلف المفسرون في معناه{[12395]} فأما على سياق ابن إسحاق ، عن سالم بن أبي النضر : أن بلعاما اندلع لسانه على صدره - فتشبيهه بالكلب في لهثه{[12396]} في كلتا حالتيه إن زجر وإن ترك . وقيل : معناه : فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه ، وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الإيمان وعدم الدعاء ، كالكلب في لهثه{[12397]} في حالتيه ، إن حملت عليه وإن تركته ، هو يلهث في الحالين ، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه ؛ كما قال تعالى : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] ، { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] ونحو ذلك .
وقيل : معناه : أن قلب الكافر والمنافق والضال ، ضعيف فارغ من الهدى ، فهو كثير الوجيب{[12398]} فعبر عن هذا بهذا ، نقل نحوه عن الحسن البصري وغيره .
وقوله تعالى : { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ } أي : لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعام ، وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته ، بسبب أنه استعمل نعمة الله عليه - في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب - في غير طاعة ربه ، بل دعا به على حزب الرحمن ، وشعب الإيمان ، أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان ، كليم الله موسى بن عمران ، [ عليه السلام ]{[12399]} ؛ ولهذا قال : { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أي : فيحذروا أن يكونوا مثله ؛ فإن الله قد أعطاهم علمًا ، وميزهم على من عداهم من الأعراب ، وجعل بأيديهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم يعرفونها كما يعرفون أبناءهم ، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته ومؤازرته ، كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به ؛ ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد ، أحل الله به ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلََكِنّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : ولو شئنا لرفعنا هذا الذي آتيناه آياتنا بآياتنا التي آتيناه ، ولَكِنّهُ أخْلَدَ إلى الأَرْضِ يقول : سكن إلى الحياة الدنيا في الأرض ومال إليها ، وآثر لذتها وشهواتها على الاَخرة ، واتبع هواه ، ورفض طاعة الله وخالف أمره .
وكانت قصة هذا الذي وصف الله خبره في هذه الاَية ، على اختلاف من أهل العلم في خبره وأمره ، ما :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، أنه سئل عن الاَية : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها فحدّث عن سيار أنه كان رجلاً يقال له بَلْعام ، وكان قد أوتي النبوّة ، وكان مجاب الدعوة . قال : وإن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام أو قال الشام قال : فرعب الناس منه رعبا شديدا ، قال : فأتوا بَلْعاما ، فقالوا ادع الله على هذا الرجل وجيشه قال : حتى أؤامر ربي أو حتى أؤامر قال : فآمر في الدعاء عليهم ، فقيل له : لا تدع عليهم فإنهم عبادي وفيهم نبيهم قال : فقال لقومه : إني آمرت ربي في الدعاء عليهم ، وإني قد نُهيت . قال : فأهدوا إليه هدية فَقبِلها . ثم راجعوه فقالوا : ادع عليهم فقال : حتى أؤامر ربي . فآمر فلم يأمره بشيء . قال : فقال : قد وامرت فلم يأمرني بشيء ، فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرّة الأولى . قال : فأخذ يدعو عليهم ، فإذا دعا عليهم جرى على لسانه الدعاء على قومه وإذا أراد أن يدعو أن يُفْتَح لقومه ، دعا أن يُفْتَح لموسى عليه السلام وجيشه أو نحوا من ذلك إن شاء الله . قال : فقالوا ما نراك تدعو إلاّ علينا . قال : ما يجري على لساني إلاّ هكذا ، ولو دعوتُ عليه ما استجيب لي ، ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم إن الله يبغض الزنا ، وإنهم إن وقعوا بالزنا هلكوا ، ورجوت أن يهلكهم الله ، فأخرِجوا النساء لتستقبلهم وإنهم قوم مسافرون ، فعسى أن يزنوا فيهلكوا . قال : ففعلوا وأخرجوا النساء تستقبلهم . قال : وكان للملك ابنة ، فذكر من عظمها ما الله أعلم به ، قال : فقال أبوها أو بَلْعام : لا تمكني نفسك إلاّ من موسى قال : ووقعوا