قوله تعالى : { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } . اختلفوا في موضع هذه اللام : قيل هي مردودة على موضع اللام من قوله ( فلأنفسكم ) كأنه قال : وما تنفقوا من خير فللفقراء ، وإنما تنفقون لأنفسكم ، وقيل : معناها الصدقات التي سبق ذكرها ، وقيل : خبره محذوف تقديره : للفقراء الذين صفتهم كذا حق واجب ، وهم فقراء المهاجرين ، كانوا نحواً من أربعمائة رجل ، لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر ، وكانوا في المسجد يتعلمون القرآن ، ويرضخون النوى بالنهار ، وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أصحاب الصفة ، فحث الله تعالى عليهم الناس ، فكان من عنده فضل أتاهم به أذا أمسى . ( الذين أحصروا في سبيل الله ) فيه أقاويل ، قال قتادة : وهو هؤلاء حسبوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله .
قوله تعالى : { لا يستطيعون ضربا في الأرض } . لا يتفرغون للتجارة وطلب المعاش ، وهم أهل الصفة الذين ذكرناهم ، وقيل : حسبوا أنفسهم على طاعة الله ، وقيل : معناه حسبهم الفقر والعدم عن الجهاد في سبيل الله ، وقيل : هؤلاء قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد في سبيل الله فصاروا زمني ، أحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في سبيل الله للجهاد ، وقيل : معناه من كثرة ما جاهدوا صارت الأرض كلها حرباً عليهم فلا يستطيعون ضرباً في الأرض من كثرة أعدائهم .
قوله تعالى : { يحسبهم } . قرأ أبو جعفر وابن عامر وعاصم وحمزة : " يحسبهم " وبابه بفتح السين ، وقرأ الآخرون بالكسر .
قوله تعالى : { الجاهل } . بحالهم .
قوله تعالى : { أغنياء من التعفف } . أي من تعففهم عن السؤال وقناعتهم ، يظن من لا يعرف حالهم أنهم أغنياء ، والتعفف التفعل ، من العفة وهي الترك ، يقال :عف عن الشيء إذا كف عنه ، وتعفف إذا تكلف في الإمساك .
قوله تعالى : { تعرفهم بسيماهم } . السيماء والسيمياء والسمة : العلامة التي يعرف بها الشيء ، واختلفوا في معناها هاهنا فقال مجاهد : هو التخشع والتواضع وقال السدي : أثر الجهد من الحاجة والفقر ، وقال الضحاك : صفرة ألوانهم من الجوع والضر ، وقيل رثاثة ثيابهم .
قوله تعالى : { لا يسألون الناس إلحافا } . قال عطاء : إذا كان عندهم غداء لا يسألون عشاء ، وإذا كان عندهم عشاء لا يسألون غداء ، وقيل معناه : لا يسألون الناس إلحافاً أصلاً ، لأنه قال : من التعفف ، والتعفف ترك السؤال ، ولأنه قال : تعرفهم بسيماهم ، ولو كانت المسألة من شأنهم لما كانت إلى معرفتهم بالعلامة من حاجة ، فمعنى الآية : ليس لهم سؤال فيقع فيه إلحاف ، والألحاف : الإلحاح واللجاج .
أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن إبراهيم بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن يعقوب ، أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا أنس بن عياض عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن الزبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأن يأخذ أحدكم حبله ، فيذهب فيأتي بحزمة حطب غلى ظهره ، فيكف الله بها وجهه ، خير له من أن يسأل الناس أشياءهم أعطوه أم منعوه " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس ، ترده اللقمة واللقمتان والتمر والتمرتان . قالوا : فمن المسكين يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يجد غنى فيغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يقوم فيسأل الناس " . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافاً " .
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الظاهري ، أخبرنا جدي سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أخبرنا محمد بن زكريا بن غدافر ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد الديري ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن هارون بن ريان ، عن كنانة العدوي ، قبيصة بن مخارق قال : " إني تحملت بحمالة في قومي ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسوا الله إني تحملت بحمالة في قومي وأتيتك لتعينني فيها " قال : بل نتحملها عنك يا قبيصة ، ونؤديها إليهم من الصدقة ثم قال : يا قبيصة إن المسألة حرمت إلا في إحدى ثلاث : في رجل أصابته جاحة فاجتاحت ماله فيسأل حتى يصيب قواماً من عيشه ثم يمسك ، وفي رجل أصابته حاجة حتى يشهد له ثلاثة نفر من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة أن المسألة قد حلت له ، فيسأل حتى يصيب القوام من العيش ثم يمسك ، وفي رجل تحمل بحمالة فيسأل حتى إذا بلغ أمسك ، وما كان غير ذلك فإنه سحت يأكله صاحبه سحتاً " .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو عبد الجبار ابن محمد الجراحي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي ، أخبرنا قتيبة ، أخبرنا شريك عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أوخدوش أو كدوح قيل يا رسول الله وما يغنيه ؟ قال : خمسون درهماً أو قيمتها ذهبا " .
