قوله تعالى : { ويسألونك عن اليتامى } . قال ابن عباس وقتادة : لما نزل قوله تعالى : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) وقوله تعالى ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً . ) تحرج المسلمون من أموال اليتامى تحرجاً شديداً حتى عزلوا أموال اليتامى عن أموالهم ، حتى كان يصنع لليتيم طعام فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية : قوله تعالى : { قل إصلاح لهم خير } . أي الإصلاح لأموالهم من غير أجرة ولا أخذ عوض ، خير لكم وأعظم أجراً ، لما لكم في ذلك من الثواب ، وخير لهم ، لما في ذلك من توفر أموالهم عليهم ، قال مجاهد : يوسع عليهم من طعام نفسه ، ولا يوسع من طعام اليتيم .
قوله تعالى : { وإن تخالطوهم } . هذه إباحة المخالطة ، أي وأن تشاركوهم في أموالهم وتخلطوها بأموالكم في نفقاتكم ومساكنكم وخدمكم ودوابكم ، فتصيبوا من أموالهم عوضاً من قيامكم بأمورهم أوتكافئوهم على ما تصيبون من أموالهم .
قوله تعالى : { فإخوانكم } . أي فهم إخوانكم ، والإخوان يعين بعضهم بعضاً ، ويصيب بعضهم من أموال بعض على وجه الإصلاح والرضا .
قوله تعالى : { والله يعلم المفسد } . لأموالهم .
قوله تعالى : { من المصلح } . لها يعني الذي يقصد بالمخالطة ، الخيانة وإفساد أموال اليتيم وأكله بغير حق من الذي يقصد الإصلاح .
قوله تعالى : { ولو شاء الله لأعنتكم } . أي لضيق عليكم وما أباح لكم مخالطتهم ، وقال ابن عباس : ولو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً لكم ، وأصل العنت الشدة والمشقة . ومعناه : كلفكم في كل شيء ما يشق عليكم .
قوله تعالى : { إن الله عزيز } . أي عزيز في سلطانه وقدرته على الإعنات وقيل : العزيز الذي يأمر بعزه . سهل على العباد أو شق عليهم .
ولما بيّن تعالى هذا البيان الشافي ، وأطلع العباد على أسرار شرعه قال : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ } أي : الدالات على الحق ، المحصلات للعلم النافع والفرقان ، { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } أي : لكي تستعملوا أفكاركم في أسرار شرعه ، وتعرفوا أن أوامره ، فيها مصالح الدنيا والآخرة ، وأيضا لكي تتفكروا في الدنيا وسرعة انقضائها ، فترفضوها وفي الآخرة وبقائها ، وأنها دار الجزاء فتعمروها .
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
لما نزل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } شق ذلك على المسلمين ، وعزلوا طعامهم عن طعام اليتامى ، خوفا على أنفسهم من تناولها ، ولو في هذه الحالة التي جرت العادة بالمشاركة فيها ، وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأخبرهم تعالى أن المقصود ، إصلاح أموال اليتامى ، بحفظها وصيانتها ، والاتجار فيها وأن خلطتهم إياهم في طعام أو غيره جائز على وجه لا يضر باليتامى ، لأنهم إخوانكم ، ومن شأن الأخ مخالطة أخيه ، والمرجع في ذلك إلى النية والعمل ، فمن علم الله من نيته أنه مصلح لليتيم ، وليس له طمع في ماله ، فلو دخل عليه شيء من غير قصد لم يكن عليه بأس ، ومن علم الله من نيته ، أن قصده بالمخالطة ، التوصل إلى أكلها وتناولها ، فذلك الذي حرج وأثم ، و " الوسائل لها أحكام المقاصد "
وفي هذه الآية ، دليل على جواز أنواع المخالطات ، في المآكل والمشارب ، والعقود وغيرها ، وهذه الرخصة ، لطف من الله [ تعالى ] وإحسان ، وتوسعة على المؤمنين ، وإلا ف { لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ } أي : شق عليكم بعدم الرخصة بذلك ، فحرجتم . وشق عليكم وأثمتم ، { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } أي : له القوة الكاملة ، والقهر لكل شيء ، ولكنه مع ذلك { حَكِيمٌ } لا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته الكاملة وعنايته التامة ، فعزته لا تنافي حكمته ، فلا يقال : إنه ما شاء فعل ، وافق الحكمة أو خالفها ، بل يقال : إن أفعاله وكذلك أحكامه ، تابعة لحكمته ، فلا يخلق شيئا عبثا ، بل لا بد له من حكمة ، عرفناها ، أم لم نعرفها وكذلك لم يشرع لعباده شيئا مجردا عن الحكمة ، فلا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة ، أو راجحة ، ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة ، لتمام حكمته ورحمته .
أما السؤال الثالث والأخير الذي ورد في هاتين الآيتين فهو قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } .
أخرج أبو داود والحاكم والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال : لما نزل قوله - تعالى - { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } وقوله - تعالى - : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه . وشرابه من شرابه ، قفجعل يفضل له الشيء من طعامه وشرابه ، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه سولم فأنزل الله - تعالى - { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } فخلطوا طعامهم وشرابهم بشرابهم .
والمعنى : ويسألونك يا محمد عن القيام بأمر اليتامى أو التصرف في أموالهم أو عن أموالهم وكيف يكونوا معهم فقل لهم : إن المطلوب هو إصلاحهم بالتهذيب والتربية الرشيدة والمعاملة الحسنة ، وإصلاح أموالهم بالمحافظة عليها وعدم إنفاقها إلا في الوجوه المشروعة فهذا الإِصلاح المفيد لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم ، وتركهم ، ولذا قال - تعالى - بعد ذلك : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } أي : وإن تعاشروهم وتضموهم إليكم فاعتبروهم إخوانكم في العقيدة الإِنسانية ، وعاملوهم بمقتضى ما تفرضه الأخوة من تراحم وتعاطف ومساواة .
والجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها . و " إصلاح " مبتدأ وسوغ الابتداء به مع أنه نركة وصفة بالجار والمجرور " لهم " و " خير " خبره ، وقوله : { فَإِخْوَانُكُمْ } الفاء واقعة في جواب الشرط ، وإخوانكم خبر لمبتدأ محذوف والتقدير فهم إخوانكم ، والجملة في محل جزم على أنها جواب الشرط .
وقوله : { والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } وعد ووعيد ، وترغيب في الإِصلاح وترهيب من الإِفساد ، أي : والله يعلم المفسد لشئون هؤلاء اليتامى من المصلح لها ، كما أنه - سبحانه - لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وسيجازي كل إنسان على حسب عمله ، فاحذورا الإِفساد ولا تتحروا غير الإِصلاح .
ثم قال - تعالى - { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } العنت : الشدة والمشقة والتضييق . يقال : أعنته في كذا يعنته إعناتا ، إّا أجهده وألزمنه ما يشقع عليه .
أي : ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم بتحريم مخالطة هؤلاء اليتامى ، وبغير ذلك ما يشرع لكم ، ولكنه - سبحانه - وسع عليكم وخفف فأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن ، فاشكروه على ذلك .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : إن الله - تعالى - غالب على أمره لا يعجزه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتكم قادر على أن يعز من أعز اليتامى ويذل من سذلهم ، حكيم في كل تصرفاته وأفعاله ، فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها .
وقدق استدل العلماء بهذه الآية على جواز التصرف في أموال اليتامى على وجه الإصلاح ، وعلى أن للوالي أن يخالط اليتيم بنفيسه في المصاهرة والمشاركة وغير ذلك مما تقتضيه المصلحة .
وقد وردت أحاديث متعددة في رعاية اليتيم وإصلاح أحواله ومن ذلك ما رواه البخاري عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وأشار بالسبابة والوسطى وفرق بينهما " .
وروى الطبراين عن أبي الدرداء . قال : " أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أتحب أن يلين وتدرك حاجتك ؟ ارحم اليتيم ، وامسح رأسه ، وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك " .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد اشتملتا على أفضل ألوان الإِصلاح للأفراد والجماعات في مطاعمهم ومشاربهم ونفقتهم وعلاقتهم بغيرهم ولا سيما اليتامى الذين فقدوا الأب الحاني ، والقلب الرحيم ، ومن شأن الأمة التي تعمل بهذا التوجيه السامي الحكيم أن تنال السعادة في دنياها . ورضاه الله - في أخراها .
ثم تحدثت السورة بعد ذلك في اثنتين وعشرين آية عن بعض أحكام وآداب الزواج والمعاشرة ، والإِيلاء والطلاق ، والعدة ، والنفقة ، والرضاعة ، والخطبة ، والمتعة ، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها ، وبنائها على أفضل الدعائم ، وأحكم الروابط ، إذ الأسرة هي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع ، ومن مجموعها يتكون ، فإذا صلحت الوحدات والمكونات صلح البنيان ، وإذا تصدعت تصدع .
( ويسألونك عن اليتامى ؟ قل : إصلاح لهم خير . وإن تخالطوهم فإخوانكم . والله يعلم المفسد من المصلح . ولو شاء الله لأعنتكم ، إن الله عزيز حكيم ) . .
إن التكافل الاجتماعي هو قاعدة المجتمع الإسلامي . والجماعة المسلمة مكلفة أن ترعى مصالح الضعفاء فيها . واليتامى بفقدهم آباءهم وهم صغار ضعاف أولى برعاية الجماعة وحمايتها . رعايتها لنفوسهم وحمايتها لأموالهم . ولقد كان بعض الأوصياء يخلطون طعام اليتامى بطعامهم . وأموالهم بأموالهم للتجارة فيها جميعا ؛ وكان الغبن يقع أحيانا على اليتامى . فنزلت الآيات في التخويف من أكل أموال الأيتام . عندئذ تحرج الأتقياء حتى عزلوا طعام اليتامى من طعامهم . فكان الرجل يكون في حجره اليتيم . يقدم له الطعام من ماله . فإذا فضل منه شيء بقي له حتى يعاود أكله أو يفسد فيطرح ! وهذا تشدد ليس من طبيعة الإسلام . فوق ما فيه من الغرم أحيانا على اليتيم . فعاد القرآن يرد المسلمين إلى الاعتدال واليسر في تناول الأمور ؛ وإلى تحري خير اليتيم والتصرف في حدود مصلحته . فالإصلاح لليتامى خير من اعتزالهم . والمخالطة لا حرج فيها إذا حققت الخير لليتيم . فاليتامى أخوان للأوصياء . كلهم أخوة في الإسلام . أعضاء في الأسرة المسلمة الكبيرة . والله يعلم المفسد من المصلح ، فليس المعول عليه هو ظاهر العمل وشكله . ولكن نيته وثمرته . والله لا يريد إحراج المسلمين وإعناتهم والمشقة عليهم فيما يكلفهم . ولو شاء الله لكلفهم هذا العنت . ولكنه لا يريد . وهو العزيز الحكيم . فهو قادر على ما يريد . ولكنه حكيم لا يريد إلا الخير واليسر والصلاح .
وهكذا يربط الأمر كله بالله ؛ ويشده إلى المحور الأصيل التي تدور عليه العقيدة ، وتدور عليه الحياة . . وهذه هي ميزة التشريع الذي يقوم على العقيدة . فضمانة التنفيذ للتشريع لا تجيء أبدا من الخارج ، إن لم تنبثق وتتعمق في أغوار الضمير . .
قال ابن جرير : حدثنا سفيان بن وَكِيع ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ الإسراء : 34 ] و { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء : 10 ] انطلق من كان عنده يتيم فعزَل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضُل له الشيء من طعامه فيُحبَس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم{[3802]} .
وهكذا رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن مَرْدويه ، والحاكم في مستدركه من طرق ، عن عطاء بن السائب ، به{[3803]} . وكذا رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وكذا رواه السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود - بمثله . وهكذا ذكر{[3804]} غير واحد في سبب نزول هذه الآية كمجاهد ، وعطاء ، والشعبي ، وابن أبي ليلى ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف .
قال وَكِيع بن الجراح : حدثنا هشام الدَّسْتَوائي{[3805]} عن حماد ، عن إبراهيم قال : قالت عائشة : إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي عُرّة{[3806]} حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي .
فقوله : { قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } أي : على حدَة { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } أي : وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم ، فلا بأس عليكم ؛ لأنهم إخوانكم في الدين ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } أي : يعلم مَنْ قَصْدُه ونيته الإفسادَ أو الإصلاح .
وقوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : ولو شاء لضيّق عليكم وأحرجَكم{[3807]} ولكنه وَسَّع عليكم ، وخفَّف عنكم ، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن ، كما قال : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ الأنعام : 152 ] ، ، بل قد جوز الأكل منه للفقير بالمعروف ، إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر ، أو مجانًا كما سيأتي بيانه في سورة النساء ، إن شاء الله ، وبه الثقة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهمْ خَيْرٌ ، وإنْ تُخَالِطُوهُم فَإخْوانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
اختلف أهل التأويل فيما نزلت هذه الآية : فقال بعضهم نزلت ( بياض في الأصل ) .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : : لما نزلت : وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الَيتِيمِ إلاّ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ عزلوا أموال اليتامى ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : وَإنْ تُخالِطوِهمْ فإخْوَانُكُمْ وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعْنَتكُمْ فخالطوهم .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت وَلا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتيمِ إلاّ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ وإنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْما إنّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء من طعامه ، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد . فاشتدّ ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : وَيَسألُونَكَ عَنِ الَيتامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فإخْوانُكُمْ فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد ، قال : لما نزلت : وَلا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إلاّ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ قال : كنا نصنع لليتيم طعاما فيفضل منه الشيء ، فيتركونه حتى يفسد ، فأنزل الله : وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فإخْوانُكُمْ .
3حدثنا يحيى بن داود الواسطي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، قال : سئل عبد الرحمن بن أبي ليلى عن مال اليتيم ، فقال : لما نزلت : وَلا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيم إلاّ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ اجتنبت مخالطتهم ، واتقوْا كل شيء حتى اتقوا المَاء ، فلما نزلت : وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ قال : فخالطوهم .
3حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَيَسألُونَكَ عَنِ اليَتَامَى الآية كلها ، قال : كان الله أنزل قبل ذلك في سورة بني إسرائيل : وَلا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلاّ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ فكبرت عليهم ، فكانوا لا يخالطونهم في مأكل ولا في غيره . فاشتدّ ذلك عليهم ، فأنزل الله الرخصة ، فقال : وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : لما نزلت : وَلا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إلاّ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ اعتزل الناس اليتامى فلم يخالطوهم في مأكل ولا مشرب ولا مال ، قال : فشقّ ذلك على الناس ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : وَيَسألُونَكَ عَنِ اليَتامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ .
3حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُخالِطُوهُمْ . . . الآية . قال : فذكر لنا والله أعلم أنه أنزل في بني إسرائيل : وَلا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيم إلاّ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ حتّى يَبْلُغَ أشُدّهُ فكبرت عليهم ، فكانوا لا يخالطونهم في طعام ولا شراب ولا غير ذلك . فاشتدّ ذلك عليهم ، فأنزل الله الرخصة فقال : ويَسألُونَكَ عَن اليَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُخالِطُوهُم فإخْوَانُكُم يقول : مخالطتهم في ركوب الدابة ، وشرب اللبن ، وخدمة الخادم . يقول للوليّ الذي يلي أمرهم : فلا بأس عليه أن يركب الدابة أو يشرب اللبن ، أو يخدمه الخادم .
3حدثني عمرو بن عليّ قال : حدثنا عمران بن عيينة ، قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : إنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْما إنّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ الآية ، قال : كان يكون في حجر الرجل اليتيم ، فيعزل طعامه وشرابه وآنيته ، فشقّ ذلك على المسلمين ، فأنزل الله : وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فَإخْوانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِح فأحلّ خلطهم .
3حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، قال : حدثنا أشعث ، عن الشعبي ، قال : لما نزلت هذه الآية : إنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْما إنّمَا يأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارا وَسَيَصْلوْنَ سَعِيرا قال : فاجتنب الناس الأيتام ، فجعل الرجل يعزل طعامه من طعامه وماله من ماله ، وشرابه من شرابه . قال : فاشتدّ ذلك على الناس ، فنزلت : وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِح . قال الشعبي : فمن خالط يتيما فليتوسع عليه ، ومن خالطه ليأكل من ماله فلا يفعل .
حدثني علي بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : وَيَسألُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُم خَيْرٌ وذلك أن الله لما أنزل : إنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْما إنّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارا وَسَيَصْلَونَ سَعِيرا كره المسلمون أن يضموا اليتامى ، وتحرّجوا أن يخالطوهم في شيء ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ .
3حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فإخْوانُكُمْ قال : لما نزلت سورة النساء عزل الناس طعامهم ، فلم يخالطوهم . قال : ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا يشق علينا أن نعزل طعام اليتامى وهم يأكلون معناه فنزلت وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ .
قال ابن جريج وقال مجاهد : عزلوا طعامهم عن طعامهم ، وألبانهم عن ألبانهم ، وأُدْمهم عن أدمهم ، فشق ذلك عليهم ، فنزلت : وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ قال : مخالطة اليتيم في المراعي والأدم . قال ابن جريج : وقال ابن عباس : الألبان وخدمة الخادم وركوب الدابة . قال ابن جريج : وفي المساكن ، قال : والمساكن يومئذٍ عزيزة .
حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر ، قال : أخبرنا أبو كدينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت : وَلا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتيم إلاّ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ و : إنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ اليَتَامى ظُلْما قال : اجتنب الناس مال اليتيم وطعامه ، حتى كان يفسد إن كان لحما أو غيره ، فشق ذلك على الناس ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : وَيَسألُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد أو عيسى ، عن قيس بن سعد ، شك أبو عاصم عن مجاهد : وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ قال : مخالطة اليتيم في الرّعْي والأدم .
