معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱسۡمَعُواْۖ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَأُشۡرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡعِجۡلَ بِكُفۡرِهِمۡۚ قُلۡ بِئۡسَمَا يَأۡمُرُكُم بِهِۦٓ إِيمَٰنُكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (93)

قوله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا } . أي استجيبوا وأطيعوا سميت الطاعة والإجابة سمعاً على المجاورة لأنه سبب للطاعة والإجابة .

قوله تعالى : { قالوا سمعنا } . قولك .

قوله تعالى : { وعصينا } . أمرك ، وقيل : سمعنا بالأذن وعصينا بالقلوب ، قال أهل المعاني : إنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم ولكن لما سمعوه وتلقوه بالعصيان نسب ذلك إلى القول اتساعاً .

قوله تعالى : { وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } . أي حب العجل ، أي معناه : أدخل في قلوبهم حب العجل وخالطها ، كإشراب اللون لشدة الملازمة . يقال : فلان أشرب اللون إذا اختلط بياضه بالحمرة ، وفي القصص : أن موسى أمر أن يبرد العجل بالمبرد ثم يذره في النهر وأمرهم بالشرب منه فمن بقي في قلبه شيء من حب العجل ظهرت سحالة الذهب على شاربه .

قوله تعالى : { قل بئسما يأمركم به } . أن تعبدوا العجل من دون الله ، أي بئس إيمان يأمر بعبادة العجل .

قوله تعالى : { إن كنتم مؤمنين } . بزعمكم ، وذلك أنهم قالوا : نؤمن بما أنزل علينا فكذبهم الله عز وجل .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱسۡمَعُواْۖ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَأُشۡرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡعِجۡلَ بِكُفۡرِهِمۡۚ قُلۡ بِئۡسَمَا يَأۡمُرُكُم بِهِۦٓ إِيمَٰنُكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (93)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطّورَ خُذُواْ مَآآتَيْنَاكُم بِقُوّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ }

يعني بقوله جل ثناؤه : { وَإذْ أخَذْنَا مِيثاقَكُمْ } : واذكروا إذ أخذنا عهودكم بأن خذوا ما آتيناكم من التوراة التي أنزلتها إليكم أن تعملوا بما فيها من أمري ، وتنتهوا عما نهيتكم فيها بجدّ منكم في ذلك ونشاط ، فأعطَيْتُمْ على العمل بذلك ميثاقكم ، إذْ رفعنا فوقكم الجبل . أما قوله : وَاسْمَعُوا فإن معناه : واسمعوا ما أمرتكم به ، وتقبلوه بالطاعة كقول الرجل للرجل يأمره بالأمر : سمعت وأطعت ، يعني بذلك : سمعت قولك وأطعت أمرك . كما قال الراجز :

السّمْعُ والطّاعَةُ والتّسْلِيمُ *** خَيْرٌ وأعْفَى لِبَنِي تَمِيمْ

يعني بقوله السمع : قبول ما يسمع والطاعة لما يؤمر . فكذلك معنى قوله : وَاسْمَعُوا اقبلوا ما سمعتم واعملوا به .

قال أبو جعفر : فمعنى الآية : وإذ أخذنا ميثاقكم أن خذوا ما آتيناكم بقوّة ، واعملوا بما سمعتم ، وأطيعوا الله ، ورفعنا فوقكم الطور من أجل ذلك .

وأما قوله : قالُوا سَمِعْنا فإن الكلام خرج مخرج الخبر عن الغائب بعد أن كان الابتداء بالخطاب ، فإن ذلك كما وصفنا من أن ابتداء الكلام إذا كان حكاية فالعرب تخاطب فيه ثم تعود فيه إلى الخبر عن الغائب وتخبر عن الغائب ثم تخاطب كما بينا ذلك فيما مضى قبل . فكذلك ذلك في هذه الآية لأن قوله : { وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ } بمعنى : قلنا لكم فأجبتمونا . وأما قوله : قالُوا سَمِعْنا فإنه خبر من الله عن اليهود الذين أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة وأن يطيعوا الله فيما يسمعون منها أنهم قالوا حين قيل لهم ذلك : سمعنا قولك وعصينا أمرك .

القول في تأويل قوله تعالى : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهُمُ العِجْلَ بكُفْرِهِمْ } .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : { وأشربوا في قلوبهم }حبّ العجل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهمُ العِجْلَ } قال : أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ }قال : أشربوا حبّ العجل بكفرهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : { وَأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِمُ العِجْلَ } قال : أشربوا حبّ العجل في قلوبهم .

وقال آخرون : معنى ذلك أنهم سقوا الماء الذي ذُرّي فيه سحالة العجل . ذكر من قال ذلك .