{ للفقراء الّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أغنياء مِنَ التّعَفّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ }
أما قوله : { لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } فبيان من الله عزّ وجلّ عن سبيل النفقة ووجهها . ومعنى الكلام : وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ، تنفقون للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله . واللام التي في الفقراء مردودة على موضع اللام في فلأنفسكم ، كأنه قال : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ } يعني به : وما تتصدّقوا به من مال ، فللفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ، فلما اعترض في الكلام بقوله : «فلأنفسكم » ، فأدخل الفاء التي هي جواب الجزاء فيه تركت إعادتها في قوله : «للفقراء » ، إذ كان الكلام مفهوما معناه . كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فِلأَنْفُسِكُمْ } أما «ليس عليك هداهم » ، فيعني المشركين ، وأما النفقة فبين أهلها ، فقال : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله .
وقيل : إن هؤلاء الفقراء الذين ذكرهم الله في هذه الآية ، هم فقراء المهاجرين عامة دون غيرهم من الفقراء . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } مهاجري قريش بالمدينة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أمر بالصدقة عليهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قوله : { لِلْفِقُرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } . . . الآية . قال : هم فقراء المهاجرين بالمدينة .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال : فقراء المهاجرين .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } .
يعني تعالى ذكره بذلك : الذين جعلهم جهادهم عدوّهم يحصرون أنفسهم فيحبسونها عن التصرف فلا يستطيعون تصرّفا . وقد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى الإحصار : تصيير الرجل المحصر بمرضه أو فاقته أو جهاده عدوّه ، وغير ذلك من علله إلى حالة يحبس نفسه فيها عن التصرّف في أسبابه بما فيه الكفاية فيما مضى قبل .
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : في ذلك بنحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال : حصروا أنفسهم في سبيل الله للغزو .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال : كانت الأرض كلها كفرا لا يستطيع أحد أن يخرج يبتغي من فضل الله إذا خرج خرج في كفر . وقيل : كانت الأرض كلها حربا على أهل هذا البلد ، وكانوا لا يتوجهون جهة إلا لهم فيها عدوّ ، فقال الله عزّ وجلّ : { لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } . . . الآية¹ كانوا ههنا في سبيل الله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : الذين أحصرهم المشركون فمنعوهم التصرّف . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } حصرهم المشركون في المدينة .
ولو كان تأويل الآية على ما تأوّله السدي ، لكان الكلام : للفقراء الذين حصروا في سبيل الله ، ولكنه «أحصروا » ، فدلّ ذلك على أن خوفهم من العدوّ الذي صير هؤلاء الفقراء إلى الحال التي حَبسوا وهم في سبيل الله أنفسهم ، لا أن العدوّ هم كانوا الحابسيهم ، وإنما يقال لمن حبسه العدوّ : حصره العدوّ ، وإذا كان الرجل المحبس من خوف العدوّ قيل : أحصره خوف العدوّ .
القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : لا يستطيعون تقلبا في الأرض ، وسفرا في البلاد ، ابتغاء المعاش وطلب المكاسب ، فيستغنوا عن الصدقات رهبة العدوّ ، وخوفا على أنفسهم منهم . كما :
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ } حبسوا أنفسهم في سبيل الله للعدوّ ، فلا يستطيعون تجارة .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ } يعني التجارة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد قوله : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ } كان أحدهم لا يستطيع أن يخرج يبتغي من فضل الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التّعَفّفِ } .
يعني بذلك : يحسبهم الجاهل بأمرهم وحالهم أغنياء من تعففهم عن المسألة وتركهم التعرّض لما في أيدي الناس صبرا منهم على البأساء والضرّاء . كما :
حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِيَاءَ } يقول : يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء من التعفف .