وقال آخرون : بل كان اتقاء مال اليتيم واجتنابه من أخلاق العرب ، فاستفتوا في ذلك لمشقته عليهم ، فأفتوا بما بينه الله في كتابه . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَيَسألُونَكَ عَنِ الَيتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ قال : كانت العرب يشددون في اليتيم حتى لا يأكلوا معه في قصعة واحدة ، ولا يركبوا له بعيرا ، ولا يستخدموا له خادما ، فجاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسألوه عنه ، فقال : قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ يصلح له ماله وأمره له خير ، وإن يخالطه فيأكل معه ويطعمه ، ويركب راحلته ويحمله ، ويستخدم خادمه ويخدمه ، فهو أجود . وَاللّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَيَسألُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ إلى : إنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكيمٌ وإن الناس كانوا إذا كان في حجر أحدهم اليتيم جعل طعامه على ناحية ولبنه على ناحية ، مخافة الوزر . وإنه أصاب المؤمنين الجهد ، فلم يكن عندهم ما يجعلون خدما لليتامى ، فقال الله : قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُخالِطُوهُمْ . . . إلى آخر الآية .
حدثت عن الحسن بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَيَسألُونَكَ عَنِ اليَتَامى كانوا في الجاهلية يعظمون شأن اليتيم ، فلا يَمسّون من أموالهم شيئا ، ولا يركبون لهم دابة ، ولا يطعمون لهم طعاما . فأصابهم في الإسلام جهد شديد ، حتى احتاجوا إلى أموال اليتامى ، فسألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم عن شأن اليتامى ، وعن مخالطتهم ، فأنزل الله : وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ يعني بالمخالطة : ركوب الدابة ، وخدمة الخادم ، وشرب اللبن .
فتأويل الآية إذًا : ويسألك يا محمد أصحابك عن مال اليتامى ، وخلطهم أموالهم به في النفقة والمطاعمة والمشاربة والمساكنة والخدمة ، فقل لهم : تفضلكم عليهم بإصلاحكم أموالهم من غير مرزئة شيء من أموالهم ، وغير أخذ عوض من أموالهم على إصلاحكم ذلك لهم ، خير لكم عند الله ، وأعظم لكم أجرا ، لما لكم في ذلك من الأجر والثواب ، وخير لهم في أموالهم في عاجل دنياهم ، لما في ذلك من توفر أموالهم عليهم . وإن تخالطوهم فتشاركوهم بأموالكم أموالهم في نفقاتكم ومطاعمكم ومشاربكم ومساكنكم ، فتضموا من أموالهم عوضا من قيامكم بأمورهم وأسبابهم وإصلاح أموالهم ، فهم إخوانكم ، والإخوان يعين بعضهم بعضا ، ويكنف بعضهم بعضا فذو المال يعين ذا الفاقة ، وذو القوّة في الجسم يعين ذا الضعف . يقول تعالى ذكره : فأنتم أيها المؤمنون وأيتامكم كذلك إن خالطتموهم بأموالكم ، فخلطتم طعامكم بطعامهم ، وشرابكم بشرابهم وسائر أموالكم بأموالهم ، فأصبتم من أموالهم فضل مرفق بما كان منكم من قيامكم بأموالهم وولائهم ، ومعاناة أسبابهم على النظر منكم لهم نظر الأخ الشفيق لأخيه العامل فيما بينه وبينه بما أوجب الله عليه وألزمه ، فذلك لكم حلال ، لأنكم إخوان بعضكم لبعض . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ قال : قد يخالط الرجل أخاه .
3حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي مسكين ، عن إبراهيم ، قال : إني لأكره أن يكون مال اليتيم كالعُرْة .
3حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن هشام الدستوائي ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن عائشة ، قالت : إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي عُرّة حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي .
فإن قال لنا قائل : وكيف قال فإخْوَانُكُمْ فرفع الإخوان ، وقال في موضع آخر : فإنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أوْ رُكْبانا . قيل : لافتراق معنييهما ، وذلك أن أيتام المؤمنين إخوان المؤمنين ، خالطهم المؤمنون بأموالهم أو لم يخالطوهم . فمعنى الكلام : وإن تخالطوهم فهم إخوانكم . والإخوان مرفوعون بالمعنى المتروك ذكره وهو هم لدلالة الكلام عليه ، وإنه لم يُرد بالإخوان الخبر عنهم أنهم كانوا إخوانا من أجل مخالطة ولاتهم إياهم . ولو كان ذلك المراد لكانت القراءة نصبا ، وكان معناه حينئذٍ وإن تخالطوهم فخالطوا إخوانكم ، ولكنه قرىء رفعا لما وصفت من أنهم إخوان للمؤمنين الذين يلونهم خالطوهم أو لم يخالطوهم .
وأما قوله : فَرِجالاً أوْ رُكْبانا فنصب لأنهما حالان للفعل غير دائبين ، ولا يصلح معهما هو ، وذلك أنك لو أظهرت هو معهما لاستحال الكلام .
ألا ترى أنه لو قال قائل : إن خفت من عدوّك أن تصلي قائما ، فهو راجل أو راكب لبطل المعنى المراد بالكلام ؟
وذلك أن تأويل الكلام : فإن خفتم أن تصلوا قياما من عدوّكم ، فصلوا رجالاً أو ركبانا ولذلك نصبه إجراء على ما قبله من الكلام كما تقول في نحوه من الكلام : إن لبست ثيابا فالبياض ، فتنصبه لأنك تريد إن لبست ثيابا فالبس البياض ، ولست تريد الخبر عن أن جميع ما يلبس من الثياب فهو البياض ، ولو أردت الخبر عن ذلك لقلت : إن لبست ثيابا فالبياضُ رفعا ، إذ كان مخرج الكلام على وجه الخبر منك عن اللابس أن كل ما يلبس من الثياب فبياض ، لأنك تريد حينئذٍ : إن لبست ثيابا فهي بياض .
