أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنبأنا أبو علي زاهر بن أحمد الطوسي ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه { أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فسأله عمر عن شيء فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، فقال عمر : ثكلتك أمك يا عمر كررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، كل ذلك لا يجيبك ، قال عمر فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس ، وخشيت أن ينزل في قرآن ، فما لبثت أن سمعت صارخا يصرخ بي فقلت : لقد خشيت ان يكون نزل في قرآن ، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه ، فقال : لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ، ثم قرأ : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } " . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو عمر بكر بن محمد المزني ، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله حفيد العباس بن حمزة ، حدثنا الحسين بن الفضل البجلي ، حدثنا أنس ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، حدثنا عفان قال : " نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } إلى آخر الآية ، مرجعه من الحديبية وأصحابه مخالطهم الحزن والكآبة ، فقال : نزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعاً ، فلما تلاها نبي الله صلى الله عليه وسلم قال رجل من القوم : هنيئاً مريئاً قد بين الله ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فأنزل الله الآية التي بعدها : { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } حتى ختم الآية .
قوله تعالى : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } اختلفوا في هذا الفتح : وروي عن أبي جعفر الرازي عن قتادة عن أنس : أنه فتح مكة ، وقال قتادة : فتح خيبر . والأكثرون على أنه صلح الحديبية . ومعنى الفتح فتح المنغلق ، والصلح مع المشركين بالحديبية كان متعذراً حتى فتحه الله عز وجل . وروى شعبة عن قتادة عن أنس : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } قال : صلح الحديبية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحاً ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان ، يوم الحديبية كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة ، والحديبية بئر ، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها : غير بعيد ، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا " . وقال الشعبي في قوله :{ إنا فتحنا لك فتحاً مبينا } ، قال : فتح الحديبية ، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وأطعموا نخل خيبر ، وبلغ الهدي محله ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس . قال الزهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم ، أسلم في ثلاث سنين خلق كثير ، وكثر بهم سواد الإسلام . قوله عز وجل : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } أي : قضينا لك قضاءً بيناً . وقال الضحاك : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً بغير قتال ، وكان الصلح في قوله :{ ليغفر } .
1- سورة الفتح من السور المدنية ، وعدد آياتها تسع وعشرون آية ، وكان نزولها في أعقاب صلح الحديبية .
قال ابن كثير –رحمه الله- : نزلت سورة " الفتح " لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة ، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ، ليقضي عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة . . . ( {[1]} ) .
2- والمتدبر للقرآن الكريم ، يرى كثيرا من آياته وسوره ، في أعقاب بعض الغزوات ، ليتعلم المسلمون من تلك الآيات والسور ما ينفعهم وما يصلح من شأنهم .
فمثلا في أعقاب غزوة " بدر " نزلت سورة الأنفال التي سماها ابن عباس سورة بدر .
وفي أعقاب غزوة " أحد " نزلت عشرات الآيات في سورة آل عمران .
وفي أعقاب غزوة " بني النضير " نزلت آيات من سورة الحشر .
وفي أعقاب غزوة " الأحزاب " نزلت آيات من سورة الأحزاب .
وفي أعقاب صلح الحديبية نزلت هذه السورة الكريمة ، التي تحكي الكثير من الأحداث التي تتعلق بهذا الصلح .
3- وقبل أن نبدأ في تفسير هذه السورة الكريمة ، نرى من الخير أن نعطي للقارئ فكرة واضحة عن صلح الحديبية ، التي نزلت في أعقابه هذه السورة . . فنقول –وبالله التوفيق- :
رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه أنه قد دخل المسجد الحرام هو وأصحابه ، وقد صرحت السورة الكريمة بذلك في قوله –تعالى- : [ لقد صدق الله رسول الرؤيا بالحق ، لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون . . . ] فقص صلى الله عليه وسلم هذه الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا بها . وكان المشركون قد منعوهم من دخول مكة ، ومن الطواف بالمسجد الحرام .
4- وخرج صلى الله عليه وسلم ومعه حوالي أربعمائة وألف من أصحابه ، ليس معهم من السلاح سوى السيوف في أغمادها ، وساقوا معهم الهدى الذي يتقربون بذبحه إلى الله –تعالى- ليكون دليلا على أنهم لا يريدون حرب قريش ، وإنما يريدون الطواف بالبيت الحرام .
وسار صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فلما وصل إلى " عُسْفَان " وهو مكان بين مكة والمدينة –جاءه بشر بن سفيان العكبي وكان مكلفا من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم لمعرفة أخبار قريش فقال : يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العُوذُ المطَافِيلُ –أي : ومعهم الإبل التي لم تلد ، والإبل التي ولدت ، قد لبسوا جلود النمور –أي : قد استعدوا لقتالك وقد نزلوا بِذِي طَوىً –وهو مكان بالقرب من مكة- ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا . .
فقال صلى الله عليه وسلم : " يا ويح قريش ! ! لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم ، دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ؟ فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به ، حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة " أي أو أن أقتل في سبيل الله .
ثم قال صلى الله عليه وسلم : " مَن رجلُ يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها " ؟ .
فقال رجل من قبيلة أسلم : أنا يا رسول الله ، فسلك بهم طريقا وعرا ، انتهى يهم إلى " الحديبية " وهي قرية على بعد مرحلة من مكة ، أو هي بئر سمى المكان بها .
5- وفي هذا المكان بركت القصواء –وهي الناقة التي كان يركبها النبي صلى الله عليه وسلم فقال الناس : خلأت الناقة أي : حرنت وأبت المشي - ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ما خلأت وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة . لا تدعوني قريش إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها " .
ثم أمر صلى الله عليه وسلم الناس بالنزول في هذا المكان . .
6- وعلمت قريش بنزول الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحديبية ، فبدأوا يرسلون رسلهم لمعرفة الأسباب التي حملت المسلمين إلى المجيء إليهم .
وكان من بين الرسل بُدَيل بن ورقاء الخزاعي . . فلما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن سبب مجيئه إلى مكة ، أخبره أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت الحرام ، ومعظما لحرمته . .
وعاد بديل إلى مكة ، وأخير المشركين بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنهم لم يقتنعوا ، وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا . والله لا يدخلها علينا عنوة أبدا . . .
7- ثم أرسلت قريش رسلا آخرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان من بينهم ، عروة بن مسعود الثقفي . . فكان مما قاله للرسول صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، أجمعت أوشاب الناس –أي : أخلاطهم- ثم جئت بهم إلى أهلك . . إن قريشا قد تعاهدت أنك لن تدخل عليهم مكة عنوة . .
وكان عروة خلال حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يمد يده إلى لحيته صلى الله عليه وسلم فكان المغيرة ابن شعبة يقرع يد عروة ويقول له : اكفف يداك عن وجه رسول الله قبل أن لا تصل إليك .
وشاهد عروة ما شاهد من احترام المسلمين لرسولهم صلى الله عليه وسلم فعاد إلى المشركين وقال لهم : يا معشر قريش ، إني قد جئت كسرى في ملكه ، والنجاشي في ملكه ، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا ، فروا رأيكم . .
8- ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش عثمان بن عفان –رضي الله عنه- لكي يخبرهم بأن المسلمين ما جاءوا لحرب ، وإنما جاءوا للطواف بالبيت .
وذهب إليهم عثمان وأخبرهم بذلك ، ولكنهم صمموا على منع المسلمين من دخول مكة ، قالوا لعثمان : إن شئت أنت أن تطوف بالبيت فطف .
فقال لهم : ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال مكث عثمان عند قريش ، حتى أشبع بين المسلمين أنه قد قتله المشركون .
فقال صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن عثمان قد قتل : " لا نبرح حتى نناجز القوم " ودعا المسلمين إلى مبايعته على الموت ، فبايعه المسلمون على ذلك تحت شجرة الرضوان . . .
ثم جاء عثمان بعد ذلك دون أن يصيبه أذى . . .
9- وأخيرا أوفدت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا منهم اسمه سهيل بن عمرو ، ليعقد صلحا مع المسلمين ، وقالوا له : أنت محمدا فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فوالله لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا . .
وعندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سهيلا مقبلا نحوه ، قال لأصحابه : لقد سهل الله لكم من أمركم ، إن قريشا أرادت الصلح حين بعث هذا الرجل .
وتم الصلح بين الفريقين على ما يأتي :
أولا : أن يرجع المسلمون دون زيارة البيت هذا العام ، فإذا كان العام التالي : أخلت قريش لهم مكة ثلاثة أيام ، ليطوفوا بالبيت ، وليس معهم إلا السيوف في غمدها . .
ثانيا : أن تضع الحرب أوزارها بين الطرفين عشر سنوات .
ثالثا : من أتى الرسول صلى الله عليه وسلم من قريش مسلما بغير إذن وليه رده إليهم ، ومن أتى قريش من المسلمين لم يردوه .
رابعا : من أحب أن يدخل في عقد مع الرسول صلى الله عليه وسلم فله ما أراد . ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فله ذلك .
ولقد عز على بعض المسلمين قبول الرسول صلى الله عليه وسلم فله ما أراد . ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فله ذلك .
ولقد عز على بعض المسلمين قبول الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الشروط ، التي ظاهرها الظلم للمسلمين ، حتى قال عمر –رضي الله عنه- للرسول صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري " .
ثم أشار صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين أن يتحللوا من عمرتهم ، بأن ينحروا هديهم ، وأن يحلقوا رءوسهم أو يقصروا . ولكنهم لم يسارعوا بالامتثال ، فدخل صلى الله عليه وسلم على زوجه أم سلمة –رضي الله عنها- ، وقد ظهر الغضب على وجهه .
فقالت له : يا رسول الله ، اعذرهم ، وابدأ بما تأمرهم به دون أن تكلم منهم أحدا .
فقام صلى الله عليه وسلم فنحر هديه ، ودعا حالقه فحلق له ، فلما رأى المسلمون ذلك من نبيهم ، قاموا فنحروا هديهم ، وجعل بعضهم يحلق بعضا .
ثم أقام المسلمون بعد ذلك عدة أيام بالحديبية ، ثم قفلوا راجعين إلى المدينة ، وعندما سمع صلى الله عليه وسلم بعضهم يقول : لقد رجعنا ولم نصنع شيئا . .
قال صلى الله عليه وسلم " بل فتحتم أعظم الفتح " .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله هذا . فقد كان صلح الحديبية فتحا عظيما ، كما تبين ذلك عند تفسيرنا للسورة الكريمة .
وبهذا العرض المجمل لأحداث صلح الحديبية ، نكون قد أعطينا القارئ فكرة مركزة عن هذا الصلح ، وعن الجو العام الذي نزلت في أعقابه سورة الفتح ، ومن أراد المزيد لمعرفة أحداث صلح الحديبية فليرجع إلى كتب السيرة( {[2]} ) .
افتتحت سورة " الفتح " بهذه البشارات السامية ، والمدائح العالية للنبى - صلى الله عليه وسلم - افتتحت بقوله - تعالى - : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } .
والفتح فى الأصل : إزالة الأغلاق عن الشئ . . وفتح البلد : المقصود به الظفر به ، ووقوعه تحت سيطرة الفاتح .
والذى عليه المحققون من العلماء أن المراد بالفتح هنا : صلح الحديبية وما ترتب عليه من خيرات كثيرة ، ومنافع جمة للمسلمين .
ويشهد لذلك أحاديث متعددة منها : ما أخرجه البخارى وأبو داود والنسائى عن ابن مسعود قال : أقبلنا من الحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان قد خرج إليها - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين هلال ذى القعدة ، فأقام بها بضعة عشر يوما ، ثم قفل راجعا إلى المدينة ، فينما نحن نسير إلى المدينة إذ أتاه الوحى - وكان إذا أتاه اشتد عليه - فسرى عنه وبه من السرور ما شاء الله ، فأخبرنا أنه أنزل عليه : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } .
وروى الإِمام أحمد وأبو داود عن مجمع بن جارية الأوسى قال : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا منها وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا عند كراع الغميم - موضع بين مكة والمدينة - وقد جمع الناس وقرأ عليهم : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } الآيات .
فقال رجل : يا رسول الله ، أو فتح هو ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : أو والذى نفسى بيده إنه لفتح .
ويرى بعضهم : أن المراد بالفتح هنا : فتح مكة ، والتعبير عنه بالماضى فى قوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } لتحقق الوقوع ، فهو من قبيل قوله - تعالى - : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . . . } ويبدو لنا أن المراد بالفتح هنا صلح الحديبية لوجود اللآثار الصحيحة التى تشهد لذلك ، ولأن هذا الصلح قد ترتب عليه من المنافع للدعوة الإِسلامية ما يجعله من أعظم الفتوح ، إن لم يكن أعظمها .
لقد ترتب عليه أن انتشر الأمان بين المسلمين والمشركين ، فاستطاع المسلمون أن ينشروا دعوة الحق فى مكة وفى غيرها ، كما استطاعوا أن ينتقلوا من مكان إلى آخر للتبشير بدينهم ، فترتب على ذلك أن دخل فى الإِسلام عدد كبير من الناس .
قال الزهرى : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين ، فسمعوا كلامهم ، وتمكن الإِسلام من قلوبهم ، وأسلم خلق كثير ، وكثر بهم سواد الإِسلام .
قال ابن هشام : والدليل على صحة قول الزهرى ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الحديبية فى الف وأربعمائة من أصحابه ثم خرج إلى مكة فى عام الفتح - بعد ذلك بسنتين - فى عشرة آلاف من أصحابه .
وقد أكد - سبحانه - هذا الفتح بثلاثة أنواع من المؤكدات ، وهى " إن " والمصدر " فتحا " والوصف " مبينا " وذلك للمسارعة إلى تبشير المؤمنين بتحقق هذا الفتح ، ولإِدخال السرور على قلوبهم ، بعد تلك الشروط التى اشتمل عليها الصلح ، والتى ظنها بعضهم أن فيها إجحافا بالمسلمين .
وأسند - سبحانه - الفعل إلى نون العظمة { فَتَحْنَا } لتفخيم شأن المخبر - عز وجل - وعلو شأن المخبَر عنه وهو الفتح .
وقدم - سبحانه - الجار والمجرور { لَكَ } على المفعول المطلق { فَتْحاً } للاهتمام وللإِشعار بأن ذلك الفتح كان من أجله - صلى الله عليه وسلم - وفى ذلك ما فيه من تعظيم أمره - صلى الله عليه وسلم - ومن وجوب طاعته ، والامتثال لأمره .
سورة الفتح مدنية وآياتها تسع وعشرون
هذه السورة مدنية ، نزلت في السنة السادسة من الهجرة ، عقب صلح الحديبية ؛ وهي تتناول هذا الحادث الخطير وملابساته ؛ وتصور حال الجماعة المسلمة وما حولها في إبانه : فبين وقت نزولها ووقت نزول سورة " محمد " التي تسبقها في ترتيب المصحف ، نحو من ثلاث سنوات ، تمت فيها تغيرات هامة وخطيرة في أحوال الجماعة المسلمة في المدينة . تغيرات في موقفها وموقف المناوئين لها ، وتغيرات أهم في حالتها النفسية وصفتها الإيمانية ، واستوائها على المنهج الإيماني في إدراك ونضج عميق .
وقبل أن نتحدث عن السورة وجوها ودلالتها يحسن أن نمر بصورة للحادث الذي نزلت بصدده . لنعيش في الجو الذي كان المسلمون يعيشون فيه ، وهم يتلقون هذا التنزيل الكريم :
لقد أري رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في منامه أنه يدخل الكعبة هو والمسلمون محلقين رؤوسهم ومقصرين . وكان المشركون قد منعوهم منذ الهجرة من دخول مكة ، حتى في الأشهر الحرم التي يعظمها العرب كلهم في الجاهلية ، ويضعون السلاح فيها ؛ ويستعظمون القتال في أيامها ، والصد عن المسجد الحرام . حتى أصحاب الثارات كانوا يتجمعون في ظلال هذه الحرمة ، ويلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فلا يرفع في وجهه سيفا ، ولا يصده عن البيت المحرم . ولكنهم خالفوا عن تقاليدهم الراسخة في هذا الشأن ؛ وصدوا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمين معه طوال السنوات الست التي تلت الهجرة . حتى كان العام السادس الذي أريفيه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هذه الرؤيا . وحدث بها أصحابه - رضوان الله عليهم - فاستبشروا بها وفرحوا .