ويعني بقوله : { مِنَ التّعَفّفِ } من ترك مسألة الناس ، وهو التفعل من العفة عن الشيء ، والعفة عن الشيء : تركه ، كما قال رؤبة :
فَعَفّ عَنْ أسْرَارِها بَعْدَ العَسَقْ
القول في تأويل قوله تعالى : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : تعرفهم يا محمد بسيماهم ، يعني بعلامتهم وآثارهم ، من قول الله عزّ وجلّ : { سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السّجُودِ } هذه لغة قريش ، ومن العرب من يقول : «بسيمائهم » فيمدها ، وأما ثقيف وبعض أسد ، فإنهم يقولون : «بسيميائهم » ومن ذلك قول الشاعر :
غُلامٌ رَماهُ اللّهُ بالحُسْنِ يافِعالَهُ سِيمِيَاءُ لا تَشُقّ عَلى البَصَرْ
وقد اختلف أهل التأويل في السيما التي أخبر الله جل ثناؤه أنها لهؤلاء الفقراء الذين وصفت صفتهم وأنهم يعرفون بها ، فقال بعضهم : هو التخشع والتواضع . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ } قال : التخشع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث ، قال : كان مجاهد يقول : هو التخشع .
وقال آخرون يعني بذلك : تعرفهم بسيما الفقر وجهد الحاجة في وجوههم . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ } بسيما الفقر عليهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ } يقول : تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة .
وقال آخرون : معنى ذلك : تعرفهم برثاثة ثيابهم ، وقالوا : الجوع خفيّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ } قال : السيما : رثاثة ثيابهم ، والجوع خفيّ على الناس ، ولم تستطع الثياب التي يخرجون فيها تخفى على الناس .
وأول الأقوال في ذلك بالصواب : أن يقال : إن الله عزّ وجلّ أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم . وإنما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدرك تلك العلامات والاَثار منهم عند المشاهدة بالعيان ، فيعرفهم وأصحابه بها ، كما يدرك المريض فيعلم أنه مريض بالمعاينة .
وقد يجوز أن تكون تلك السيما كانت تخشعا منهم ، وأن تكون كانت أثر الحاجة والضرّ ، وأن تكون كانت رثاثة الثياب ، وأن تكون كانت جميع ذلك ، وإنما تدرك علامات الحاجة وآثار الضرّ في الإنسان ، ويعلم أنها من الحاجة والضرّ بالمعاينة دون الوصف ، وذلك أن المريض قد يصير به في بعض أحوال مرضه من المرض نظر آثار المجهود من الفاقة والحاجة ، وقد يلبس الغنيّ ذو المال الكثير الثياب الرثة ، فيتزيا بزيّ أهل الحاجة ، فلا يكون في شيء من ذلك دلالة بالصفة على أن الموصوف به مختلّ ذو فاقة ، وإنما يدري ذلك عند المعاينة بسيماه ، كما وصفهم الله نظير ما يعرف أنه مريض عند المعاينة دون وصفه بصفته .
القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ يَسألُونَ النّاسَ إلْحافا } .
يقال : قد ألحف السائل في مسألته إذا ألحّ فهو يلحف فيها إلحافا .
فإن قال قائل : أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غير إلحاف ؟ قيل : غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئا على وجه الصدقة ، إلحافا أو غير إلحاف ، وذلك أن الله عزّ وجلّ وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف ، وأنهم إنما كانوا يعرفون بسيماهم ، فلو كانت المسألة من شأنهم لم تكن صفتهم التعفف ، ولم يكن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم إلى علم معرفتهم بالأدلة والعلامة حاجة ، وكانت المسألة الظاهرة تنبىء عن حالهم وأمرهم . وفي الخبر الذي :
حدثنا به بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن هلال بن حصن ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : أعوزنا مرة فقيل لي : لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته . فانطلقت إليه مُعْنقا ، فكان أوّل ما واجهني به : «مَنْ اسْتَعَفّ أعَفّهُ الله ، ومَنِ اسْتَغْنَى أغْنَاهُ الله ، ومَنْ سَأَلَنا لَمْ نَدّخِرْ عَنْهُ شَيْئا نَجِدُهُ » ، قال : فرجعت إلى نفسي ، فقلت : ألا أستعفّ فيفعني الله ! فرجعت فما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بعد ذلك من أمر حاجة حتى مالت علينا الدنيا فغرقتنا إلا من عصم الله .
الدلالة الواضحة على أن التعفف معنى ينفي معنى المسألة من الشخص الواحد ، وأن من كان موصوفا بالتعفف فغير موصوف بالمسألة إلحافا أو غير إلحاف .
فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت ، فما وجه قوله : { لاَ يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحافا } وهم لا يسألون الناس إلحافا أو غير إلحاف ؟ قيل له : وجه ذلك أن الله تعالى ذكره لما وصفهم بالتعفف وعرّف عباده أنهم ليسوا أهل مسألة بحال بقوله : { يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِيَاءَ مِنَ التّعَفّفِ } وأنهم إنما يعرفون بالسيما ، زاد عباده إبانة لأمرهم ، وحسن ثناء عليهم بنفي الشره والضراعة التي تكون في الملحّين من السؤال عنهم . وقال : كان بعض القائلين يقول في ذلك نظير قول القائل : فَلَمّا رأيت مثل فلان ، ولعله لم يره مثله أحدا ولا نظيرا .
وبنحو الذي قلنا في معنى الإلحاف قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لاَ يَسألُونَ الناسَ إلْحافا } قال : لا يلحفون في المسألة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { لا يَسْألُونَ النّاسَ إِلْحافا } قال : هو الذي يلح في المسألة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { لا يَسألُونَ النّاسَ إِلْحافا } ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «إِنّ اللّهَ يُحِبّ الحَلِيمَ الغَنِيّ المُتَعَفّفَ ، وَيُبْغِضُ الغَنِيّ الفاحِشَ البَذِيّ السّائِلَ المُلْحِفَ » قال : وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «إِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثا ، قِيلَ وَقَالَ ، وَإضَاعَةَ المَالِ وَكَثْرَةَ السّوءَالِ » فإذا شئت رأيته في قيل وقال يومه أجمع وصدر ليلته ، حتى يُلقى جفية على فراشه ، لا يجعل الله له من نهاره ولا ليلته نصيبا ، وإذا شئت رأيته ذا مال في شهوته ولذاته وملاعبه ، ويعدله عن حقّ الله ، فذلك إضاعة المال ، وإذا شئت رأيته باسطا ذراعيه ، يسأل الناس في كفيه ، فإذا أعطي أفرط في مدحهم ، وإن منع أفرط في ذمهم .
{ للفقراء } متعلق بمحذوف أي اعمدوا للفقراء ، أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء ، أو صدقاتكم للفقراء . { الذين أحصروا في سبيل الله } أحصرهم الجهاد . { لا يستطيعون } لاشتغالهم به . { ضربا في الأرض } ذهابا فيها للكسب . وقيل هم أهل الصفة كانوا نحوا من أربعمائة من فقراء المهاجرين يسكنون صفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والعبادة ، وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله { يحسبهم الجاهل } بحالهم ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين . { أغنياء من التعفف } من أجل تعففهم عن السؤال ، { تعرفهم بسيماهم } من الضعف ورثاثة الحال ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو لكل أحد . { لا يسألون الناس إلحافا } إلحاحا ، وهو أن يلازم المسؤول حتى يعطيه ، من قولهم لحفي من فضل لحافه ، أي أعطاني من فضل ما عنده ، والمعنى أنهم لا يسألون وإن سألوا عن ضرورة لم يلحوا . وقيل : هو نفي للأمرين كقوله :
على لاحب أن يهتدي بمناره *** . . .
فنصبه على المصدر فإنه كنوع من السؤال ، أو على الحال . { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم } ترغيب في الإنفاق وخصوصا على هؤلاء .