في الزنا . قال : وأتاها رأس سبط من أسباط بني إسرائيل ، فأرادها على نفسه ، قال : فقالت : ما أنا بممكنة نفسي إلاّ من موسى ، قال : فقال : إن من منزلتي كذا وكذا ، وإن من حالى كذا وكذا . قال : فأرسلت إلى أبيها تستأمره ، قال : فقال لها : مَكّنِيهِ قال : ويأتيهما رجل من بني هارون ومعه الرمح فيطعنهما ، قال : وأيّده الله بقوّة فانتظمهما جميعا ، ورفعهما على رمحه . قال : فرآهما الناس ، أو كما حدّث . قال : وسلط الله عليهم الطاعون ، قال : فمات منهم سبعون ألفا . قال : فقال أبو المعتمر : فحدثني سيار أن بلعاما ركب حمارة له ، حتى إذا أتى المُعْلَوْلي أو قال : طريقا من المعلولي جعل يضربها ولا تتقدّم . قال : وقامت عليه ، فقالت : علام تضربني ؟ أما ترى هذا الذي بين يديك ؟ قال : فإذا الشيطان بين يديه ، قال : فنزل فسجد له . قال الله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها فَأتْبَعَهُ الشّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغاوِينَ . . . إلى قوله : لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ . قال : فحدثني بهذا سيّار ، ولا أدري لعله قد دخل فيه شيء من حديث غيره .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : فبلغني حديث رجل من أهل الكتاب يحدّث أن موسى سأل الله أن يطبعه وأن يجعله من أهل النار . قال : ففعل الله . قال : أنبئت أن موسى قتله بعد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن سالم أبي النضر ، أنه حدث : أن موسى لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قومُ بَلْعم إلى بَلْعم ، فقالوا له : يا بلعم إن هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل ، قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويُحِلها بني إسرائيل ويسكنها ، وإنا قومك ، وليس لنا منزل ، وأنت رجل مجاب الدعوة ، فاخرج وادع الله عليهم فقال : ويلكم نبيّ الله معه الملائكة والمؤمنون ، كيف أذهب أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم ؟ قالوا : ما لنا من منزل . فلم يزالوا به يرفعونه ويتضرّعون إليه حتى فتنوه فافتتن . فركب حمارة له متوجها إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل ، وهو جبل حسان فلما سار عليها غير كثير ربضت به ، فنزل عنها ، فضربها ، حتى إذا أذلقها قامت فركبها فلم تَسر به كثيرا حتى ربضت به . ففعل بها مثل ذلك ، فقامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت به . فضربها حتى إذا أذلقها أذن الله لها ، فكلمته حجة عليه ، فقالت : ويحك يا بلعم أين تذهب ؟ أما ترى الملائكة تردني عن وجهي هذا ؟ أتذهب إلى نبيّ الله والمؤمنين تدعو عليهم فلم ينزع عنها فضربها فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك . قال : فانطلقت به حتى إذا أشرفت على رأس جبل حسان على عسكر موسى وبني إسرائيل جعل يدعو عليهم ولا يدعو عليهم بشرّ إلاّ صرف به لسانه إلى قومه ، ولا يدعو لقومه بخير إلاّ صرف لسانه إلى بني إسرائيل . قال : فقال له قومه : أتدري يا بلعم ما تصنع ؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا قال : فهذا ما لا أملك ، هذا شيء قد غلب الله عليه . قال : واندلع لسانه فوقع على صدره ، فقال لهم : قد ذهبت مني الاَن الدنيا والاَخرة ، فلم يبق إلاّ المكر والحيلة ، فسأمكر لكم وأحتال ، حمّلوا النساء وأعطوهنّ السّلَع ، ثم أرسلوهنّ إلى العسكر يبعنها فيه ، ومروهنّ فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها ، فإنهم إن زني منهم واحد كُفيتموهم ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرّت امرأة من الكنعانيين اسمها كستى ابنة صور رأس أمته برجل من عظماء بني إسرائيل ، وهو زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ، ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى عليه السلام فقال : إني أظنك ستقول هذه حرام عليك ؟ فقال : أجَلْ هي حرام عليك لا تقرَبْها قال : فوالله لا أطيعك في هذا ، فدخل بها قبته فوقع عليها . وأرسل الله الطاعون في بني إسرائيل ، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى ، وكان رجلاً قد أُعْطِي بسطة في الخلق وقوّة في البطش ، وكان غائبا حين صنع زمري بن شلوم ما صنع . فجاء والطاعون يجوس في بني إسرائيل ، فأخبر الخبر ، فأخذ حربته ، وكانت من حديد كلها ، ثم دخل عليه القبة وهما متضاجعان ، فانتظمهما بحربته ، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء ، والحربة قد أخذها بذراعه ، واعتمد بمرفقه على خاصرته ، وأسند الحربة إلى لَحييه ، وكان بكر العيزار ، وجعل يقول : اللهمّ هكذا نفعل بمن يعصيك ورُفع الطاعون ، فحُسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون ، فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص ، فوُجدوا قد هلك منهم سبعون ألفا ، والمقلل يقول : عشرون ألفا في ساعة من النهار . فمن هنالك يعطى بنو إسرائيل ولد فنحاص بن العيزار بن هارون من كلّ ذبيحة ذبحوها الفشة والذراع واللّحْي ، لاعتماده بالحربة على خاصرته وأخذه إياها بذراعه وإسناده إياها إلى لحييه ، والبكر من كلّ أموالهم وأنفسهم ، لأنه كان بكر العيزار . ففي بلعم بن باعورا أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها يعني بلعم ، فأتْبَعَهُ الشّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغاوِينَ . . . إلى قوله : لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : انطلق رجل من بني إسرائيل يقال له بَلْعم ، فأتى الجبارين فقال : لا ترهبوا من بني إسرائيل ، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم فخرج يوشع يقاتل الجبارين في الناس . وخرج بلعم مع الجبارين على أتانه وهو يريد أن يلعن بني إسرائيل ، فكلما أراد أن يدعو على بني إسرائيل دعا على الجبارين ، فقال الجبارون : إنك إنما تدعو علينا فيقول : إنما أردت بني إسرائيل . فلما بلغ باب المدينة أخذ ملك بذنب الأتان ، فأمسكها فجعل يحرّكها فلا تتحرّك ، فلما أكثر ضربها تكلمت فقالت : أنت تنكحني بالليل وتركبني بالنهار ؟ ويلي منك ولو أني أطقت الخرج لخرجت ، ولكن هذا الملك يحبسني . وفي بَلْعم يقول الله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا . . . الاَية .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : ثني رجل سمع عكرمة ، يقول : قالت امرأة منهم : أروني موسى ، فأنا أفتنه قال : فتطيبتْ ، فمرّت على رجل يشبه موسى ، فواقعها ، فأتى ابن هارون فأُخبر ، فأخذ سيفا ، فطعن به في إحليله حتى أخرجه من قبلها ، ثم رفعهما حتى رآهما الناس ، فعلم أنه ليس موسى ، ففُضّل آل هارون في القربان على آل موسى بالكَتِف والعَضُد والفخذ ، قال : فهو الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، يعني بلعم .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بها فقال بعضهم : معناه : لرفعناه بعلمه بها . ذكر من قال ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بها لرفعه الله تعالى بعلمه .
وقال آخرون : معناه لرفعنا عنه الحال التي صار إليها من الكفر بالله بآياتنا . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نُجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بها : لرفعنا عنه بها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بها : لرفعناه عنه .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عمّ الخبر بقوله : وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بها أنه لو شاء رفعه بآياته التي آتاه إياها . والرفع يعمّ معاني كثيرة ، منها الرفع في المنزلة عنده ، ومنها الرفع في شرف الدنيا ومكارمها . ومنها الرفع في الذكر الجميل والثناء الرفيع . وجائز أن يكون الله عنى كلّ ذلك أنه لو شاء لرفعه ، فأعطاه كلّ ذلك بتوفيقه للعمل بآياته التي كان آتاها إياه .
وإذ كان ذلك جائزا ، فالصواب من القول فيه أن لا يُخَصّ منه شيء ، إذ كان لا دلالة على خصوصه من خبر ولا عقل .
وأما قوله : بِها فإن ابن زيد قال في ذلك كالذي قلنا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بها بتلك الاَيات .
وأما قوله : وَلَكِنّهُ أخْلَدَ إلى الأرْض فإن أهل التأويل قالوا فيه نحو قولنا فيه . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير : وَلَكنّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ يعني : ركن إلى الأرض .