ورواية ابن هشام لوقائع الحديبية هي أوفى مصدر نستند إليه في تصورها . وهي في جملتها تتفق مع رواية البخاري ورواية الإمام أحمد ومع تلخيص ابن حزم في جوامع السيرة وغيرهم .
قال ابن إسحاق : ثم أقام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بالمدينة شهر رمضان وشوالا " بعد غزوة بني المصطلق وما جاء في أعقابها من حديث الإفك " وخرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا . واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه ؛ وهو يخشى من قريش الذي صنعوا أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت . فأبطأ عليه كثير من الأعراب . وخرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بمن معه من المهاجرين والأنصار ، ومن لحق به من العرب ؛ وساق معه الهدي ، وأحرم بالعمرة ، ليأمن الناس من حربه ، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له .
قال : وكان جابر بن عبد الله - فيما بلغني - يقول : كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة .
قال الزهري : وخرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي . فقال : يا رسول الله ! هذه قريش قد سمعت بمسيركَ ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ؛ وقد نزلوا بذي طوى ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا . وهذا خالد بن الوليد في خيلهم ، قد قدموها إلى كراع الغميم . قال : فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا ويح قريش ! لقد أكلتهم الحرب . ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ? فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة . فما تظن قريش ? فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله ، أو تنفرد هذه السالفة " . ثم قال : " من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ? " . .
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر ، أن رجلا من أسلم قال : أنا يا رسول الله . قال : فسلك بهم طريقا وعرا أجرل بين شعاب . فلما خرجوا منه - وقد شق ذلك على المسلمين - وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي ، قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] للناس : " قولوا نستغفر الله ونتوب إليه " . فقالوا ذلك . فقال : " والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل ، فلم يقولوها "
قال ابن شهاب الزهري : فأمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الناس فقال : " اسلكوا ذات اليمين " بين ظهري الحمض في طريق على ثنية المرار ، مهبط الحديبية من أسفل مكة ؛ قال : فسلك الجيش ذلكالطريق . فلما رأت خيل قريش قترة الجيش ، قد خالفوا عن طريقهم ، رجعوا راكضين إلى قريش . وخرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته . فقال الناس : خلأت الناقة . فقال : " ما خلأت . وما هو لها بخلق . ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة . لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها " - [ وفي رواية البخاري ] : " والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها " . ثم قال للناس : " انزلوا " قيل له : يا رسول الله ، ما بالوادي ماء ينزل عليه . فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه . فنزل في قليب من تلك القلب ، فغرزه في جوفه ، فجاش بالرواء . .
فلما اطمأن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي ، في رجال من خزاعة ، فكلموه ، وسألوه ما الذي جاء به ? فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا ، وإنما جاء زائرا للبيت ، ومعظما لحرمته . ثم قال لهم نحوا مما قال لبشر بن سفيان ؛ فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش ، إنكم تعجلون على محمد . إن محمدا لم يأت لقتال ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت . فاتهموهم وجبهوهم ، وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا . فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ، ولا تحدث بذلك عنا العرب .
وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مسلمها ومشركها ، لا يخفون عنه شيئا كان بمكة . ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بني عامر بن لؤي . فلما رآه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ] مقبلا قال : " هذا رجل غادر " . فلما انتهى إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وكلمه ، قال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] نحوا مما قال لبديل وأصحابه ؛ فرجع إلى قريش ، فأخبرهم بما قال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان . وكان يومئذ سيد الأحابيش ، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة . فلما رآه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال : " إن هذا من قوم يتألهون - يعني يتعبدون - فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه " . فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده ، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، رجع إلى قريش ، ولم يصل إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إعظاما لما رأى . فقال لهم ذلك . فقالوا له : إجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك !
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن الحليس غضب عند ذلك . وقال : يا معشر قريش ، والله ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم . أيصد عن بيت الله من جاء معظما له ? والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له ، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد . قال : فقالوا له : مه . كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به .
قال الزهري : ثم بعثوا إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عروة بن مسعود الثقفي فقال : يا معشر قريش ، إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم ، من التعنيف وسوء اللفظ . وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد - وكان نسبه لأمه في بني عبد شمس - وقد سمعت بالذي نابكم ، فجمعت من أطاعني منقومي ، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي . قالوا : صدقت ، ما أنت عندنا بمتهم . فخرج حتى جاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فجلس بين يديه . ثم قال : يا محمد . أجمعت أوشاب الناس ، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم ? إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا . وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا . قال : وأبو بكر خلف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قاعد . فزجره وقال : أنحن نكشف عنه ? قال : من هذا يا محمد ? قال : " هذا ابن أبي قحافة " . قال . أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها . ولكن هذه بها . قال : ثم جعل يتناول لحية رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يكلمه . قال : والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في الحديد . قال : فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويقول : أكفف يدك عن وجه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قبل أن لا تصل إليك ! قال : فيقول عروة : ويحك ! ما أفظك وأغلظك ! قال : فتبسم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال له عروة : من هذا يا محمد ? قال : " هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة " . قال : أي غُدَر . وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس ?
قال ابن هشام : أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف ، فتهايج الحيان من ثقيف : بنو مالك رهط المقتولين . والأحلاف رهط المغيرة . فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية . وأصلح ذلك الأمر .
قال ابن إسحاق : قال الزهري : فكلمه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بنحو مما كلم أصحابه ، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا . فقام من عند رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقد رأى ما يصنع به أصحابه : لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه ، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه . فرجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش ، إني جئت كسرى في ملكه ، وقيصر في ملكه ، والنجاشي في ملكه ؛ وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا . فروا رأيكم .
قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أهل العلم ، أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة ، وحمله على بعير له يقال له : الثعلب . ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له . فعقروا به جمل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، فخلوا سبيله حتى جاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] .
قال ابن إسحاق : وحدثني بعض من لا أتهم ، عن عكرمة مولى ابن عباس [ عن ابن عباس ] أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم ، أو خمسين رجلا ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا . فأخذوا أخذا ، فأتي بهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فعفا عنهم ، وخلى سبيلهم . وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بالحجارة والنبل .
ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له . فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني . وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها . ولكني أدلك على رجل أعز بها مني . عثمان بن عفان . فدعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عثمان ابن عفان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته .
قال ابن إسحاق : فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص ، حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها ؛ فحمله بين يديه ، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، فبلغهم عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ما أرسله به ؛ فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف . فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل .
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر ، أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال - حين بلغه ان عثمان قد قتل - : " لا نبرح حتى نناجز القوم " . فدعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الناس إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة . فكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على الموت . وكان جابر بن عبد الله يقول : إن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لم يبايعنا على الموت ، ولكن بايعنا على أن لا نفر . فبايع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الناس ، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة . فكان جابر بن عبد الله يقول : والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ إليها ، يستتر بها من الناس . ثم أتى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل .
قال ابن هشام : وحدثني من أثق به ، عمن حدثه بإسناد له ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عمر ، أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بايع لعثمان ، فضرب بإحدى يديه على الأخرى .
قال ابن إسحاق : قال الزهري : ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقالوا له : إيت محمدا فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فو الله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا . فأتاه سهيل بن عمرو ، فلما رآه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مقبلا قال : - " قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل " . فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] تكلم فأطال الكلام . وتراجعا . ثم جرى بينهما الصلح .
فلما التأم الأمر ، ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر ، أليس برسول الله ? قال : بلى ! قال : أولسنا بالمسلمين ? قال : بلى ! قال : أوليسوا بالمشركين ? قال : بلى ! قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ? قال أبو بكر : يا عمر ، الزم غرزه ، فإني أشهد أنه رسول الله . قال عمر : وأنا أشهد انه رسول الله . ثم أتى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : يا رسول الله ، ألست برسول الله ? قال : بلى ! قال : أولسنا بالمسلمين ? قال : بلى ! قال : أو ليسوا بالمشركين ? قال : بلى ! قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ? قال : " أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ، ولن يضيعني " . قال : فكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ ، مخافة كلامي الذي تكلمت به ، حين رجوت أن يكون خيرا .