فإن قال : فهل يجوز النصب في قوله : فإخْوَانكُمْ ؟ قيل : جائز في العربية ، فأما في القراءة فإنما منعناه لإجماع القرّاء على رفعه . وأما في العربية فإنما أجزناه لأنه يحسن معه تكرير ما يحمل في الذي قبله من الفعل فيهما : وإن تخالطوهم فإخوانكم تخالطون فيكون ذلك جائزا في كلام العرب .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ .
يعني تعالى ذكره بذلك : إن ربكم وإن أذن لكم في مخالطتكم اليتامى على ما أذن لكم به ، فاتقوا الله في أنفسكم أن تخالطوهم وأنتم تريدون أكل أموالهم بالباطل ، وتجعلون مخالطتكم إياهم ذريعة لكم إلى إفساد أموالهم ، وأكلها بغير حقها ، فتستوجبوا بذلك منه العقوبة التي لا قبل لكم بها ، فإنه يعلم من خالط منكم يتيمه ، فشاركه في مطعمه ومشربه ومسكنه وخدمه ورعاته في حال مخالطته إياه ما الذي يقصد بمخالطته إياه إفساد ماله ، وأكله بالباطل ، أم إصلاحه وتثميره ، لأنه لا يخفى عليه منه شيء ، ويعلم أيكم المريد إصلاح ماله ، من المريد إفساده . كما :
3حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره : وَاللّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ قال : الله يعلم حين تخلط مالك بماله أتريد أن تصلح ماله أو تفسده فتأكله بغير حق .
3حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أشعث ، عن الشعبي : وَاللّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِح قال الشعبي : فمن خالط يتيما فليتوسع عليه ، ومن خالطه ليأكل ماله فلا يفعل .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعَنْتَكُمْ .
يعني تعالى ذكره بذلك : ولو شاء الله لحرّم ما أحله لكم من مخالطة أيتامكم بأموالكم أموالهم ، فجهدكم ذلك وشقّ عليكم ، ولم تقدروا على القيام باللازم لكم من حقّ الله تعالى ، والواجب عليكم في ذلك من فرضه ، ولكنه رخص لكم فيه ، وسهله عليكم ، رحمة بكم ورأفة .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : لأَعْنَتَكُمْ فقال بعضهم بما :
3حدثني به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد ، أو عيسى ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد شك أبو عاصم في قول الله تعالى ذكره : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعْنَتَكُمْ لحرّم عليكم المرعى والأدم .
قال أبو جعفر : يعني بذلك مجاهد ، رعي مواشي والي اليتيم مع مواشي اليتيم والأكل من إدامه ، لأنه كان يتأول في قوله : وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ أنه خلطة الولي اليتيم بالرعي والأدم .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعْنَتَكُمْ يقول : ولو شاء الله لأحرجكم ، فضيق عليكم ، ولكنه وسع ويسّر ، فقال : وَمَنْ كانَ غَنِيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيأكُلْ بالمَعْرُوفِ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأَعْنَتَكُمْ يقول : لجهدكم ، فلم تقوموا بحقّ ولم تؤدّوا فريضة .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع نحوه ، إلا أنه قال : فلم تعملوا بحق .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعْنَتَكُمْ لشدّد عليكم .
حدثني يونس . قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعْنَتَكُمْ قال : لشقّ عليكم في الأمر ، ذلك العنت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قوله : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأَعْنَتَكُمْ قال : ولو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى مُوبقا .
وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذُكرَت عنه ، وإن اختلفت ألفاظ قائليها فيها ، فإنها متقاربات المعاني لأن من حرم عليه شيء فقد ضيق عليه في ذلك الشيء ، ومن ضيق عليه في شيء ، فقد أحرج فيه ، ومن أحرج في شيء أو ضيق عليه فيه فقد جهد ، وكل ذلك عائد إلى المعنى الذي وصفت من أن معناه الشدة والمشقة ، ولذلك قيل : عَنِت فلان : إذا شق عليه وجهده فهو يعنت عنتا ، كما قال تعالى ذكره : ( عَزِيرٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ ) يعني ما شقّ عليكم وآذاكم وجهدكم ، ومنه قوله تعالى ذكره : ( ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ ) فهذا إذا عنت العانت ، فإن صيره غيره كذلك قيل : أعنته فلان في كذا : إذا جهده وألزمه أمرا جهده القيام به يعنته إعناتا ، فكذلك قوله : لأَعْنَتَكُمْ معناه : لأوجب لكم العنت بتحريمه عليكم ما يجهدكم ويحرجكم مما لا تطيقون القيام باجتنابه وأداء الواجب له عليكم فيه .
وقال آخرون : معنى ذلك : لأوبقكم وأهلككم . ذكر من قال ذلك :
3حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن منصور ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : قرأ علينا : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأَعْنَتَكُمْ قال ابن عباس : ولو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن فضيل وجرير ، عن منصور ، وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأَعْنَتَكُمْ قال : لجعل ما أصبتم موبقا .
القول في تأويل قوله تعالى : إنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .
يعني تعالى ذكره بذلك : إن الله عزيز في سلطانه لا يمنعه مانع مما أحلّ بكم من عقوبة ، لو أعنتكم بما يجهدكم القيام به من فرائضه ، فقصرتم في القيام به ، ولا يقدر دافع أن يدفعه عن ذلك ولا عن غيره مما يفعله بكم وبغيركم من ذلك لو فعله هو ، لكنه بفضل رحمته منّ عليكم بترك تكليفه إياكم ذلك ، وهو حكيم في ذلك لو فعله بكم ، وفي غيره من أحكامه وتدبيره لا يدخل أفعاله خلل ولا نقص ولا وهي ولا عيب ، لأنه فعل ذي الحكمة الذي لا يجهل عواقب الأمور ، فيدخل تدبيره مذمة عاقبة ، كما يدخل ذلك أفعال الخلق لجهلهم بعواقب الأمور ، لسوء اختيارهم فيها ابتداء .