قال : ثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : وَلَكِنّهُ أخْلَدَ إلى الأرْض قال : نزع إلى الأرض .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أخلد : سكن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تُمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان في بني إسرائيل بلعام بن باعر أوتي كتابا ، فأخلد إلى شهوات الأرض ولذتها وأموالها ، لم ينتفع بما جاء به الكتاب .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلَكِنّهُ أخْلَدَ إلى الأرْض وَاتّبَع هَوَاهُ أما أخلد إلى الأرض : فاتبع الدنيا ، وركن إليها .
وأصل الإخلاد في كلام العرب : الإبطاء والإقامة ، يقال منه : أخلد فلان بالمكان إذا أقام به وأخلد نفسه إلى المكان إذا أتاه من مكان آخر ، ومنه قول زهير :
لَمن الدّيارُ غَشِيتُها بالغَرْقَد ***كالوَحْي في حَجَر المَسِيل المُخْلِدِ
يعني المقيم ، ومنه قول مالك بن نُوَيْرة :
بأبْناءِ حَيَ مِنْ قَبائِلِ مالِكٍ ***وَعمْرِو بن يَرْبُوعٍ أقامُوا فأخْلَدوا
وكان بعض البصريين يقول : معنى قوله : أخلد : لزم وتقاعس وأبطأ ، والمخلد أيضا : هو الذي يبطىء شيبه من الرجال ، وهو من الدوابّ الذي تبقى ثناياه حتى تخرج رباعيتاه .
وأما قوله وَاتّبَعَ هَوَاهُ فإن ابن زيد قال في تأويله ما :
حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَاتّبَعَ هَوَاهُ قال : كان هواه مع القوم .
القول في تأويل قوله تعالى : فَمَثَلُهُ كمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَترُكْهُ يَلْهَثْ .
يقول تعالى ذكره : فمثل هذا الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، مثل الكلب الذي يلهث ، طردته أو تركته .
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله جعل الله مثله كمثل الكلب فقال بعضهم : مثّله به في اللهث لتركه العمل بكتاب الله وآياته التي آتاها إياه وإعراضه عن مواعظ الله التي فيها إعراض من لم يؤته الله شيئا من ذلك ، فقال جلّ ثناؤه فيه : إذا كان سواء أمره وعظ بآيات الله التي آتاها إياه ، أو لم يوعظ في أنه لا يتعظ بها ، ولا يترك الكفر به ، فمثله مثل الكلب الذي سواء أمره في لهثه ، طرد أو لم يطرد ، إذ كان لا يترك اللهث بحال . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ قال : تطرده ، هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : فَمَثَلُهُ كمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ قال : تطرده بدابتك ورجلك يلهث ، قال : مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل بما فيه .
قال ابن جريج : الكلب منقطع الفؤاد ، لا فؤاد له ، إن حملت عليه يلهث ، أو تتركه يلهث . قال : مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له ، إنما فؤاده منقطع .
حدثني ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن توبة ، عن معمر ، عن بعضهم : فَمَثَلُهُ كمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ فذلك هو الكافر ، هو ضالّ إن وعظته وإن لم تعظه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَمَثَلُهُ كمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ الحكمة لم يحملها ، وإن ترك لم يهتد لخير ، كالكلب إن كان رابضا لهث وإن طُرد لهث .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : آتاه الله آياته فتركها ، فجعل الله مثله كمثل الكلب ، إن تحمل عليه يلهث ، أو تتركه يلهث .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قِتادة : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأَ الّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنْها فأتْبَعَهُ الشّيْطانُ . . . الاَية ، هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى ، فأبى أن يقبله وتركه . قال : وكان الحسن يقول : هو المنافق . وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلَكِنّهُ أخْلَدَ إلى الأرْض وَاتّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كمَثَل الكَلْب إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ قال : هذا مثل الكافر ميت الفؤاد .
وقال آخرون : إنما مثّله جلّ ثناؤه بالكلب لأنه كان يلهث كما يلهث الكلب . ذكر من قال ذلك .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَمَثَلُهُ كمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ وكان بلعم يلهث كما يلهث الكلب . وأما تحمل عليه : فتشدّ عليه .
قال : أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من قال : إنما هو مثل لتركه العمل بآيات الله التي آتاها إياه ، وأن معناه : سواء وعظ أو لم يوعظ في أنه لا يترك ما هو عليه من خلافه أمر ربه ، كما سواء حمل على الكلب وطرد أو ترك فلم يطرد في أنه لا يدع اللهث في كلتا حالتيه .