قال : ثم دعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - فقال : " اكتب باسم الله الرحمن الرحيم " قال : فقال سهيل : لا أعرف هذا ، ولكن اكتب باسمك اللهم . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] " اكتب باسمك اللهم " فكتبها . ثم قال : " اكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو " . قال : فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ؛ ولكن اكتب اسمك واسم أبيك . قال : فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله . سهيل بن عمرو . اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيهن الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليه ، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه ، وأن بيننا عيبة مكفوفة ، وأنه لا إسلال ولا إغلال ، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه - فتواثبت خزاعة فقالوا : نحن في عقد محمد وعهده ، وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقدة قريش وعهدهم - وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة ، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك ، فدخلتها بأصحابك ، فأقمت بها ثلاثا ، معك سلاح الراكب : السيوف في القرب ، لا تدخلها بغيرها . "
فبينا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو ، إذ جاء أبو جندل بن سهيل ابن عمرو يرسف في الحديد ، قد انفلت إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقد كان أصحاب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خرجوا وهم لا يشكون في الفتح ، لرؤيا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع ، وما تحمل عليه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه ، ثم قال : يا محمد ، قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا . قال : " صدقت " فجعل ينتره بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني ? فزاد الناس إلى ما بهم . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا أبا جندل ، اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا ، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله ، وإنا لا نغدر بهم " . قال : فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ، ويقول : اصبر يا أبا جندل ، فإنما هم المشركون ، وإنما دم أحدهم دم كلب . قال : ويدني قائم السيف منه . قال : يقول عمر : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه . قال : فضن الرجل بأبيه ، ونفذت القضية .
فلما فرغ من الكتاب أشهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين : أبو بكر الصديق ، عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن سهيل بن عمرو ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمود بن مسلمة ، ومكرز بن حفص [ وهو يومئذ مشرك ] وعلي بن أبي طالب ، وكتب ، وكان هو كاتب الصحيفة .
قال الزهري : فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لأصحابه : " قوموا فانحروا ثم احلقوا " قال : فو الله ما قام منهم رجل ، حتى قال [ صلى الله عليه وسلم ] ذلك ثلاث مرات . فلما لم يقم منهم أحد دخل - صلى الله عليه وآله وسلم - على أم سلمة - رضي الله عنها - فذكر لها ما لقي من الناس . قالت [ أم سلمة ] - رضي الله عنها - : يا نبي الله ، أتحب ذلك ? أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلقك . فخرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بيده ، ودعا حالقه فحلقه . فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما .
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس . قال : حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " يرحم الله المحلقين " . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ? قال : " يرحم الله المحلقين " . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ? قال : " يرحم الله المحلقين " . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ? قال : " والمقصرين " . فقالوا يا رسول الله ، فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين ? قال : " لم يشكوا " . .
قال الزهري في حديثه . . ثم انصرف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من وجهه ذلك قافلا . حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح .
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن مجمع بن حارثة الأنصاري - رضي الله عنه - وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن . قال : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر ، فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس ? قالوا أوحي إلى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - فخرجنا مع الناس نوجف . فإذا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) . . قال : فقال رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : أي رسول الله أو فتح هو ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح " . .
وروى الإمام أحمد بإسناده - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : كنا مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في سفر . قال : فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد علي . قال : فقلت ثكلتك أمك يابن الخطاب . ألححت . كررت على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ثلاث مرات ، فلم يرد عليك ! قال : فركبت راحلتي ، فحركت بعيري ، فتقدمت ، مخافة أن يكون نزل في شيء . قال : فإذا أنا بمناد يا عمر . قال : فرجعت وأنا أظن أنه نزل في شيء . قال : فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " . . [ ورواه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك رحمه الله ] . .
هذا هو الجو الذي نزلت فيه السورة . الجو الذي اطمأنت فيه نفس الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى إلهام ربه ، فتجرد من كل إرادة إلا ما يوحيه هذا الإلهام العلوي الصادق ؛ ومضى يستلهم هذا الإيحاء في كل خطوة وفي كل حركة ، لا يستفزه عنه مستفز ، سواء من المشركين أو من أصحابه الذين لم تطمئن نفوسهم في أول الأمر لقبول استفزاز المشركين وحميتهم الجاهلية . ثم أنزل الله السكينة في قلوبهم ، ففاءوا إلى الرضى واليقين والقبول الخالص العميق ؛ كإخوانهم الذين كانوا على هذه الحال منذ أول الأمر ، شأن الصديق أبي بكر الذي لم تفقد روحه لحظة واحدة صلتها الداخلية المباشرة بروح رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]
ومن ثم بقيت على اطمئنانها دائما ، ولم تفارقها الطمأنينة أبدا .
ومن ثم جاء افتتاح السورة بشرى لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فرح لها قلبه الكبير فرحا عميقا : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما . وينصرك الله نصرا عزيزا ) .
كما جاء في الافتتاح ، الامتنان على المؤمنين بالسكينة ، والاعتراف لهم بالإيمان السابق وتبشيرهم بالمغفرة والثواب ، وعون السماء بجنود الله : ( هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا - مع إيمانهم - ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ، ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، ويكفر عنهم سيئاتهم ، وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ) . . ذلك مع ما أعده لأعدائهم من المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات من غضب وعذاب : ( ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ، الظانين بالله ظن السوء ، عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم ، وأعد لهم جهنم ، وساءت مصيرا ) . .
ثم التنويه ببيعة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] واعتبارها بيعة لله ؛ وربط قلوب المؤمنين مباشرة بربهم عن هذا الطريق ، بهذا الرباط المتصل مباشرة بالله الحي الباقي الذي لا يموت : ( إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا . إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ، يد الله فوق أيديهم ، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) .
وبمناسبة البيعة والنكث يلتفت - قبل إكمال الحديث عن المؤمنين ومواقفهم في الحديبية - إلى الأعراب الذين تخلفوا عن الخروج ، فيفضح معاذيرهم ، ويكشف ما جال في خواطرهم من سوء الظن بالله ، ومن توقع السوء للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه . ويوجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى ما ينبغي أن يكون موقفه منهم في المستقبل . وذلك في أسلوب يوحي بقوة المسلمين وضعف المخلفين ، كما يوحي بأن هنالك غنائم وفتوحا قريبة يسيل لها لعاب المخلفين المتباطئين :
سيقول لك المخلفون من الأعراب : شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا ، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، قل : فمن يملك لكم من الله شيئا ، إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا ? بل كان الله بما تعملون خبيرا . بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا ، وزين ذلك في قلوبكم ، وظننتم ظن السوء ، وكنتم قوما بورا . ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا . ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ، ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما . سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها : ذرونا نتبعكم ، يريدون أن يبدلوا كلام الله ، قل : لن تتبعونا . كذلكم قال الله من قبل . فسيقولون : بل تحسدوننا . بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا . قل للمخلفين من الأعراب : ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون ، فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا ، وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما .
وفي هذا الصدد يبين المعذورين إذا تخلفوا ، والمعفين من الجهاد لعجزهم عنه ، وهو العذر الوحيد : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ، ولا على المريض حرج ، ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ، ومن يتول يعذبه عذابا أليما . .