حدثني موسى بن هارون . قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : لما رجع موسى إلى قومه أخذ العجل الذي وجدهم عاكفين عليه فذبحه ، ثم حَرَقَه بالمبرد ، ثم ذراه في اليمّ ، فلم يبق بحر يومئذ يجري إلا وقع فيه شيء منه . ثم قال لهم موسى : اشربوا منه فشربوا منه ، فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب فذلك حين يقول الله عزّ وجل : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال : لما سُحِل فألقي في اليمّ استقبلوا جرية الماء ، فشربوا حتى ملئوا بطونهم ، فأورث ذلك من فعله منهم جُبْنا .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين اللذين ذكرت بقول الله جل ثناؤه : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ } تأويل من قال : وأشربوا في قلوبهم حبّ العجل لأن الماء لا يقال منه : أشرب فلان في قلبه ، وإنما يقال ذلك في حبّ الشيء ، فيقال منه : أشرب قلب فلان حبّ كذا ، بمعنى سقي ذلك حتى غلب عليه وخالط قلبه كما قال زهير :

فَصَحَوْتُ عَنْهَا بَعْدَ حُبّ داخِلٍ *** والحُبّ يُشْرَبُهُ فُؤَادُكَ دَاءُ

قال : ولكنه ترك ذكر الحبّ اكتفاءً بفهم السامع لمعنى الكلام ، إذ كان معلوما أن العجل لا يشرب القلب ، وأن الذي يشرب القلب منه حبه ، كما قال جل ثناؤه : { وَاسألْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الّتي كانَتْ حاضرَةَ البَحْرِ } ، { وَاسْألِ القَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَالْعِيرَ الّتِي أقْبَلْنَا فِيهَا } ، وكما قال الشاعر :

* ألا إنّني سُقّيتُ أسودَ حالِكا *** أَلاَ بَجَلي مِنَ الشّرَابِ أَلا بَجَلْ

يعني بذلك سَمّا أسود ، فاكتفى بذكر أسود عن ذكر السم لمعرفة السامع معنى ما أراد بقوله : «سُقيت أسود » ، ويروى :

*** ألا إنّني سُقِيتُ أسْوَدَ سالخا ***

وقد تقول العرب : إذا سرّك أن تنظر إلى السخاء فانظر إلى هَرِم أو إلى حاتم ، فتجتزىء بذكر الاسم من ذكر فعله إذا كان معروفا بشجاعة أو سخاء أو ما أشبه ذلك من الصفات . ومنه قول الشاعر :

يَقُولُونَ جاهِدْ يا جَمِيلُ بِغَزْوَةٍ *** وَإنّ جِهادا طَيّءٌ وَقِتالُهَا

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ بِئْسَما يأْمُرُكُمْ بِهِ إيمانُكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .

يعني بذلك جل ثناؤه : قل يا محمد ليهود بني إسرائيل : بئس الشيء يأمركم به إيمانكم إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله ورسله ، والتكذيب بكتبه ، وجحود ما جاء من عنده . ومعنى إيمانهم تصديقهم الذي زعموا أنهم به مصدّقون من كتاب الله ، إذ قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله ، فقالوا : نؤمن بما أنزل علينا .

وقوله : { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم . وإنما كذّبهم الله بذلك لأن التوراة تنهى عن ذلك كله وتأمر بخلافه ، فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة إن كان يأمرهم بذلك فبئس الأمر يأمر به . وإنما ذلك نفي من الله تعالى ذكره عن التوراة أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم ، وأن يكون التصديق بها يدلّ على شيء من مخالفة أمر الله ، وإعلام منه جل ثناؤه أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم ، والذي يحملهم عليه البغيُ والعدوانُ .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱسۡمَعُواْۖ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَأُشۡرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡعِجۡلَ بِكُفۡرِهِمۡۚ قُلۡ بِئۡسَمَا يَأۡمُرُكُم بِهِۦٓ إِيمَٰنُكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (93)

{ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا } أي قلنا لهم : خذوا ما أمرتم به في التوراة بجد واسمعوا سماع طاعة .

{ قالوا سمعنا } قولك { وعصينا } أمرك { وأشربوا في قلوبهم العجل } تداخلهم حبه ورسخ في قلوبهم صورته ، لفرط شغفهم به ، كما يتداخل الصبغ الثوب ، والشراب أعماق البدن . وفي قلوبهم : بيان لمكان الإشراب كقوله تعالى : { إنما يأكلون في بطونهم نارا } { بكفرهم } بسبب كفرهم وذلك لأنهم كانوا مجسمة ، أو حلولية ولم يروا جسما أعجب منه ، فتمكن في قلوبهم ما سول لهم السامري { قل بئسما يأمركم به إيمانكم } أي بالتوراة ، والمخصوص بالذم محذوف نحو هذا الأمر ، أو ما يعمه وغيره من قبائحهم المعدودة في الآيات الثلاث إلزاما عليهم { إن كنتم مؤمنين } تقرير للقدح . في دعواهم الإيمان بالتوراة ، وتقديره إن كنتم مؤمنين بها لم يأمركم بهذه القبائح ولا يرخص لكم فيها إيمانكم بها ، أو إن كنتم مؤمنين بها فبئسما يأمركم به إيمانكم بها ، لأن المؤمن ينبغي أن لا يتعاطى إلا ما يقتضيه إيمانه ، لكن الإيمان بها لا يأمر به ، فإذا لستم بمؤمنين .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱسۡمَعُواْۖ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَأُشۡرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡعِجۡلَ بِكُفۡرِهِمۡۚ قُلۡ بِئۡسَمَا يَأۡمُرُكُم بِهِۦٓ إِيمَٰنُكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (93)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة}، يعني: الجنة، وذلك أن اليهود قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وأن الله لن يعذبنا، فقال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: قل لهم {... فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} [أي] فأحبوا الموت إن كنتم أولياء الله وأحباؤه، وأنكم في الجنة...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