وإنما قلنا ذلك أولى القولين بالصواب لدلالة قوله تعالى ذلك : مَثَلُ القَوم الّذينَ كَذّبُوا بآياتِنا فجعل ذلك مثل المكذّبين بآياته . وقد علمنا أن اللهاث ليس في خلقة كلّ مكذّب كتب عليه ترك الإنابة من تكذيب بآيات الله ، وأن ذلك إنما هو مثل ضربه الله لهم ، فكان معلوما بذلك أنه للذي وصف الله صفته في هذه الاَية ، كما هو لسائر المكذّبين بآيات الله مَثَل .
القول في تأويل قوله تعالى : ذلكَ مَثَلُ القَوْم الّذينَ كَذّبُوا بآياتِنا فاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ .
يقول تعالى ذكره : هذا المثل الذي ضربته لهذا الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، مثل القوم الذين كذّبوا بحججنا وأعلامنا وأدلتنا ، فسلكوا في ذلك سبيل هذا المنسلخ من آياتنا الذي آتيناها إياه في تركه العمل بما آتيناه من ذلك .
وأما قوله : فاقْصُصِ القَصَصَ فإنه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فاقصص يا محمد هذا القصص الذي قصصته عليك من نبإ الذي آتيناه آياتنا ، وأخبار الأمم التي أخبرتك أخبارهم في هذه السورة وقصصت عليك نبأهم ونبأ أشباههم ، وما حلّ بهم من عقوبتنا ونزل بهم ، حين كذّبوا رسلنا من نقمتنا على قومك من قريش ومَنْ قِبَلَك من يهود بني إسرائيل ، ليتفكروا في ذلك فيعتبروا وينيبوا إلى طاعتنا ، لئلا يحل بهم مثل الذي حلّ بمن قبلهم من النقم والمثلات ، ويتدبره اليهود من بني إسرائيل فيعلموا حقيقة أمرك وصحة نبوّتك ، إذ كان نبأ الذي آتيناه آياتنا من خفيّ علومهم ومكنون أخبارهم لا يعلمه إلاّ أحبارهم ومن قرأ الكتب ودرسها منهم ، وفي علمك بذلك وأنت أمي لا تكتب ولا تقرأ ولا تدرس الكتب ولم تجالس أهل العلم الحجةُ البينة لك عليهم بأنك لله رسول ، وأنك لم تعلم ما علمت من ذلك ، وحالك الحال التي أنت بها إلاّ بوحي من السماء .
وبنحو ذلك كان أبو النضر يقول .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد ، عن سالم أبي النضر : فاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ يعني : بني إسرائيل ، إذ قد جئتهم بخبر ما كان فيهم مما يخفون عليك ، لعلهم يتفكرون ، فيعرفون أنه لم يأت بهذا الخبر عما مضى فيهم إلاّ نبيّ يأتيه خبر السماء .
{ ولو شئنا لرفعناه } إلى منازل الأبرار من العلماء . { بها } بسبب تلك الآيات وملازمتها . { ولكنه أخلد إلى الأرض } مال إلى الدنيا أو إلى السفالة . { واتبع هواه } في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات ، وإنما علق رفعه بمشيئة الله تعالى ثم استدرك عنه بفعل العبد ، تنبيها على أن المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه وأن عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه ، وأن السبب الحقيقي هو المشيئة وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة في حصول المسبب من حيث أن المشيئة تعلقت به كذلك ، وكان من حقه أن يقول ولكنه أعرض عنها فأوقع موقعه { أخلد إلى الأرض واتبع هواه } ، مبالغة وتنبيها على ما حمله عليه وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة . { فمثله } فصفته التي هي مثل في الخسة . { كمثل الكلب } كصفته في أخس أحواله وهو { إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } أي يلهث دائما سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك ولم يتعرض له ، بخلاف سائر الحيوانات لضعف فؤاده . واللهث إدلاع اللسان من التنفس الشديد والشرطية في موضع الحال والمعنى . لاهثا في الحالتين ، والتمثيل واقع موقع لازم التركيب الذي هو نفي الرفع ووضع المنزلة للمبالغة والبيان . وقيل لما دعا على موسى صلى الله عليه وسلم خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كالكلب . { ذلك مثل القوم الذين كذّبوا بآياتنا فاقصص القصص } القصة المذكورة على اليهود فإنها نحو قصصهم . { لعلهم يتفكرون } تفكرا يؤدي بهم إلى الاتعاظ .