وبعد هذه اللفتة يعود سياق السورة للحديث عن المؤمنين ومواقفهم وخوالج نفوسهم ؛ حديثا كله رضى وشفافية ووضاءة وتكريم ؛ وكله بشريات لهذه النفوس الخالصة القوية ، البائعة المتجردة . حديثا يتجلى فيه الله جل جلاله على هذه المجموعة المختارة من البشر . يتجلى عليهم برضوانه وبشرياته وامتنانه وتثبيته . ويبلغهم بأشخاصهم وأعيانهم أنه عنهم راض ، وأنه كان حاضرهم وهم يبايعون في مكان بعينه : " تحت الشجرة " وأنه اطلع على ما في نفوسهم . وأنه رضيهم ورضي عنهم ، وأنه كتب لهم النصر في المستقبل والغنائم والفتوح ، وربط هذا كله بناموس الوجود وسنة الوجود . وهو أمر يقف له الوجود كله يشهد ويرقب ويتأثر ويسجل في أطوائه ذلك الحادث العظيم الفريد : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم ، فأنزل السكينة عليهم ، وأثابهم فتحا قريبا . ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما . وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها ، فعجل لكم هذه ، وكف أيدي الناس عنكم ، ولتكون آية للمؤمنين ، ويهديكم صراطا مستقيما ، وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا . ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا . سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) . .
ويمتن عليهم بأخذ عدوهم النفر الذين أرادوا بهم الأذى ؛ ويندد بأعدائهم الذين صدوهم عن المسجد الحرام ، وصدوا الهدي أن يبلغ محله ، ويتلطف معهم فيكشف لهم عن حكمته في كفهم هذا العام عنهم ؛ وفضله في ترضيتهم بما كان ، وإنزال سكينته في قلوبهم ، لأمر يراه ، وهو أعظم مما يرون . وهو فتح مكة ثم هيمنة هذا الدين على الدين كله بأمر الله وتدبيره : وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم ، وكان الله بما تعملون بصيرا . هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله . ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ، ليدخل الله في رحمته من يشاء ، لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما . إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وألزمهم كلمة التقوى ، وكانوا أحق بها وأهلها ، وكان الله بكل شيء عليما . لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ، لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون . فعلم ما لم تعلموا ، فجعل من دون ذلك فتحا قريبا . هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وكفى بالله شهيدا . .
وتختم السورة بالصفة الكريمة الوضيئة التي تميز هذه المجموعة المختارة من البشر ، وتفردها بسمتها الخاصة ، وتنوه بها في الكتب السابقة : التوراة والإنجيل . وبوعد الله الكريم بالمغفرة والأجر العظيم : ( محمد رسول الله ، والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود . ذلك مثلهم في التوراة . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ، يعجب الزراع ، ليغيظ بهم الكفار . وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) . .
وهكذا تصبح نصوص السورة مفهومة واضحة ، تعيش في جوها الذي نزلت فيه ، وتصوره أقوى تصوير ، بأسلوب القرآن الخاص الذي لا يفصل الحوادث بترتيبها وتسلسلها ؛ ولكنه يأخذ منها لمحات توجيهية وتربوية ؛ ويربط الحادثة المفردة بالقاعدة الشاملة . والموقف الخاص بالأصل الكوني العام . ويخاطب النفوس والقلوب بطريقته الفذة ومنهجه الفريد .
ومن سياق السورة وجوها ، وبالموازنة بينها وبين ايحاءات سورة محمد التي قبلها في ترتيب المصحف ؛ يتبين مدى ما طرأ على الجماعة المسلمة في موقفها كله من تغيرات عميقة ، في مدى السنوات الثلاث ، التي نرجحأنها تفرق بين السورتين في زمن النزول . ويتبين مدى فعل القرآن الكريم ، وأثر التربية النبوية الرشيدة لهذه الجماعة التي سعدت بالنشوء والنمو في ظلال القرآن ، وفي رعاية النبوة . فكانت ما كانت في تاريخ البشرية الطويل .
واضح في جو سورة الفتح وإيحاءاتها أننا أمام جماعة نضج إدراكها للعقيدة ، وتجانست مستوياتها الإيمانية ، واطمأنت نفوسها لتكاليف هذا الدين ؛ ولم تعد محتاجة إلى حوافز عنيفة الوقع كي تنهض بهذه التكاليف في النفس والمال ؛ بل عادت محتاجة إلى من يخفض حميتها ، وينهنه حدتها ، ويأخذ بزمامها لتستسلم للهدوء ، والمهادنة بعض الوقت ، وفق حكمة القيادة العليا للدعوة .
لم تعد الجماعة المسلمة تواجه بمثل قوله تعالى : ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم ) . . ولا بمثل قوله تعالى : ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ، والله الغني وأنتم الفقراء ، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ، ثم لا يكونوا أمثالكم ) .
ولم تعد في حاجة إلى حوافز قوية للجهاد بالحديث عن الشهداء وما أعد الله لهم عنده من الكرامة ؛ ولا بيان حكمة الابتلاء بالقتال ومشقاته كما في سورة محمد إذ يقول الله تعالى : ( ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ، ولكن ليبلو بعضكم ببعض ، والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم . سيهديهم ويصلح بالهم ، ويدخلهم الجنة عرفها لهم ) .
إنما صار الحديث عن السكينة التي أنزلها الله في قلوب المؤمنين ، أو أنزلها عليهم . والمقصود بها تهدئة فورتهم ، وتخفيض حميتهم ، واطمئنان قلوبهم لحكم الله وحكمة رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] في المهادنة والملاينة ، وعن رضى الله عن المبايعين تحت الشجرة . وكانت هذه الصورة الوضيئة في نهاية السورة للرسول ومن معه .
أما الحديث عن الوفاء بالبيعة والنكث فيها في قوله تعالى : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ، يد الله فوق أيديهم ، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) . . فالإيحاء فيه أكثر إلى تكريم المبايعين وتعظيم شأن البيعة . والإشارة إلى النكث جاءت بمناسبة الحديث عن الأعراب المتخلفين ، وكذلك الإشارة إلى المنافقين والمنافقات فهي إشارة عابرة ، تدل على ضعف موقف هذه الطائفة ، وعلى خلوص الجماعة المسلمة بالمدينة ونضوجها وتجانسها . وهي على كل حال إشارة عابرة لا تشغل من السورة شيئا مما شغله الحديث عن المنافقين في سورة محمد ، حيث كان للمنافقين شأنهم هم وحلفاؤهم اليهود . وهذا تطور آخر في موقف الجماعة المسلمة من ناحية موقفها الخارجي يساير ذلك التطور الذي تم في نفوسها من الداخل .
وواضح كذلك قوة المسلمين بالقياس إلى قوة المشركين في جو السورة كلها وفي آيات بنصها ؛ والإشارات إلى الفتوح المقبلة ، وإلى رغبة المخلفين في الغنائم السهلة واعتذارهم ، وإلى ظهور هذا الدين على الدين كله . . كلها تشي بما بلغت إليه قوة المسلمين في هذه الفترة بين نزول السورتين .
ففي حقيقة النفوس ، وفي حال الجماعة ، وفي الظروف المحيطة بها ، حدث تطور واضح ، يدركه من يتلمس خط السيرة في النصوص القرآنية . ولهذا التطور قيمته كما أن له دلالته على أثر المنهج القرآني والتربية المحمدية ، لهذه الجماعة السعيدة الفريدة في التاريخ . ثم إن لهذا التطور إيحائه للقائمين على الجماعات البشرية . فلا تضيق صدورهم بالنقص فيها والضعف ورواسب الماضي ومخلفاته ، وآثار البيئة والوسط ، وجواذب الأرض ، وثقلة اللحم والدم . . وكلها تبدو في أول العهد قوية عميقة عنيفة . ولكنها مع المثابرة والحكمة والصبر على العلاج ، تأخذ في التحسن والتطور . والتجارب والابتلاءات تعين على التحسن والتطور ، حين تتخذ فرصة للتربية والتوجيه . وشيئا فشيئا تخف ثقلة الطين ، وتشف كثافة اللحم والدم ، وتتوارى آثار البيئة ، وتصفو رواسب الماضي ، وتستشرف القلوب آفاقا أعلى فأعلى ، حتى ترى النور هناك على الأفق الوضيء البعيد . ولنا في رسول الله أسوة حسنة ، ولنا في المنهج القرآني صراط مستقيم .
( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، ويتم نعمته عليك ، ويهديك صراطا مستقيما ، وينصرك الله نصرا عزيزا ) . .