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( 273 )
هذه اللام في قوله { للفقراء } متعلقة بمحذوف( {[2678]} ) مقدر ، تقديره الإنفاق أو الصدقة للفقراء ، وقال مجاهد والسدي وغيرهما : المراد بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين( {[2679]} ) من قريش وغيرهم ، قال الفقيه أو محمد : ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقر غابر الدهر( {[2680]} ) ، وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم ، لأن الأنصار كانوا أهل أموال وتجارة في قطرهم ، ثم بيّن الله تعالى من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو عليهم ، بقوله : { الذين أحصروا في سبيل الله } والمعنى حبسوا( {[2681]} ) ومنعوا وذهب بعض اللغويين إلى أن أحصر وحصر بمعنى واحد من الحبس والمنع سواء كان ذلك بعدو أو بمرض ونحوه من الأعذار ، حكاه ابن سيده وغيره ، وفسر السدي هنا الإحصار بأنه بالعدو . وذهب بعضهم إلى أن أحصر إنما يكون بالمرض والأعذار . وحصر بالعدو . وعلى هذا فسر ابن زيد وقتادة ورجحه الطبري . وتأول في هذه الآية أنهم هم حابسو أنفسهم بربقة الدين وقصد الجهاد وخوف العدو إذا أحاط بهم الكفر ، فصار خوف العدو عذراً أحصروا به .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذا متجه كأن هذه الأعذار أحصرتهم أي جعلتهم ذوي حصر ، كما قالوا قبره أدخله في قبره وأقبره جعله ذا قبر ، فالعدو وكل محيط يحصر ، والأعذار المانعة «تُحصِر » بضم التاء وكسر الصاد أي تجعل المرء كالمحاط( {[2682]} ) به ، وقوله : { في سبيل الله } يحتمل الجهاد ويحتمل الدخول في الإسلام ، واللفظ يتناولهما( {[2683]} ) ، والضرب في الأرض هو التصرف في التجارة ، وضرب الأرض هو المشي إلى حاجة الإنسان في البراز ، وكانوا لا يستطيعون الضرب في الأرض لكون البلاد كلها كفراً مطبقاً ، وهذا في صدر الهجرة ، فقلتهم تمنع من الاكتساب بالجهاد . وإنكار الكفار عليهم إسلامهم يمنع من التصرف في التجارة . فبقوا فقراء إلا أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث { يحسبهم الجاهل } بباطن أحوالهم { أغنياء }( {[2684]} ) و { التعفف } تفعل ، وهو بناء مبالغة من عفَّ عن الشيء إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه . وبهذا المعنى فسر قتادة وغيره( {[2685]} ) ، وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي «يحسِبهم » بكسر السين . وكذلك هذا الفعل في كل القرآن ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «يحسبهم » بفتح السين في كل القرآن ، وهما لغتان في «يحسب » كعهد ويعهد بفتح الهاء وكسرها في حروف كثيرة أتت كذلك ، قال أبو علي فتح السين في يحسب أقيس لأن العين من الماضي مكسورة فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة ، والقراءة بالكسر حسنة بمجيء السمع به ، وإن كان شاذاً عن القياس ، و { من } في قوله : { من التعفف } لابتداء الغاية أي من تعففهم ابتدأت محسبته ، وليست لبيان الجنس لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غناء تعفف ، وإنما يحسبهم أغنياء غناء مال ، ومحسبته من التعفف ناشئة ، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة عن المسألة ، وهو الذي عليه جمهور المفسرين ، لأنهم قالوا في تفسير قوله تعالى : { لا يسألون الناس إلحافاً } : المعنى لا يسألون البتة .
وتحتمل الآية معنى آخر من فيه لبيان الجنس ، سنذكره بعد( {[2686]} ) والسيما مقصورة العلامة . وبعض العرب يقول : السيمياء بزيادة ياء وبالمد ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ] .
لَهُ سِيمِيَاءٌ لا تَشُقُّ على البَصَرْ( {[2687]} ) . . . واختلف المفسرون في تعيين هذه «السيما » التي يعرف بها هؤلاء المتعففون ، فقال مجاهد : هي التخشع والتواضع ، وقال السدي والربيع : هي جهد الحاجة وقضف( {[2688]} ) الفقر في وجوههم وقلة النعمة ، وقال ابن زيد : هي رثة الحال( {[2689]} ) ، وقال قوم ، وحكاه مكي : هي أثر السجود .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا حسن لأنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة ، فكان أثر السجود عليهم أبداً( {[2690]} ) ، و «الإلحاف » والإلحاح بمعنى واحد ، وقال قوم : هو مأخوذ من ألحف الشيء إذا غطاه وغمه بالتغطية ، ومنه اللحاف ، ومنه قول ابن الأحمر : [ الوافر ]
يَظَلُّ يَحُفُّهُنَّ بِقُفْقُفَيْهِ . . . وَيُلْحِفُهنَّ هَفهَافاً ثَخِينَا( {[2691]} )
يصف ذكر نعام يحضن بيضاً ، فكأن هذا السائل الملح يعم الناس بسؤاله فيلحفهم ذلك ، وذهب الطبري والزجاج وغيرهما إلى أن المعنى لا يسألون البتة .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والآية تحتمل المعنيين نفي السؤال جملة ونفي الإلحاف فقط( {[2692]} ) ، أما الأولى فعلى أن يكون { التعفف } صفة ثابتة لهم ، ويحسبهم الجاهل بفقرهم لسبب تعففهم أغنياء من المال ، وتكون { من } لابتداء الغاية( {[2693]} ) ويكون قوله : { لا يسألون الناس إلحافاً } لم يرد به أنهم يسألون غير إلحاف بل المراد به التنبيه على سوء حالة من يسأل إلحافاً من الناس ، كما تقول : هذا رجل خير لا يقتل المسلمين . فقولك : «خير » قد تضمن أنه لا يقتل ولا يعصي بأقل من ذلك ، ثم نبهت بقولك لا يقتل المسلمين على قبح فعل غيره ممن يقتل ، وكثيراً ما يقال مثل هذا إذا كان المنبه عليه موجوداً في القضية مشاراً إليه في نفس المتكلم والسامع . وسؤال الإلحاف لم تخل منه مدة ، وهو مما يكره ، فلذلك نبه عليه .