هذه الآية مما احتجّ الله بها لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم. وذلك أن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم فيما كان بينه وبينهم من الخلاف، كما أمره الله أن يدعو الفريق الاَخر من النصارى إذ خالفوه في عيسى صلوات الله عليه وجادلوا فيه إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة. وقال لفريق اليهود: إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدّعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله، بل إن أعطيتم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها والفوز بجوار الله في جنانه، إن كان الأمر كما تزعمون أن الدار الاَخرة لكم خالصة دوننا. وإن لم تُعْطَوْها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا وانكشف أمرنا وأمركم لهم. فامتنعت اليهود من إجابة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها. كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في عيسى إذ دُعوا إلى المباهلة من المباهلة فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ أنّ اليَهُودَ تَمَنّوُا المَوْتَ لَمَاتُوا وَلَرَأَوْا مَقاعِدَهُمْ مِنَ النّارِ، وَلَوْ خَرَجَ الّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَرَجَعُوا لا يَجِدُونَ أَهْلاً وَلا مالاً».

...عن ابن عباس في قوله: {فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه.

فانكشف، لمن كان مشكلاً عليه أمر اليهود يومئذ، كذبهم وبَهْتهم وبغيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت حجة رسول الله وحجة أصحابه عليهم، ولم تزل والحمد لله ظاهرة عليهم وعلى غيرهم من سائر أهل الملل. وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: {فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ لأنهم} فيما ذكر لنا قالُوا {نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحبّاؤهُ} وقالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كَانَ هُودا أوْ نَصَارَى} فقال الله لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم إن كنتم صادقين فيما تزعمون فتمنوا الموت، فأبان الله كذبهم بامتناعهم من تمني ذلك، وأفلج حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو اليهود أن يتمنوا الموت، وعلى أيّ وجه أمروا أن يتمنوه.

فقال بعضهم: أمروا أن يتمنوه على وجه الدعاء على الفريق الكاذب منهما.

وقال آخرون: إنهم قالُوا "لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصارى "وَقالُوا: {نحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحِبّاؤُهُ} فقيل لهم: {فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، فلم يفعلوا.

{قلْ إنْ كانَت لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةِ عِنْدَ اللّهِ خَالِصَةً}: فإنه يقول: قل يا محمد إن كان نعيم الدار الاَخرة ولذاتها لكم يا معشر اليهود عند الله. فاكتفى بذكر «الدار» من ذكر نعيمها لمعرفة المخاطبين بالآية معناها.

" خالِصَةً" فإنه يعني به صافية، كما يقال: خلص لي فلان بمعنى صار لي وحدي وصَفَا لي يقال: منه خلص لي هذا الشيء... ويقال للرجل: هذا خُلْصاني، يعني خالصتي من دون أصحابي. وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يتأول قوله: "خالِصَةً": خاصة، وذلك تأويل قريب من معنى التأويل الذي قلناه في ذلك... عن ابن عباس: {قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ} قال: قل يا محمد لهم يعني اليهود إن كانت لكم الدار الاَخرة يعني الخير عِنْدَ اللّهِ خَالِصَةً يقول: خاصة لكم.

وأما قوله: "مِنْ دُونِ النّاسِ" فإن الذي يدل عليه ظاهر التنزيل أنهم قالوا: لنا الدار الآخرة عند الله خالصة من دون جميع الناس. ويبين أن ذلك كان قولهم من غير استثناء منهم من ذلك أحدا من بني آدم إخبارُ الله عنهم أنهم قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصَارَى}. إلا أنه رُوي عن ابن عباس قول غير ذلك... عن ابن عباس: {مِنْ دُونِ النّاسِ} يقول: من دون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين استهزأتم بهم، وزعمتم أن الحق في أيديكم، وأن الدار الآخرة لكم دونهم.