تفتتح السورة بهذا الفيض الإلهي على رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] : فتح مبين . ومغفرة شاملة . ونعمة تامة . وهداية ثابتة . ونصر عزيز . . إنها جزاء الطمأنينة التامة لإلهام الله وتوجيهه . والاستسلام الراضي لإيحائه وإشارته . والتجرد المطلق من كل إرادة ذاتية . والثقة العميقة بالرعاية الحانية . . يرى الرؤيا فيتحرك بوحيها . وتبرك الناقة ، ويتصايح الناس : خلأت القصواء . فيقول . " ما خلأت . وما هو لها بخلق . ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة . لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلى أعطيتهم إياها " . . ويسأله عمر بن الخطاب في حمية : فلم نعطي الدنية في ديننا ? فيجيبه : " أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني " . . ذلك وحين يشاع أن عثمان قتل يقول [ صلى الله عليه وسلم ] : " لا نبرح حتى نناجز القوم " . . ويدعو الناس إلى البيعة ، فتكون بيعة الرضوان التي فاض منها الخير على الذين فازوا بها وسعدوا .
وكان هذا هو الفتح ؛ إلى جانب الفتح الآخر الذي تمثل في صلح الحديبية ، وما أعقبه من فتوح شتى في صور متعددة :
كان فتحا في الدعوة . يقول الزهري : فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه . إنما كان القتال حيث التقى الناس . فلما كانت الهدنة ، ووضعت الحرب ، وأمن الناس بعضهم بعضا ، والتقوا ، فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، ولم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه . ولقد دخل في تينك السنتين " بين صلح الحديبية وفتح مكة " مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر .
قال ابن هشام : والدليل على قول الزهري أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة في قول جابر بن عبد الله . ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف .
وكان ممن أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص .
وكان فتحا في الأرض . فقد أمن المسلمون شر قريش ، فاتجه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى تخليص الجزيرة من بقايا الخطر اليهودي - بعد التخلص من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة - وكان هذا الخطر يتمثل في حصون خيبر القوية التي تهدد طريق الشام . وقد فتحها الله على المسلمين ، وغنموا منها غنائم ضخمة ، جعلها الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فيمن حضر الحديبية دون سواهم .
وكان فتحا في الموقف بين المسلمين في المدينة وقريش في مكة وسائر المشركين حولها . يقول الأستاذ محمد عزة دروزة بحق في كتابه : [ سيرة الرسول . صور مقتبسة من القرآن الكريم ] :
" ولا ريب في أن هذا الصلح الذي سماه القرآن بالفتح العظيم يستحق هذا الوصف كل الاستحقاق . بل إنه ليصح أن يعد من الأحداث الحاسمة العظمى في السيرة النبوية ، وفي تاريخ الإسلام وقوته وتوطده ، أو بالأحرى من أعظمها . فقد اعترفت قريش بالنبي والإسلام وقوتهما وكيانهما ، واعتبرت النبي والمسلمين أندادا لها ، بل دفعتهم عنها بالتي هي أحسن ، في حين أنها غزت المدينة في سنتين مرتين ، وكانت الغزوة الأخيرة قبل سنة من هذه الزيارة وبحشد عظيم مؤلف منها ومن أحزابها لتستأصل شأفتهم ، وبعثت هذه الغزوة في نفوس المسلمين أشد الاضطراب والهلع لضعفهم وقلتهم إزاء الغزاة . ولهذا شأن عظيم في نفوس العرب ، الذين كانوا يرون في قريش الإمام والقدوة ، والذين كانوا متأثرين بموقفهم الجحودي كل التأثر . وإذا لوحظ أن الأعراب كانوا يقدرون أن النبي والمسلمين لن يعودوا سالمين من هذه الرحلة ، وأن المنافقين كانوا يظنون أسوأ الظنون . بدت لنا ناحية من نواحي خطورة هذا الفتح وبعد مداه .
" ولقد أثبتت الأحداث صدق إلهام النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فيما فعل ، وأيده فيه القرآن ، وأظهرت عظم الفوائد المادية والمعنوية والسياسية والحربية والدينية التي عادت على المسلمين منه . إذ قووا في عيون القبائل ، وبادر المتخلفون من الأعراب إلى الاعتذار ، وازداد صوت المنافقين في المدينة خفوتا وشأنهم ضآلة ، وإذ صار العرب يفدون على النبي[ صلى الله عليه وسلم ] من أنحاء قاصية ، وإذ تمكن من خضد شوكة اليهود في خيبر وغيرها من قراهم المتناثرة على طريق الشام ، وإذ صار يستطيع أن يبعث بسراياه إلى أنحاء قاصية كنجد واليمن والبلقاء ، وإذ استطاع بعد سنتين أن يغزو مكة ويفتحها ، وكان في ذلك النهاية الحاسمة ، إذ جاء نصر الله والفتح ، ودخل الناس في دين الله أفواجا " . .
ونحن نعود فنؤكد أنه كان هناك - إلى جانب هذا كله - فتح آخر . فتح في النفوس والقلوب ، تصوره بيعة الرضوان ، التي رضي عنها الله وعن أصحابها ذلك الرضى الذي وصفه القرآن . ورسم لهم على ضوئه تلك الصورة الوضيئة الكريمة في نهاية السورة : محمد رسول الله . والذين معه . . . الخ . فهذا فتح في تاريخ الدعوات له حسابه ، وله دلالته ، وله آثاره بعد ذلك في التاريخ .
ولقد فرح رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بهذه السورة . فرح قلبه الكبير بهذا الفيض الرباني عليه وعلى المؤمنين معه . فرح بالفتح المبين . وفرح بالمغفرة الشاملة ، وفرح بالنعمة التامة ، وفرح بالهداية إلى صراط الله المستقيم . وفرح بالنصر العزيز الكريم . وفرح برضى الله عن المؤمنين ووصفهم ذلك الوصف الجميل . وقال - في رواية - : " نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها " . . وفي رواية : " لقد أنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس " . . وفاضت نفسه الطيبة بالشكر لربه على ما أولاه من نعمته . فاضت بالشكر في صورة صلاة طويلة مديدة ، تقول عنها عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا صلى قام حتى تنفر رجلاه ، فقالت له عائشة - رضي الله عنها - يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ? فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا عائشة ، أفلا أكون عبدا شكورا ? " . .
هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من الحديبية وفي ذلك أحاديث كثيرة عن أنس وابن مسعود{[1]} وغيرهما تقتضي صحته وهي بهذا في حكم المدني وقال الزهراوي عن مجاهد وعن ابن عباس إنها نزلت بالمدينة والأول أصح ويشبه أن منها بعضا نزل بالمدينة وأما صدر السورة ومعظمها فكما قلنا ويقضي بذلك قول النبي عليه السلام لعمر وهما في تلك السفرة ( لقد نزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها ){[2]} قال القاضي أبو محمد ذكر مكي هنا ان المعنى بشرط أن تبقى الدنيا ولا تفنى وفي هذا نظر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في تلك الوجهة ليعتمر بمكة فصده المشركون القصة المشهورة سنة ست من الهجرة
قال قوم فيما حكى الزهراوي { فتحنا لك } يريد به فتح مكة ، وحكاه الثعلبي أيضاً ، ونسبه النقاش إلى الكلبي . وأخبره تعالى به على معنى : قضينا به . والفتاح : القاضي بلغة اليمن ، وقيل المراد : { إنا فتحنا لك } بأن هديناك إلى الإسلام ليغفر . وقال جمهور الناس : والصحيح الذي تعضده قصة الحديبية أن قوله : { إنا فتحنا لك } إنما معناه : إن ما يسر الله لك في تلك الخرجة فتح مبين تستقبله ، ونزلت السورة مؤنسة للمؤمنين ، لأنهم كانوا استوحشوا من رد قريش لهم ومن تلك المهادنة التي هادنهم النبي عليه السلام فنزلت السورة مؤنسة لهم في صدهم عن البيت ومذهبه : ما كان في قلوبهم ، ومنه حديث عمر الشهير وما قاله للنبي عليه السلام ولأبي بكر واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة أنه هادن عدوه ريثما يتقوى هو ، وظهرت على يديه آية الماء في بئر الحديبية حيث وضع فيه سهمه وثاب الماء حتى كفى الجيش ، واتفقت بيعة الرضوان وهي الفتح الأعظم ، قاله جابر بن عبد الله والبراء بن عازب . وبلغ هديه محله ، قاله الشعبي واستقبل فتح خيبر ، وامتلأت أيدي المؤمنين خيراً ، ولم يفتحها إلا أهل الحديبية ولم يشركهم فيها أحد .