قوله تعالى : { ولو شئنا لرَفَعْناه بها } أفاد أن تلك الآيات شأنها أن تكون سبباً للهداية والتزكية ، لو شاء الله له التوفيق وعصمه من كيد الشيطان وفتنته فلم ينسلخ عنها ، وهذه عبرة للموفقين ليعلموا فضل الله عليهم في توفيقهم ، فالمعنى : ولو شئنا لزاد في العمل بما آتيناه من الآيات فلرَفعه الله بعلمه .
والرفعة مستعارة لكمال النفس وزكائها ، لأن الصفات الحميدة تُخيل صاحبها مرتفعاً على من دونه ، أي لو شئنا لاكتسب بعمله بالآيات فضلاً وزكاء وتميزاً بالفضل ، فمعنى لرفعناه ليسرّنا له العمل بها الذي يشرُف به .
وقد وقع الاستدراك على مضمون قوله : { ولو شئنا لرفعناه بها } بذكر ما يناقض تلك المشيئة الممتنعة ، وهو الاستدراك بأنه انعكست حاله فأخلد إلى الأرض ، أي ركن ومال إلى الأرض ، والكلام تمثيل لحال المتلبس بالنقائص والكفر بعد الإيمان والتقوى ، بحال من كان مرتفعاً عن الأرض فنزل من اعتلاء إلى أسفل ، فبذكر الأرض عُلمَ أن الإخلاد هنا ركون إلى السفل أي تلبس بالنقائص والمفاسد .
واتباع الهوى ترجيح ما يحسن لدى النفس من النقائص المحبوبة ، على ما يدعو إليه الحق والرشد ، فالاتباع مستعار للاختيار والميل ، والهوى شاع في المحبة المذمومة الخاسرة عاقبتها .
وقد تفرع على هذه الحالة تمثيله بالكلب اللاهث ، لأن اتصافه بالحالة التي صيرته شبيهاً بحال الكلب اللاهث تفرع على إخلاده إلى الأرض واتباع هواه ، فالكلام في قوة أن يقال : ولكنه أخلد إلى الأرض فصار في شَقاء وعناد ، كمثل الكلب إلخ .
واستعمال القرآن لفظ المثل بعد كاف التشبيه مألوف بأنه يراد به تشبيه الحالة بالحالة ، وتقدم قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } في سورة البقرة ( 17 ) ، فلذلك تعين أن التشبيه هنا لا يخرج عن المتعارف في التشبيه المركب ، فهذا الضال تحمل كلفة اتباع الدين الصالح وصار يطلبه في حينَ كان غير مكلف بذلك في زمن الفترة فلقي من ذلك نصباً وعناء ، فلما حان حين اتباع الحق ببعثة محمد تحمل مشقة العناد والإعراض عنه في وقت كان جديراً فيه بأن يستريح من عنائه ؛ لحصول طلبته فكانت حالته شبيهة بحالة الكلب الموصوف باللّهث ، فهو يلهث في حالة وجود أسباب اللهث من الطرد والإرهاب والمشقة وهي حالة الحمل عليه ، وفي حالة الخلو عن ذلك السبب وهي حالة تركه في دعة ومسالمة ، والذي ينبه على هذا المعنى هو قوله { أو تَتْركه } .
وليس لشيء من الحيوان حالة تصلح للتشبيه بها في الحالتين غير حالة الكلب اللاهث ، لأنه يلهث إذا أتْعب وإذا كان في دعة ، فاللهث في أصل خلقته .
وهذا التمثيل من مبتكرات القرآن فإن اللهث حالة تؤذن بحرج الكلب من جراء عسر تنفسه عن اضطراب باطنه وإن لم يكن لاضطراب باطنه ، سبب آت من غيره فمعنى { إن تحمل عليه } إن تُطارده وتُهاجمه . مشتق من الحَمل الذي هو الهجوم على أحد لقتاله ، يقال حمل فلانٌ على القوم حملة شعواء أو حملة منكرة . وقد أغفل المفسرون توضيحه ، وأغفل الراغب في « مفردات القرآن » هذا المعنى لهذا الفعل .