وأما قوله: {فَتَمَنّوُا المَوْتَ} فإن تأويله: تشهّوه وأَرِيدُوه. وقد رُوي عن ابن عباس أنه قال في تأويله: «فسلوا الموت». ولا يعرف التمني بمعنى المسألة في كلام العرب، ولكن أحسب أن ابن عباس وجه معنى الأمنية إذا كانت محبة النفس وشهوتها إلى معنى الرغبة والمسألة، إذ كانت المسألة هي رغبة السائل إلى الله فيما سأله.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وذلك أن أعداء الله تعالى كانوا يقولون: إن الجنة لنا في الآخرة بقولهم: {لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} [البقرة: 111] وقولهم: {وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا} [البقرة: 135] وقولهم {نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18]، [فقال الله تعالى {قل} لهم {إن كانت لكم الدار الآخرة} كما تزعمون، وأنكم {أبناء الله وأحباؤه} كما تقولون {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} وذلك أن المرء لا يكره الانتقال إلى داره وإلى بستانه، بل يتمنى ذلك. وكذلك المرء لا يكره القدوم على [أبيه] ولا على ابنه ولا على حبيبه، ولا يخاف نقمته ولا عذابه، بل يجد عنده الكرامات والهدايا. فإن كان كما تقولون {فتمنوا الموت} حتى تنجوا من غم الدنيا من تحمل الشدائد التي فيها {إن كنتم صادقين} في زعمكم بأن الآخرة لكم، وأنكم {أبناء الله وأحباؤه}.

فإن قيل: إنكم تقولون: إن الآخرة للمؤمنين، ثم لا أحد منهم يتمنى الموت إذا قيل له: تمن الموت، [فما معنى الاحتجاج] عليهم بذلك؟ وذلك على المؤمنين كهو عليهم؛ قيل بوجهين:

أحدهما: أن المؤمنين لم يجعلوا لأنفسهم من الفضل والمنزلة عند الله ما جعل أولئك لأنفسهم، فكان في تمنيهم صدق ما ادعوا لأنفسهم، وفي الامتناع عن ذلك ظهور صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والثاني:... أنهم ادعوا أنهم {أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18]، وفي تمنيهم الموت ردهم وصرفهم إلى الحبيب والأب الذي ادعوه، ولا أحد يرغب عن حبيبه وأبيه، فدل امتناعهم عن ذلك على كذبهم في دعاويهم، وبالله نستعين...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

تضمنت الآية معنيين؛

أحدهما: إظهار كذبهم وتَبكيتهم به.

والثاني: الدلالة على نبوة النبي عليه السلام؛ وذلك أنه تحداهم بذلك كما أمر الله تعالى بتحدّي النصارى بالمباهلة، فلولا علمهم بصدقه صلى الله عليه وسلم وكذبهم لسارعوا إلى تمني الموت، ولسَارَعَت النَّصَارى إلى المباهلة، لا سيّما وقد أخبر الفريقين أنهم لو فعلوا ذلك لنزل الموت والعذاب بهم، وكان يكون في إظهارهم التمني والمباهلة تكذيبٌ له ودَحْضٌ لحجته إذا لم ينزل بهم ما أوْعَدَهُم، فلما أحجموا عن ذلك مع التحدي والوعيد مع سهولة هذا القول، دلّ ذلك على علمهم بصحة نبوته بما عرفوه من كتبهم من نعته وصفته، كما قال تعالى: {ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم}...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}: قال أهل المعاني: إنّهم لم يقولوا هذا بألسنتهم، ولكن لما سمعوا الأمر وتلقوه بالعصيان نُسب ذلك عنهم إلى القول اتساعاً.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{وَاسْمَعُواْ} فيه تأويلان:

أحدهما: يعني فاعملوا بما سمعتم.

[و] الثاني: أي اقبلوا ما سمعتم، كما قيل سمع الله لمن حمده، أي قبل الله حمده

{قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} فيه تأويلان:

أحدهما: أنهم قالوا ذلك حقيقة، ومعناه سمعنا قولك وعصينا أمرك.

والثاني: أنهم لم يقولوه ولكن فعلوا ما دل عليه، فقام الفعل منهم مقام القول.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

كرَّرَ الإخبار عن غُلُوِّهم في حُبِّ العجل، ونُبُوِّهم عن قبول الحق... فلا النصحُ نَجَعَ فيهم، ولا العقوبةُ أوجبت إقلاعهم عن معاصيهم، ولا بالذم فيهم احتفلوا، ولا بموجب الأمر عملوا!

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

يعني إن صحّ قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً.

و {الناس} للجنس وقيل: للعهد وهم المسلمون.

{فَتَمَنَّوُاْ الموت} لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من الدار ذات الشوائب،

كما روى عن المبشرين بالجنة ما روى. كان علي رضي الله عنه يطوف بين الصفين في غلالة، فقال له ابنه الحسن: ما هذا بزيّ المحاربين. فقال: يا بنيّ لا يبالي أبوك على الموت سقط، أم عليه سقط الموت.

وعن حذيفة رضي الله عنه أنه كان يتمنى الموت، فلما احتضر قال: حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم. يعني على التمني.