{ في الدنيا والآخرة } في أمر الدارين فتأخذون بالأصلح والأنفع فيهما ، وتجتنبون عما يضركم ولا ينفعكم ، أو يضركم أكثر مما ينفعكم . { ويسألونك عن اليتامى } لما نزلت { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } الآية اعتزلوا اليتامى ومخالطتهم والاهتمام بأمرهم فشق ذلك عليهم ، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت { قل إصلاح لهم خير } أي مداخلتهم لإصلاحهم ، أو إصلاح أموالهم خير من مجانبتهم . { وإن تخالطوهم فإخوانكم } حث على المخالطة ، أي أنهم إخوانكم في الدين ومن حق الأخ أن يخالط الأخ . وقيل المراد بالمخالطة المصاهرة . { والله يعلم المفسد من المصلح } وعيد ووعد لمن خالطهم لإفساد وإصلاح ، أي يعلم أمره فيجازيه عليه . { ولو شاء الله لأعنتكم } أي ولو شاء الله إعناتكم لأعنتكم ، أي كلفكم ما يشق عليكم ، من العنت وهي المشقة ولم يجوز لكم مداخلتهم . { إن الله عزيز } غالب يقدر على الإعنات . { حكيم } يحكم ما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة .
فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 220 )
قوله قبل { في الدنيا } ابتداء آية( {[2087]} ) ، وقد تقدم تعلقه ، وكون { تتفكرون } موقفاً يقوي تعلق { في الدنيا } ب { الآيات } ، وقرأ طاوس «قل إصلاح إليهم خير »( {[2088]} ) ، وسبب الآية فيما قال السدي والضحاك أن العرب كانت عادتهم أن يتجنبوا مال اليتيم ولا يخالطوه في مأكل ولا مشرب ولا شيء ، فكانت تلك مشقة عليهم ، فسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن عباس( {[2089]} ) وسعيد بن المسيب : سببها أن المسلمين لما نزلت { ولا تقربوا مال اليتيم }( {[2090]} ) [ الأنعام : 152 ] الآية ونزلت { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً }( {[2091]} ) [ النساء : 10 ] تجنبوا اليتامى وأموالهم وعزلوهم عن أنفسهم ، فنزلت { وإن تخالطوهم فإخوانكم }( {[2092]} ) الآية ، وقيل : إن السائل عبد الله بن رواحة ، وأمر الله تعالى نبيه أن يجيب بأن من قصد الإصلاح في مال اليتيم فهو خير ، وما فعل بعد هذا المقصد من مخالطة وانبساط بعوض منه فلا حرج ، ورفع تعالى المشقة في تجنب اليتيم ومأكله ومشربه ، وأباح الخلطة في ذلك إذا قصد الإصلاح ورفق اليتيم ، مثال ذلك كان يكتفي اليتيم دون خلطة بقدر ما في الشهر ، فإن دعت خلطة الولي إلى أن يزاد في ذلك القدر فهي مخالطة فساد ، وإن دعت إلى الحط من ذلك القدر فهي مخالطة إصلاح( {[2093]} ) ، وقوله تعالى : { فإخوانكم } خبر ابتداء محذوف ، وقوله { والله يعلم المفسد من المصلح } تحذير ، والعنت المشقة ، منه عنت العزبة ، وعقبة عنوت أي شاقة ، وعنت البعير إذا انكسر بعد جبر ، فالمعنى : لأتعبكم في تجنب أمر اليتامى ، ولكنه خفف عنكم ، وقال ابن عباس : المعنى لأوبقكم بما سلف من نيلكم من أموال اليتامى ، و { عزيز } مقتضاه لا يرد أمره ، و { حكيم } أي محكم ما ينفذه .
قوله { في الدنيا والآخرة } يتعلق بتتفكرون لا بيبين ، لأن البيان واقع في الدنيا فقط . والمعنى ليحصل لكم فكر أي علم في شؤون الدنيا والآخرة ، وما سوى هذا تكلف .
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
عطف تبيين معاملة اليتامى على تبيين الإنفاق لتعلق الأمرين بحكم تحريم الميسر أو التنزيه عنه فإن الميسر كان باباً واسعاً للإنفاق على المحاويج وعلى اليتامى ، وقد ذكر لبيد إطعام اليتامى بعد ذكر إطعام لحوم جزور الميسر فقال :
ويُكَلِّلُون إذَا الرياحُ تَنَاوَحَتْ *** خُلْجاً تَمُدُّ شوَارعا أَيْتَامُها
أي تمد أيدياً كالرماح الشوارع في اليبس أي قلة اللحم على عظام الأيدي فكان تحريم الميسر مما يثير سؤالا عن سد هذا الباب على اليتامى وفيه صلاح عظيم لهم وكان ذلك السؤال مناسبة حسنة للتخلص إلى الوصاية باليتامى وذكر مجمل أحوالهم في جملة إصلاح الأحوال التي كانوا عليها قبل الإسلام ، فكان هذا وجه عطف هذه الجملة على التي قبلها بواو العطف لاتصال بعض هذه الأسئلة ببعض كما تقدم في قوله : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } .
وقد روي أن السائل عن اليتامى عبد الله بن رواحة ، وأخرج أبو داود عن ابن عباس لما نزل قول الله عز وجل : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } [ الإسراء : 34 ] { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } [ النساء : 10 ] الآيات انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكر ذلك لرسول الله فأنزل الله { ويسألونك عن اليتامى } الآية مع أن سورة النساء نزلت بعد سورة البقرة ، فلعل ذكر آية النساء وهم من الراوي وإنما أراد أنه لما نزلت الآيات المحذرة من مال اليتيم مثل آية سورة الإسراء ( 34 ) { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } ففي تفسير الطبري بسنده إلى ابن عباس : لما نزلت : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } عزلوا أموال اليتامى فذكروا ذلك لرسول الله فنزلت { وإن تخالطوهم } أو أن مراد الراوي لما سمع الناس آية سورة النساء تجنبوا النظر في اليتامى فذكروا بآية البقرة إن كان السائل عن آية البقرة غير المتجنب حين نزول آية النساء وأياً ما كان فقد ثبت أن النظر في مصالح الأيتام من أهم مقاصد الشريعة في حفظ النظام فقد كان العرب في الجاهلية كسائر الأمم في حال البساطة يكون المال بيد كبير العائلة فقلما تجد لصغير مالاً ، وكان جمهور أموالهم حاصلاً من اكتسابهم لقلة أهل الثروة فيهم ، فكان جمهور العرب إما زارعاً أو غارساً أو مغيراً أو صائداً ، وكل هذه الأعمال تنقطع بموت مباشريها ، فإذا مات كبير العائلة وترك أبناء صغاراً لم يستطيعوا أن يكتسبوا كما اكتسب آباؤهم إلا أبناء أهل الثروة ، والثروة عندهم هي الأنعام والحوائط إذ لم يكن العرب أهل ذهب وفضة وإن الأنعام لا تصلح إلا بمن يرعاها فإنها عروض زائلة وإن الغروس كذلك ولم يكن في ثروة العرب ملك الأرض إذ الأرض لم تكن مفيدة إلا للعامل فيها ، على أن من يتولى أمر اليتيم يستضعفه ويستحل ماله فينتفع به لنفسه ، وكرم العربي وسرفه وشربه وميسره لا تغادر له مالاً وإن كثر . وتغلُّب ذلك على مِلاك شهوات أصحابه فلا يستطيعون تركه يدفعهم إلى تطلب إرضاء نهمتهم بكل وسيلة فلا جرم أن يصبح اليتيم بينهم فقيراً مدحوراً ، وزد إلى ذلك أن أهل الجاهلية قد تأصل فيهم الكبر على الضعيف وتوقير القوى فلما عدم اليتيم ناصره ومن يذب عند كان بحيث يعرض للمهانة والإضاعة ويتخذ كالعبد لوليه ، من أجل ذلك كله صار وصف اليتيم عندهم ملازماً لمعنى الخصاصة والإهمال والذل ، وبه يظهر معنى امتنان الله تعالى على نبيه أن حفظه في حال اليتم مما ينال اليتامى في قوله : { ألم يجدك يتيماً فآوى } [ الضحى : 6 ] . فلما جاء الإسلام أمرَهم بإصلاح حال اليتامى في أموالهم وسائر أحوالهم حتى قيل إن أولياء اليتامى تركوا التصرف في أموالهم واعتزلوا اليتامى ومخالطتهم فنزلت هذه الآية .
والإصلاح جعل الشيء صالحاً أي ذا صلاح والصلاح ضد الفساد ، وهو كون شيء بحيث يحصل به منتهى ما يطلب لأجله ، فصلاح الرجل صدور الأفعال والأقوال الحسنة منه ، وصلاح الثمرة كونها بحيث ينتفع بأكلها دون ضر ، وصلاح المال نماؤه المقصود منه ، وصلاح الحال كونها بحيث تترتب عليها الآثار الحسنة .
و { إصلاح لهم } مبتدأ ووصفه ، واللام للتعليل أو الاختصاص . ووصف الإصلاح ب { لهم } دون الإضافة إذ لم يقل إصلاحهم لئلا يتوهم قصره على إصلاح ذواتهم لأن أصل إضافة المصدر أن تكون لذات الفاعل أو ذات المفعول فلا تكون على معنى الحرف ، ولأن الإضافة لما كانت من طرق التعريف كانت ظاهرة في عهد المضاف فعدل عنها لئلا يتوهم أن المراد إصلاح معين كما عدل عنها في قوله : { ايتوني بأخ لكم من أبيكم } [ يوسف : 59 ] ولم يقل بأخيكم ليوهمهم أنه لم يرد أخاً معهوداً عنده ، والمقصود هنا جميع الإصلاح لا خصوص إصلاح ذواتهم فيشمل إصلاح ذواتهم وهو في الدرجة الأولى ويتضمن ذلك إصلاح عقائدهم وأخلاقهم بالتعليم الصحيح والآداب الإسلامية ومعرفة أحوال العالم ، ويتضمن إصلاح أمزجتهم بالمحافظة عليهم من المهلكات والأخطار والأمراض وبمداواتهم ، ودفع الأضرار عنهم بكفاية مؤنهم من الطعام واللباس والمسكن بحسب معتاد أمثالهم دون تقتير ولا سرف ، ويشمل إصلاح أموالهم بتنميتها وتعهدها وحفظها . ولقد أبدع هذا التعبير ، فإنه لو قيل إصلاحهم لتوهم قصره على ذواتهم فيحتاج في دلالة الآية على إصلاح الأموال إلى القياس ولو قيل قل تدبيرهم خير لتبادر إلى تدبير المال فاحتيج في دلالتها على إصلاح ذواتهم إلى فحوى الخطاب .
و { خير } في الآية يحتمل أن يكون أفعل تفضيل إن كان خطاباً للذين حملهم الخوف من أكل أموال اليتامى على اعتزال أمورهم وترك التصرف في أموالهم بعلة الخوف من سوء التصرف فيها كما يقال :
إن السلامة من سلمى وجارتها *** أن لا تحل على حالٍ بواديها
فالمعنى إصلاح أمورهم خير من إهمالهم أي أفضل ثواباً وأبعد عن العقاب ، أي خير في حصول غرضكم المقصود من إهمالهم فإنه ينجر منه إثم الإضاعة ولا يحصل فيه ثواب السعي والنصيحة ، ويحتمل أن يكون صفة مقابل الشر إن كان خطاباً لتغيير الأحوال التي كانوا عليها قبل الإسلام ، فالمعنى إصلاحهم في أموالهم وأبدانهم وترك إضاعتهم في الأمرين كما تقدم خير ، وهو تعريض بأن ما كانوا عليه في معاملتهم ليس بخير بل هو شر ، فيكون مراداً من الآية على هذا : التشريع والتعريض إذ التعريض يجامع المعنى الأصلي ، لأنه من باب الكناية والكناية تقع مع إرادة المعنى الأصلي .
وجملة { وإن تخالطوهم فإخوانكم } عطف على جملة { إصلاح لهم خير } والمخالطة مفاعلة من الخلط وهو جمع الأشياء جمعاً يتعذر معه تمييز بعضها عن بعض فيما تراد له ، فمنه خلط الماء بالماء والقمح والشعير وخلط الناس ومنه اختلط الحابل بالنابل ، وهو هنا مجاز في شدة الملابسة والمصاحبة والمراد بذلك ما زاد على إصلاح المال والتربية عن بعد فيشمل المصاحبة والمشاركة والكفالة والمصاهرة إذ الكل من أنواع المخالطة .