وأما المعنى الثاني فعلى أن يكون { التعفف } داخلاً في المحسبة أي إنهم لا يظهر لهم سؤالاً ، بل هو قليل .
وبإجمال فالجاهل به مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة ، ف { من } لبيان الجنس( {[2694]} ) على هذا التأويل ، ثم نفى عنهم سؤال الإلحاف وبقي غير الإلحاف مقرراً لهم حسبما يقتضيه دليل الخطاب ، وهذا المعنى في نفي الإلحاف فقط هو الذي تقتضيه ألفاظ السدي ، وقال الزجّاج رحمه الله : المعنى لا يكون منهم سؤال فلا يكون إلحاف( {[2695]} ) .
وهذا كما قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
عَلَى لاَحِبٍ يُهتَدَى بِمَنَارِهِ . . . ( {[2696]} )
أي ليس ثم منار فلا يكون اهتداء .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : إن كان الزجاج أراد لا يكون منهم سؤال البتة فذلك لا تعطيه الألفاظ التي بعد لا ، وإنما ينتفي السؤال إذا ضبط المعنى من أول الآية على ما قدمناه ، وإن كان أراد لا يكون منهم سؤال إلحاف فذلك نص الآية ، وأما تشبيهه الآية ببيت امرىء القيس فغير صحيح( {[2697]} ) ، وذلك أن قوله : على لاحب لا يهتدى بمناره وقوله الآخر : [ البسيط ] .
قِفْ بِالطُّلُولِ التي لَمْ يَعْفُهَا القدَمُ . . . ( {[2698]} )
وَمَنْ خفْتُ جَوْرِهِ فِي القَضَا . . . ء فَمَا خِفْتُ جَوْرَك يَا عَافِيهْ( {[2699]} )
وما جرى مجراه ترتيب يسبق منه أنه لا يهتدى بالمنار ، وإن كان المنار موجوداً فلا ينتفي إلا المعنى الذي دخل عليه حرف النفي فقط ، وكذلك ينتفي العفا وإن وجد القدم ، وكذلك ينتفي الخوف وإن وجد الجور ، وهذا لا يترتب في الآية ، ويجوز أن يريد الشعراء أن الثاني معدوم فلذلك أدخلوا على الأول حرف النفي إذ لا يصح الأول إلا بوجود الثاني ، أي ليس ثم منار ، فإذاً لا يكون اهتداء بمنار ، وليس ثم قدم فإذاً لا يكون عفا ، وليس ثم جور فإذاً لا يكون خوف ، وقوله تعالى : { لا يسألون الناس إلحافاً } ، لا يترتب فيه شيء من هذا ، لأن حرف النفي دخل على أمر عام للإلحاف وغيره ، ثم خصص بقوله : { إلحافاً } جزءاً من ذلك العام فليس بعدم الإلحاف ينتفي السؤال ، وبيت الشعر ينتفي فيه الأول بعدم الثاني إذ دخل حرف النفي فيه على شيء متعلق وجوده بوجود الذي يراد أنه معدوم ، والسؤال ليس هكذا مع الإلحاف ، بل الأمر بالعكس إذ قد يعدم الإلحاف منهم ويبقى لهم سؤال لا إلحاف فيه ، ولو كان الكلام لا يلحفون الناس سؤالاً لقرب الشبه بالأبيات المتقدمة ، وكذلك لو كان بعد لا يسألون شيء إذا عدم السؤال ، كأنك قلت تكسباً أو نحوه لصح الشبه( {[2700]} ) ، والله المستعان وقوله تعالى : { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم } وعد محض أي يعلمه ويحصيه ليجازي عليه ويثيب .