وقال عمار بصفين: الآن ألاقي الأحبة محمداً وحزبه.

وكان كل واحد من العشرة يحب الموت ويحنّ إليه.

زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :

والذي قدمته أيديهم: قتل الأنبياء وتكذيبهم، وتبديل التوراة...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن في الإعادة وجوها:

أحدها: أن التكرار في هذا وأمثاله للتأكيد وإيجاب الحجة على الخصم على عادة العرب.

وثانيها: أنه إنما ذكر ذلك مع زيادة وهي قولهم: {سمعنا وعصينا} وذلك يدل على نهاية لجاجهم.

أما قوله تعالى: {قالوا سمعنا وعصينا} ففيه مسائل:

المسألة الأولى: أن إظلال الجبل لاشك أنه من أعظم المخوفات ومع ذلك فقد أصروا على كفرهم وصرحوا بقولهم {سمعنا وعصينا} وهذا يدل على أن التخويف وإن عظم لا يوجب الانقياد.

المسألة الثانية: الأكثرون من المفسرين اعترفوا بأنهم قالوا هذا القول...

أما قوله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل} ففيه مسائل:

الثاني: كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض، فكذا تلك المحبة كانت مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

وفي هذا التكرار أيضاً من الفائدة تذكارهم بتعداد نعم الله عليهم ونقمه منهم، ليزدجر الأخلاف بما حل بالأسلاف. وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل، لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

قال ابن جرير: وهذه الآية مما احتج الله به لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مُهَاجَره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم؛ وذلك أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم إلى قضية عادلة بينه وبينهم، فيما كان بينه وبينهم من الخلاف، كما أمره أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إذا خالفوه في عيسى ابن مريم، عليه السلام، وجادلوه فيه، إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة.

فقال لفريق من اليهود: إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك غير ضار بكم إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله، بل أعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها، والفوز بجوار الله في جناته إن كان الأمر كما تزعمون: من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا. وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا، وانكشف أمرنا وأمركم لهم فامتنعت اليهود من الإجابة إلى ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت، فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها، كما امتنع فريق من النصارى.

فهذا الكلام منه أوله حسن، وأما آخره فيه نظر؛ وذلك أنه لا تظهر الحجة عليهم على هذا التأويل، إذ يقال: إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أن يتمنوا الموت فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت، وكم من صالح لا يتمنى الموت، بل يود أن يعمر ليزداد خيرًا وترتفع درجته في الجنة، كما جاء في الحديث: (خيركم من طال عمره وحسن عمله). وجاء في الصحيح النهي عن تمني الموت، وفي بعض ألفاظه: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما محسنًا فلعله أن يزداد، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب). ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا: فها أنتم تعتقدون -أيها المسلمون- أنكم أصحاب الجنة، وأنتم لا تتمنون في حال الصحة الموت؛ فكيف تلزمونا بما لا نُلزمكم؟

وهذا كله إنما نشأ من تفسير الآية على هذا المعنى، فأما على تفسير ابن عباس فلا يلزم عليه شيء من ذلك، بل قيل لهم كلام نَصَف: إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس، وأنكم أبناء الله وأحبّاؤه، وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار، فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم، واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة. فلما تيقَّنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ونعته، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه. فعلم كل أحد باطلهم، وخزيهم، وضلالهم وعنادهم -عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.

تفسير ابن عرفة 803 هـ :

{قالوا سمعنا وعصينا}: قال ابن عرفة:... هو مغالطة منهم لأن السماع في قوله: « واسمعوا» ليس المراد به حقيقة بل هو من مجاز إطلاق السبب على مسببه، لأن السماع سبب في الطاعة، فكأنهم أمروا بالطاعة فغالطوا في ذلك، وحملوا الأمر بالسماع على حقيقته من أن المراد به الاستماع فقط فقالوا: « سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا»

قوله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ...} الباء إما للمصاحبة أي مع كفرهم، أو للسببية فيكون العقوبة على الذنب بالذنب كما ورد أن المعاصي تزيد الكفر.

قيل لابن عرفة: إنما كفروا بعبادتهم العجل، ولم يتقدم لهم قبل ذلك كفر بوجه؟ فقال: لا بل كفروا أولا كفرا عاما بالاعتقاد، ثم عبدوا العجل بالفعل.

الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :

قال أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَاج: في هذه الآية أعظم حجة، وأظهر دلالة على صحَّة الرسالة، لأنهُ قال لهم {فَتَمَنَّوُاْ الموت}، وأعلمهم أنهم لَنْ يتمنَّوْهُ أبداً، فلم يتمنَّهُ وَاحِدٌ منهم، وعن النبيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم: (والَّذي نَفُسِي بيَدِهِ، لا يقولها رجُلٌ منهم إلا غصَّ بِرِيقِهِ) يعني: يموتُ مكانه، قال أبو محمَّدٍ الأصيليُّ: من أَعجب أمرهم أنَّهُ لا تُوجَدُ منهم جماعةٌ، ولا واحدٌ من يومِ أَمَرَ اللَّهُ تعالى بذلك نبيَّهُ يقدَّم عليه، ولا يجيب إليه، وهذا موجودٌ مشاهَدٌ لمن أراد أن يمتحنه منهم...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{قالوا سمعنا وعصينا}: ولما كانت فائدة السماع القبول ومن سمع فلم يقبل كان كمن لم يسمع قال {واسمعوا} وإلا دفناكم به، وذلك حيث يكفي غيركم في التأديب رفع الدرة والسوط عليه فينبعث للتعلم الذي أكثر النفوس الفاضلة تتحمل فيه المشاق الشديدة لما له من الشرف ولها به من الفخار؛ ولما ضلوا بعد هذه الآية الكبرى وشيكاً مع كونها مقتضية للثبات على الإيمان بعد أخذ الميثاق الذي لا ينقضه ذو مروءة فكان ضلالهم بعده منبئاً عن أن العناد لهم طبع لازم فكانوا كأنهم عند إعطاء العهد عاصون قال مترجماً عن أغلب أحوال أكثرهم في مجموع أزمانهم وهو ما عبر عنه في الآية السالفة بقوله: {ثم توليتم} [البقرة: 83] مؤذناً بالغضب عليهم بالإعراض عن خطابهم بعد إفحامهم بالمواجهة في تقريعهم حيث ناقضوا ما قال لهم من السماع النافع لهم فأخبروا أنهم جعلوه ضاراً... قالوا سمعنا... وعصينا... وساقه لغرابته مساق جواب سائل كأنه قال: رفع الطور فوقهم أمر هائل جداً مقتض للمبادرة إلى إعطاء العهد ظاهراً وباطناً والثبات عليه فما فعلوا؟ فقيل: بادروا إلى خلاف ذلك.

{وأشربوا} فأعظم الأمر بإسناد الفعل إليهم ثم إلى قلوبهم...

{بكفرهم} وفيه إشارة إلى أن من أعرض عن امتثال الأمر استحق الإبعاد عن مقام الأنس...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

وأما السياق الذي وردت فيه هذه الآية بهذا النظم والأسلوب المخالفين لأسلوب تلك الآية مع الاتحاد في المعنى فهو إقامة الحجة على اليهود الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورد زعمهم أنهم مؤمنون بشريعة لا يطالبهم الله بالإيمان بغيرها كما قلنا في التي قبلها، ولذلك ختم الآية بقوله تعالى مخاطبا للنبي عليه الصلاة والسلام {قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} أي إن صح زعمكم أنكم مؤمنون بشريعة – والإيمان الحقيقي العمل بما له من السلطان على الإرادة – فبئسما يأمركم به ذلك الإيمان من الأعمال التي منها عبادة العجل وقتل الأنبياء ونقض الميثاق.

لكن هذا الزعم مشكوك فيه بل يصح القطع بعدمه، بدليل الأعمال التي يستحيل أن تكون أثرا له. ولا ينسى القارئ ما تقدم من ربط الإيمان بالعمل الصالح في تفسيره قوله تعالى {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته} الآية. هذه حجة عليهم بطبيعة الإيمان وأثره في عمل المؤمن وتليها حجة أخرى تتعلق بفائدة الإيمان ومثوبته في الحياة الأخرى، وهي قوله عز وجل: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين}...

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

{وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} أي صار حب العجل نافذا فيهم نفوذ الماء فيما يدخل فيه.

وقوله: بكفرهم، أي إن سبب هذا الحب الشديد لعبادة العجل هو ما كانوا عليه من الوثنية في مصر، فرسخ الكفر في قلوبهم بتمادي الأيام وورثه الخلف عن السلف.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

والسياق هنا يلتفت من الخطاب إلى الحكاية.. يخاطب بني إسرائيل بما كان منهم، ويلتفت إلى المؤمنين -وإلى الناس جميعا- فيطلعهم على ما كان منهم.. ثم يلقن الرسول [ص] أن يجبههم بالترذيل والتبشيع لهذا اللون من الإيمان العجيب الذي يدعونه إن كان يأمرهم بكل هذا الكفر الصريح: (قل: بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين!).. ونقف هنا لحظة أمام التعبيرين المصورين العجيبين: (قالوا: سمعنا وعصينا).. (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم).. إنهم قالوا: سمعنا. ولم يقولوا عصينا. ففيم إذن حكاية هذا القول عنهم هنا؟ إنه التصوير الحي للواقع الصامت كأنه واقع ناطق. لقد قالوا بأفواههم: سمعنا. وقالوا بأعمالهم: عصينا. والواقع العملي هو الذي يمنح القول الشفوي دلالته. وهذه الدلالة أقوى من القول المنطوق...