وقوله { فإخوانكم } جواب الشرط ولذلك قرن بالفاء لأن الجملة الاسمية غير صالحة لمباشرة أداة الشرط ولذلك ف ( إخوانكم ) خبر مبتدأ محذوف تقديره فهم إخوانكم ، وهو على معنى التشبيه البليغ ، والمراد بالأخوة أخوة الإسلام التي تقتضي المشاورة والرفق والنصح . ونقل الفخر عن الفراء « لو نصبته كان صواباً بتقدير فإخوانكم تخالطون » وهو تقدير سمج ، ووجود الفاء في الجواب ينادي على أن الجواب جملة اسمية محضة ، وبعد فمحمل كلام الفراء على إرادة جواز تركيب مثله في الكلام العربي لا على أن يقرأ به ، ولعل الفراء كان جريئاً على إساغة قراءة القرآن بما يسوغ في الكلام العربي دون اشتراط صحة الرواية .
والمقصود من هذه الجملة الحث على مخالطتهم لأنه لما جعلهم إخواناً كان من المتأكد مخالطتهم والوصاية بهم في هاته المخالطة ، لأنهم لما كانوا إخواناً وجب بذل النصح لهم كما يبذل للأخ وفي الحديث " حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ويتضمن ذلك التعريض بإبطال ما كانوا عليه من احتقار اليتامى والترفع عن مخالطتهم ومصاهرتهم . قال تعالى : { وترغبون أن تنكحوهن } [ النساء : 127 ] أي عن أن تنكحوهن لأن الأخوة تتضمن معنى المساواة فيبطل الترفع .
وقوله : { والله يعلم المفسد من المصلح } وعد ووعيد ، لأن المقصود من الأخبار بعلم الله الإخبار بترتب آثار العلم عليه ، وفي هذا إشارة إلى أن ما فعله بعض المسلمين من تجنب التصرف في أموال اليتامى تنزه لا طائل تحته لأن الله يعلم المتصرف بصلاح والمتصرف بغير صلاح وفيه أيضاً ترضية لولاة الأيتام فيما ينالهم من كراهية بعض محاجيرهم وضربهم على أيديهم في التصرف المالي وما يلاقون في ذلك من الخصاصة ، فإن المقصد الأعظم هو إرضاء الله تعالى لا إرضاء المخلوقات ، وكان المسلمون يومئذٍ لا يهتمون إلاّ بمرضاة الله تعالى وكانوا يحاسبون أنفسهم على مقاصدهم ، وفي هذه إشارة إلى أنه ليس من المصلحة أن يعرض الناس عن النظر في أموال اليتامى اتقاء لألسنة السوء ، وتهمة الظن بالإثم فلو تمالأ الناس على ذلك وقاية لأعراضهم لضاعت اليتامى ، وليس هذا من شأن المسلمين فإن على الصلاح والفساد دلائل ووراء المتصرفين عدالة القضاة وولاة الأمور يجازون المصلح بالثناء والحمد العلن ويجازون المفسد بالبعد بينه وبين اليتامى وبالتغريم بما أفاته بدون نظر .
و ( مِن ) في قوله : { من المصلح } تفيد معنى الفصل والتمييز وهو معنى أثبته لها ابن مالك في « التسهيل » قائلاً « وللفصْل » وقال في « الشرح » : « وأشرت بذكر الفصل إلى دخولها على ثاني المتضادين نحو { والله يعلم المفسد من المصلح } و { حتى يميز الخبيث من الطيب } [ آل عمران : 179 ] اه وهو معنى رشيق لا غنى عن إثباته وقد أشار إليه في « الكشاف » عند قوله تعالى : { أتأتون الذكران من العالمين } في سورة الشعراء وجعله وجهاً ثانياً فقال : « أو أتأتون أنتم من بين من عداكم من العالمين الذكران يعني أنكم يا قوم لوط وحدكم مختصون بهذه الفاحشة » اهـ فجعل معنى ( مِن ) معنى من بين ، وهو لا يتقوم إلاّ على إثبات معنى الفصل ، وهو معنى متوسط بين معنى من الابتلاء ومعنى البدلية حين لا يصلح متعلق المجرور لمعنى الابتدائية المحض ولا لمعنى البدلية المحض فحدث معنى وسط ، وبحث فيه ابن هشام في « مغني اللبيب » أن الفصل حاصل من فعل { يميز } ومن فعل { يعلم } واستظهر أن من للابتداء أو بمعنى عن .
وقوله : { ولو شاء الله لأعنتكم } تذييل لما دل عليه قوله : { قل إصلاح لهم خير } على ما تقدم . والعنت : المشقة والصعوبة الشديدة أي ولو شاء الله لكلفكم ما فيه العنت وهو أن يحرم عليكم مخالطة اليتامى فتجدوا ذلك شاقاً عليكم وعنتاً ، لأن تجنب المرء مخالطة أقاربه من إخوة وأبناء عم ورؤيته إياهم مضيعة أمورهم لا يحفل بهم أحد يشق على الناس في الجبلة وهم وإن فعلوا ذلك حذراً وتنزهاً فليس كل ما يبتدىء المرء فعله يستطيع الدوام عليه .
وحذف مفعول المشيئة لإغناء ما بعده عنه ، وهذا حذف شائع في مفعول المشيئة فلا يكادون يذكرونه . وقد مضى القول فيه عند قوله تعالى : { ولو شاء الله لذهب بسمعهم } [ البقرة : 20 ] .
وقوله : { أن الله عزيز حكيم } تذييل لما اقتضاه شرط ( لو ) من الإمكان وامتناع الوقوع أي إن الله عزيز غالب قادر فلو شاء لكلفكم العنت ، لكنه حكيم يضع الأشياء مواضعها فلذا لم يكلفكموه . وفي جمع الصفتين إشارة إلى أن تصرفات الله تعالى تجري على ما تقتضيه صفاته كلها وبذلك تندفع إشكالات عظيمة فيما يعبَّر عنه بالقضاء والقدر .