فهذا تشبيهُ تمثيل مُركب منتزعةٌ فيه الحالة المشبهة والحالةُ المشبه بها من متعدد ، ولما ذُكر { تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } في شق الحالة المشبه بها ، تعين أن يكون لها مقابل في الحالة المشبهة ، وتتقابل أجزاءُ هذا التمثيل بأن يشبّه الضال بالكلب ، ويشبه شقاؤُه واضطرابُ أمره في مدة البحث عن الدين بلهث الكلب في حالة تركه في دعة ، تشبيهَ المعقول بالمحسوس ، ويشبّه شقاؤه في إعراضه عن الدين الحق عند مجيئه بلهث الكلب في حالة طرده وضربه تشبيه المعقول بالمحسوس . وقد أغفل هذا الذين فسروا هذه الآية فقرروا التمثيل بتشبيه حالة بسيطة بحالة بسيطة في مجرد التشويه أو الخسة . فيؤول إلى أن الغرض من تشبيهه بالكلب إظهار خسة المشبه ، كما درج عليه في « الكشاف » ، ولو كان هذا هو المراد لما كان لذكر { إنْ تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } كبير جدوى ، بل يقتصر على أنه لتشويه الحالة المشبه بها ، لتكتسب الحالةُ المشبهة تشويها ، وذلك تقصير في حق التمثيل .
والكلب حيوان من ذوات الأربع ذو أنياب وأظفار كثير النبح في الليل قليل النوم فيه كثير النوم في النهار ، يألف من يعاشره ويحرس مكانه من الطارقين الذين لا يألفهم ، ويحرس الأنعام التي يعاشرها ، ويعدو على الذئاب ، ويقبل التعليم ، لأنه ذكي .
ويلهث إذا أتعب أو اشتد عليه الحر ، ويلهث بدون ذلك ، لأن في خلقته ضيقاً في مجاري النفس يرتاح له باللهث .
وجملة : { إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } في موضع الحال من الكلب والخطاب في { تَحْمل } وتترك لمخاطب غير معيّن ، والمعنى إن يحمل عليه حامل ، أو يتركه تارك .
واللهث : سرعة التنفس مع امتداد اللسان لضيق النفس ، وفعله بفتح الهاء وبكسرها ، ومضارعه بفتحها لا غير ، والمصدر اللهث بفتح اللام والهاء ويقال اللهاث بضم اللام ، لأنه من الأدواء ، وليس بصوت .
جملة مبيّنة لجملة : { واتْلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } الآيتين ، والمثال الحال أي ذلك التمثيل مثل للمشركين المكذبين بالقرآن ، تشبيه بليغ ، لأن حالة الكلب المشتبه شبيهة بحال المكذبين وليست عينها .
والإشارة بذلك إلى { الذي آتيناه آياتنا } ، وهو صاحب القصة ، هو مَثل المشركين ، لأنهم شابهوه في أنهم أتوا القرآن فكذبوا به ، فكانت حالهم كحال ذلك المكذب ، والأظهر أن تكون الإشارة إلى المثَل في قوله : { كمثل الكلب } أي حالُ الكلب المذكورة كحال المشركين المكذبين في أنهم كانوا يودون معرفة دين إبراهيم ، ويتمنون مساواة أهل الكتاب في العلم والفضل ، فكانوا بذلك في عناء وحيرة في الجاهلية فلما جاءهم رسول منهم بكتاب مبين انتقلوا إلى عناء معاندته كقوله تعالى : { أو تقولوا لو أنا أنْزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } [ الأنعام : 157 ] وهذا تأويل ما روي عن عبادة بن الصامت أن آية { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } إلى آخرها نزلت في قريش .
وفُرع على ذلك الأمرُ بقوله : { فاقْصص القصصَ لعلهم يتفكرون } أي اقصص هذه القصة وغيرها ، وهذا تذييل للقصة الممثل بها يشملها وغيرها من القصص التي في القرآن ، فإن في القصص تفكراً وموعظة ، فيرجى منه تفكرهم وموعظتهم ، لأن للأمثال واستحضار النظائر شاناً عظيماً في اهتداء النفوس بها وتقريب الأحوال الخفية إلى النفوس الذاهلة أو المتغافلة ، لما في التنظير بالقصة المخصوصة من تذكر مشاهدة الحالة بالحواس ، بخلاف التذكير المجرد عن التنظير بالشيء المحسوس .