وهذا التصوير الحي للواقع يومئ إلى مبدأ كلي من مبادئ الإسلام: إنه لا قيمة لقول بلا عمل. إن العمل هو المعتبر. أو هي الوحدة بين الكلمة المنطوقة والحركة الواقعة، وهي مناط الحكم والتقدير...

فأما الصورة الغليظة التي ترسمها: (وأشربوا في قلوبهم العجل) فهي صورة فريدة. لقد أشربوا. أشربوا بفعل فاعل سواهم. أشربوا ماذا؟ أشربوا العجل! وأين أشربوه؟ أشربوه في قلوبهم! ويظل الخيال يتمثل تلك المحاولة العنيفة الغليظة، وتلك الصورة الساخرة الهازئة: صورة العجل يدخل في القلوب إدخالا، ويحشر فيها حشرا، حتى ليكاد ينسى المعنى الذهني الذي جاءت هذه الصورة المجسمة لتؤديه، وهو حبهم الشديد لعبادة العجل، حتى لكأنهم أشربوه إشرابا في القلوب! هنا تبدو قيمة التعبير القرآني المصور، بالقياس... إنه التصوير.. السمة البارزة في التعبير القرآني الجميل.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

إبطال لدعوى قارة في نفوسهم اقتضاها قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} [البقرة: 91] الذي أرادوا به الاعتذار عن إعراضهم عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم بعذر أنهم متصلبون في التمسك بالتوراة لا يعدونها وأنهم بذلك استحقوا محبة الله إياهم وتكون الآخرة لهم، فلما أبطلت دعوى إيمانهم بما أنزل عليهم بإلزامهم الكذب في دعواهم بسند ما أتاه سلفهم وهم جدودهم من الفظائع مع أنبيائهم والخروج عن أوامر التوراة بالإشراك بالله تعالى بعبادة العجل، عقب ذلك بإبطال ما في عقائدهم من أنهم أهل الانفراد برحمة الله ما داموا متمسكين بالتوراة وأن من خالفها لا يكون له حظ في الآخرة، وارتكب في إبطال اعتقادهم هذا طريقة الإحالة على ما عقدوا عليه اعتقادهم من الثقة بحسن المصير أو على شكهم في ذلك، فإذا ثبت لديهم شكهم في ذلك علموا أن إيمانهم بالتوراة غير ثابت على حقه وذلك أشد ما يفت في أعضادهم ويسقط في أيديهم لأن ترقب الحظ الأخروي أهم ما يتعلق به المعتقد المتدين فإن تلك هي الحياة الدائمة والنعيم المقيم. فهذه الآية تحدت اليهود كما تحدى القرآن مشركي العرب بقوله: {فأتوا بسورة من مثله} [البقرة: 23]. وإنما فصلت هاته الجملة عما قبلها لاختلاف السياق لأن هذه الآية إلقاء حجة عليهم والآيات السابقة تفظيع لأحوالهم وإن كان في كل من ذلك احتجاج لكن الانتقال من أسلوب إلى أسلوب كان محسناً للفصل دون العطف لا سيما مع افتتاح الاحتجاج ب"قل".

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

وهنا إشارة بيانية يحسن التنبيه إليها:

الأولى: في كلمة {لكم} فيها اللام المفيدة للملكية أو الاختصاص، وقد ابتدأ بها بيانا لدعمهم، ولذلك جاء بعدها خالصة لكم من دون الناس.

الثانية: الإشارة إلى أن الدار الآخرة هي عند الله تعالى مالك يوم الدين، وهو الذي تدعون أنكم أبناؤه وأحباؤه ومع ذلك تكفرون به وتتخذون العجل تشركون وتعبدونه.

الثالثة: الإشارة إلى أنهم ليسوا صادقين، بل هم كاذبون؛ ولذلك كانت أداة التعليق إن في قوله: {إن كنتم صادقين} ولهذا نفى الله سبحانه أن يتمنوه.

تنبيه: يلاحظ أن الله تعالى أمر نبيه بأن يتولى الرد عليهم في قوله تعالى: {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا (90)} [البقرة] وقوله تعالى: {قل بئسما يأمركم به إيمانكم... (93)} [البقرة] وفي قوله تعالى: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله}. لم يتول الله تعالى الرد والجدل معهم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى الجدل معهم فما الحكمة في ذلك؟

نقول ما تصل إليه مداركنا – والله هو الحكيم العليم – إن مجادلتهم التي فيها التحدي كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم فناسب أن يتولى بأمر الله تعالى الرد هو عليه الصلاة والسلام؛ ولأن مقام الله تعالى أعلى من أن ينزل لمجادلة الكافرين الظالمين لأنفسهم...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

بعد أن ذكرهم الله سبحانه وتعالى بكفرهم بعبادتهم للعجل.. وكان هذا نوعا من التأنيب الشديد والتذكير بالكفر... أراد أن يؤنبهم مرة أخرى وأن يذكرهم أنهم آمنوا خوفا من وقوع جبل الطور عليهم... ولم يكن الجبل سيقع عليهم... لأن الله لا يقهر أحدا على الإيمان... ولكنهم بمجرد أن رأوا جبل الطور فوقهم آمنوا... مثلهم [في ذلك] كالطفل الذي وصف له الطبيب دواء مرا ليشفي ولذلك فإن رفع الله سبحانه وتعالى لجبل الطور فوقهم ليأخذوا الميثاق والمنهج... لا يقال إنه فعل ذلك إرغاما لكي يؤمنوا... إنه إرغام المحب... يريد الله من خلقه ألا يعيشوا بلا منهج سماوي فرفع فوقهم جبل الطور إظهارا لقوته وقدرته تبارك وتعالى حتى إذا استشعروا هذه القوة الهائلة وما يمكن أن تفعله لهم وبهم آمنوا...

الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتهم إلى أنه لم يترك حيلة من الحيل حتى يتلقى بنو إسرائيل منهج الله الصحيح... لكن غريزة الاستكبار والعناد منعتهم أن يستمروا على الإيمان.

{ميثاقكم}. هل الميثاق منهم أو هو ميثاق الله؟. طبعا هو ميثاق الله... ولكن الله جل جلاله خاطبهم بقوله: {ميثاقكم} لأنهم أصبحوا طرفا في العقد... وما داموا قد أصبحوا طرفا أصبح ميثاقهم... ولابد أن نؤمن أن رفع جبل الطور فوق اليهود لم يكن لإجبارهم لأخذ الميثاق منهم حتى لا يقال أنهم أجبروا على ذلك... هم اتبعوا موسى قبل أن يرفع فوقهم جبل الطور...فلابد أنهم أخذوا منهجه باختيارهم وطبقوه باختيارهم لأن الله سبحانه وتعالى لم يبق الطور مرفوعا فوق رءوسهم أينما كانوا طوال حياتهم حتى يقال أنهم أجبروا... فلو أنهم أجبروا لحظة وجود جبل الطور فوقهم... فإنهم بعد أن انتهت هذه المعجزة لم يكن هناك ما يجبرهم على تطبيق المنهج... ولكن المسألة أن الله تبارك وتعالى... حينما يرى من عباده مخالفة فإنه قد يخيفهم... وقد يأخذهم بالعذاب الأصغر علهم يعودون إلى إيمانهم... وهذا يأتي من حب الله لعباده لأنه يريدهم مؤمنين...

ولكن اليهود قوم ماديون لا يؤمنون إلا بالمادة والله تبارك وتعالى أراد أن يريهم آية مادية على قلوبهم تخشع وتعود إلى ذكر الله...

{خذوا ما آتيناكم بقوة} لأن ما يؤخذ بقوة يعطى بقوة... والأخذ بقوة يدل على عشق الآخذ للمأخوذ... ومادام المؤمن يعشق المنهج فإنه سيؤدي مطلوباته بقوة... فالإنسان دائما عندما يأخذ شيئا لا يحبه فإنه يأخذه بفتور وتهاون.

{واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا}... القول هو عمل اللسان والفعل للجوارح كلها ما عدا اللسان... القول أن تنطق بلسانك والفعل أن تقوم جوارحك بالتنفيذ...والعمل أن يطابق القول الفعل...

هم: {قالوا سمعنا وعصينا}... قالوا سمعنا في القول وفي الفعل عصينا.. وليس معنى ذلك أنهم قالوا بلسانهم عصينا في الفعل... فالمشكلة جاءت من عطف عصينا على سمعنا... فتحسب أنهم قالوا الكلمتين... و [ليس الأمر كذلك] [ف] هم قالوا سمعنا ولكنهم لم ينفذوا فلم يفعلوا والله سبحانه وتعالى يريدهم أن يسمعوا سماع طاعة لا سماع تجرد أي مجرد سماع... ولكنهم سمعوا ولم يفعلوا شيئا [فكان] عدم فعلهم معصية.

{وأشربوا في قلوبهم العجل}. الحق تبارك وتعالى يريد أن يصور لنا ماديتهم.. فالحب أمر معنوي وليس أمراً مادياً لأنه غير محسوس.. وكان التعبير يقتضي أن يقال وأشربوا حب العجل... ولكن الذي يتكلم هو الله... يريد أن يعطينا الصورة الواضحة الكاملة في أنهم أشربوا العجل ذاته أي دخل العجل إلى قلوبهم. لكن كيف يمكن أن يدخل العجل في هذا الضيق وهو القلب...الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى الشيوع في كل شيء بكلمة أشربوا... لأنها وصف لشرب الماء والماء يتغلغل في كل الجسم...والصورة تعرب عن تغلغل المادية في قلوب بني إسرائيل حتى كأن العجل دخل في قلوبهم وتغلغل كما يدخل الماء في الجسم مع أن القلب لا تدخله الماديات...

(94- *** قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ***)