قال القاضي أبو محمد : وفيه نظر ، لأن أصحاب السفينة مع جعفر بن أبي طالب شاركوهم في القسم ، فينبغي أن يقال لم يشاركهم أحد من المتخلفين عن الحديبية ، واتفقت في ذلك الوقت ملحمة عظيمة بين الروم وفارس ظهرت فيها الروم ، فكانت من جملة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسر بها هو والمؤمنون لظهور أهل الكتاب على المجوس وانخضاد الشوكة العظمى من الكفر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
روى مالك عن زيد بن أسلم، عن ابيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله في سفر فقال: " لقد أنزلت البارحة علي سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها، ثم قرأ: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) أخرجه البخاري عن (القعنبي) عن مالك...
وروي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: لما انصرفنا من مكة وقد منعنا من نسكنا، وبنا من الحزن والكآبة شيء عظيم، فأنزل الله تعالى هذه السورة، فقال النبي: " هي أحب إلي من جميع الدنيا"...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من الحديبية، وفي ذلك أحاديث كثيرة عن أنس وابن مسعود وغيرهما تقتضي صحته وهي بهذا في حكم المدني. وقال الزهراوي عن مجاهد وعن ابن عباس إنها نزلت بالمدينة. والأول أصح ويشبه أن منها بعضا نزل بالمدينة وأما صدر السورة ومعظمها فكما قلنا، ويقضي بذلك قول النبي عليه السلام لعمر وهما في تلك السفرة (لقد نزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها).
قال القاضي أبو محمد ذكر مكي هنا ان المعنى بشرط أن تبقى الدنيا ولا تفنى وفي هذا نظر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في تلك الوجهة ليعتمر بمكة فصده المشركون القصة المشهورة سنة ست من الهجرة.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وفي الصحيحين عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا فسأله عمر عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر بن الخطاب: ثكلت أم عمر، نَزَرْتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لم يجبك، فقال عمر: فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن، فما نَشِبْتُ أن سمعت صارخا يصرخ بي، فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فقال: [لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس -ثم قرأ- "إنا فتحنا لك فتحا مبينا "] لفظ البخاري...
وفي صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال: لما نزلت: " إنا فتحنا لك فتحا مبينا. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما -إلى قوله- فوزا عظيما " مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة، وقد نحر الهدي بالحديبية، فقال: [لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا]. وقال عطاء عن ابن عباس: إن اليهود شتموا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما نزل قوله تعالى: " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " [الأحقاف: 9] وقالوا: كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: " إنا فتحنا لك فتحا مبينا. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر"...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
الصحيح أنها نزلت بطريق منصرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية، سنة ست من الهجرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
مدلول اسمها الذي يعم فتح مكة وما تقدمه من صلح الحديبية وفتح خيبر ونحوهما، وما وقع تصديق الخبر به من غلب الروم على أهل فارس وما تفرع من فتح مكة المشرفة من إسلام أهل جزيرة العرب وقتال أهل الردة وفتوح جميع البلاد الذي يجمعه كله إظهار الدين على الدين كله، وهذا كله في غاية الظهور بما نطق به ابتداؤها وأثناؤها في مواضع منها {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق} الآية وانتهاؤها {ليظهر على الدين كله} {محمد رسول الله} إلى قوله {ليغيظ بهم الكفار} أي بالفتح الأعظم وما دونه من الفتوحات {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة- كما كان في أولها للرسول صلى الله عليه وسلم- [و-] أجرا عظيما كذلك بسائر الفتوحات وما حوت من الغنائم للثواب الجزيل على ذلك في دار الجزاء
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة مدنية، نزلت في السنة السادسة من الهجرة، عقب صلح الحديبية؛ وهي تتناول هذا الحادث الخطير وملابساته؛ وتصور حال الجماعة المسلمة وما حولها في إبانه: فبين وقت نزولها ووقت نزول سورة "محمد " التي تسبقها في ترتيب المصحف، نحو من ثلاث سنوات، تمت فيها تغيرات هامة وخطيرة في أحوال الجماعة المسلمة في المدينة. تغيرات في موقفها وموقف المناوئين لها، وتغيرات أهم في حالتها النفسية وصفتها الإيمانية، واستوائها على المنهج الإيماني في إدراك ونضج عميق.
وقبل أن نتحدث عن السورة وجوها ودلالتها يحسن أن نمر بصورة للحادث الذي نزلت بصدده. لنعيش في الجو الذي كان المسلمون يعيشون فيه، وهم يتلقون هذا التنزيل الكريم:
لقد أري رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في منامه أنه يدخل الكعبة هو والمسلمون محلقين رؤوسهم ومقصرين. وكان المشركون قد منعوهم منذ الهجرة من دخول مكة، حتى في الأشهر الحرم التي يعظمها العرب كلهم في الجاهلية، ويضعون السلاح فيها؛ ويستعظمون القتال في أيامها، والصد عن المسجد الحرام. حتى أصحاب الثارات كانوا يتجمعون في ظلال هذه الحرمة، ويلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فلا يرفع في وجهه سيفا، ولا يصده عن البيت المحرم. ولكنهم خالفوا عن تقاليدهم الراسخة في هذا الشأن؛ وصدوا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] والمسلمين معه طوال السنوات الست التي تلت الهجرة. حتى كان العام السادس الذي أريفيه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] هذه الرؤيا. وحدث بها أصحابه -رضوان الله عليهم- فاستبشروا بها وفرحوا.
ورواية ابن هشام لوقائع الحديبية هي أوفى مصدر نستند إليه في تصورها. وهي في جملتها تتفق مع رواية البخاري ورواية الإمام أحمد ومع تلخيص ابن حزم في جوامع السيرة وغيرهم.
قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بالمدينة شهر رمضان وشوالا " بعد غزوة بني المصطلق وما جاء في أعقابها من حديث الإفك " وخرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا. واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه؛ وهو يخشى من قريش الذي صنعوا أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت. فأبطأ عليه كثير من الأعراب. وخرج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بمن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق به من العرب؛ وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة، ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له.
قال: وكان جابر بن عبد الله -فيما بلغني- يقول: كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة.
قال الزهري: وخرج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي. فقال: يا رسول الله! هذه قريش قد سمعت بمسيركَ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور؛ وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا. وهذا خالد بن الوليد في خيلهم، قد قدموها إلى كراع الغميم. قال: فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب. ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب؟ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة. فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة". ثم قال: " من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟"..
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن رجلا من أسلم قال: أنا يا رسول الله. قال: فسلك بهم طريقا وعرا أجرل بين شعاب. فلما خرجوا منه -وقد شق ذلك على المسلمين- وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] للناس: " قولوا نستغفر الله ونتوب إليه". فقالوا ذلك. فقال: " والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل، فلم يقولوها "
قال ابن شهاب الزهري: فأمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] الناس فقال: " اسلكوا ذات اليمين " بين ظهري الحمض في طريق على ثنية المرار، مهبط الحديبية من أسفل مكة؛ قال: فسلك الجيش ذلك الطريق. فلما رأت خيل قريش قترة الجيش، قد خالفوا عن طريقهم، رجعوا راكضين إلى قريش. وخرج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته. فقال الناس: خلأت الناقة. فقال: " ما خلأت. وما هو لها بخلق. ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها " -[وفي رواية البخاري]: " والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها". ثم قال للناس: " انزلوا " قيل له: يا رسول الله، ما بالوادي ماء ينزل عليه. فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه. فنزل في قليب من تلك القلب، فغرزه في جوفه، فجاش بالرواء..
فلما اطمأن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي، في رجال من خزاعة، فكلموه، وسألوه ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا، وإنما جاء زائرا للبيت، ومعظما لحرمته. ثم قال لهم نحوا مما قال لبشر بن سفيان؛ فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد. إن محمدا لم يأت لقتال، وإنما جاء زائرا لهذا البيت. فاتهموهم وجبهوهم، وقالوا: وإن كان جاء ولا يريد قتالا. فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدا، ولا تحدث بذلك عنا العرب.
وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مسلمها ومشركها، لا يخفون عنه شيئا كان بمكة. ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بني عامر بن لؤي. فلما رآه رسول الله [صلى الله عليه وسلم]] مقبلا قال: " هذا رجل غادر". فلما انتهى إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وكلمه، قال له رسول الله [صلى الله عليه وسلم] نحوا مما قال لبديل وأصحابه؛ فرجع إلى قريش، فأخبرهم بما قال له رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان. وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة. فلما رآه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إن هذا من قوم يتألهون- يعني يتعبدون -فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه". فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش، ولم يصل إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إعظاما لما رأى. فقال لهم ذلك. فقالوا له: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك!
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن الحليس غضب عند ذلك. وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم. أيصد عن بيت الله من جاء معظما له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. قال: فقالوا له: مه. كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
قال الزهري: ثم بعثوا إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش، إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم، من التعنيف وسوء اللفظ. وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد- وكان نسبه لأمه في بني عبد شمس -وقد سمعت بالذي نابكم، فجمعت من أطاعني من قومي، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي. قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم. فخرج حتى جاء رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فجلس بين يديه. ثم قال: يا محمد. أجمعت أوشاب الناس، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم؟ إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا. وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا. قال: وأبو بكر خلف رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قاعد. فزجره وقال: أنحن نكشف عنه؟ قال: من هذا يا محمد؟ قال: " هذا ابن أبي قحافة". قال. أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها. ولكن هذه بها. قال: ثم جعل يتناول لحية رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو يكلمه. قال: والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في الحديد. قال: فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ويقول: أكفف يدك عن وجه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قبل أن لا تصل إليك! قال: فيقول عروة: ويحك! ما أفظك وأغلظك! قال: فتبسم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقال له عروة: من هذا يا محمد؟ قال: " هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة". قال: أي غُدَر. وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟
قال ابن هشام: أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف، فتهايج الحيان من ثقيف: بنو مالك رهط المقتولين. والأحلاف رهط المغيرة. فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية. وأصلح ذلك الأمر.
قال ابن إسحاق: قال الزهري: فكلمه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بنحو مما كلم أصحابه، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا. فقام من عند رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وقد رأى ما يصنع به أصحابه: لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه. فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه؛ وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا. فروا رأيكم.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة، وحمله على بعير له يقال له: الثعلب. ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له. فعقروا به جمل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش، فخلوا سبيله حتى جاء رسول الله [صلى الله عليه وسلم].
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض من لا أتهم، عن عكرمة مولى ابن عباس [عن ابن عباس] أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم، أو خمسين رجلا، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا. فأخذوا أخذا، فأتي بهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فعفا عنهم، وخلى سبيلهم. وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بالحجارة والنبل.
ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له. فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني. وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها. ولكني أدلك على رجل أعز بها مني. عثمان بن عفان. فدعا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عثمان ابن عفان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته.
قال ابن إسحاق: فخرج عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص، حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها؛ فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ما أرسله به؛ فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله [صلى الله عليه وسلم] واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله [صلى الله عليه وسلم] والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال- حين بلغه ان عثمان قد قتل -: " لا نبرح حتى نناجز القوم". فدعا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة. فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على الموت. وكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لا نفر. فبايع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة. فكان جابر بن عبد الله يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ إليها، يستتر بها من الناس. ثم أتى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل.
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به، عمن حدثه بإسناد له، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عمر، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بايع لعثمان، فضرب بإحدى يديه على الأخرى.
قال ابن إسحاق: قال الزهري: ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وقالوا له: إيت محمدا فصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا. فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مقبلا قال: -" قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل". فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] تكلم فأطال الكلام. وتراجعا. ثم جرى بينهما الصلح.
فلما التأم الأمر، ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى! قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى! قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى! قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: يا عمر، الزم غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد انه رسول الله. ثم أتى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: بلى! قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى! قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى! قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: " أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني". قال: فكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به، حين رجوت أن يكون خيرا.
قال: ثم دعا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] علي بن أبي طالب- رضوان الله عليه -فقال: " اكتب باسم الله الرحمن الرحيم " قال: فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب باسمك اللهم. فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] " اكتب باسمك اللهم " فكتبها. ثم قال: " اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو". قال: فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك؛ ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. قال: فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله. سهيل بن عمرو. اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليه، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه- فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقدة قريش وعهدهم -وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك، فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا، معك سلاح الراكب: السيوف في القرب، لا تدخلها بغيرها. "
فبينا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، إذ جاء أبو جندل بن سهيل ابن عمرو يرسف في الحديد، قد انفلت إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وقد كان أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] خرجوا وهم لا يشكون في الفتح، لرؤيا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع، وما تحمل عليه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون. فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه، ثم قال: يا محمد، قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: " صدقت " فجعل ينتره بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فزاد الناس إلى ما بهم. فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم". قال: فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه، ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب. قال: ويدني قائم السيف منه. قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه. قال: فضن الرجل بأبيه، ونفذت القضية.
فلما فرغ من الكتاب أشهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين: أبو بكر الصديق، عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة، ومكرز بن حفص [وهو يومئذ مشرك] وعلي بن أبي طالب، وكتب، وكان هو كاتب الصحيفة.
قال الزهري: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لأصحابه: " قوموا فانحروا ثم احلقوا " قال: فو الله ما قام منهم رجل، حتى قال [صلى الله عليه وسلم] ذلك ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد دخل- صلى الله عليه وآله وسلم -على أم سلمة- رضي الله عنها -فذكر لها ما لقي من الناس. قالت [أم سلمة]- رضي الله عنها -: يا نبي الله، أتحب ذلك؟ أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بيده، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس. قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون. فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " يرحم الله المحلقين". قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: " يرحم الله المحلقين". قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: " يرحم الله المحلقين". قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: " والمقصرين". فقالوا يا رسول الله، فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟ قال: " لم يشكوا"..
قال الزهري في حديثه.. ثم انصرف رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من وجهه ذلك قافلا. حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح.
وروى الإمام أحمد -بإسناده- عن مجمع بن حارثة الأنصاري -رضي الله عنه- وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن. قال: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر، فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ قالوا أوحي إلى رسول الله -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم- فخرجنا مع الناس نوجف. فإذا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا).. قال: فقال رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: أي رسول الله أو فتح هو؟ قال [صلى الله عليه وسلم]: " إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح"..
وروى الإمام أحمد بإسناده- عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في سفر. قال: فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد علي. قال: فقلت ثكلتك أمك يابن الخطاب. ألححت. كررت على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ثلاث مرات، فلم يرد عليك! قال: فركبت راحلتي، فحركت بعيري، فتقدمت، مخافة أن يكون نزل في شيء. قال: فإذا أنا بمناد يا عمر. قال: فرجعت وأنا أظن أنه نزل في شيء. قال: فقال النبي [صلى الله عليه وسلم]: " نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها: إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر".. [ورواه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك رحمه الله]..
هذا هو الجو الذي نزلت فيه السورة. الجو الذي اطمأنت فيه نفس الرسول [صلى الله عليه وسلم] إلى إلهام ربه، فتجرد من كل إرادة إلا ما يوحيه هذا الإلهام العلوي الصادق؛ ومضى يستلهم هذا الإيحاء في كل خطوة وفي كل حركة، لا يستفزه عنه مستفز، سواء من المشركين أو من أصحابه الذين لم تطمئن نفوسهم في أول الأمر لقبول استفزاز المشركين وحميتهم الجاهلية. ثم أنزل الله السكينة في قلوبهم، ففاءوا إلى الرضى واليقين والقبول الخالص العميق؛ كإخوانهم الذين كانوا على هذه الحال منذ أول الأمر، شأن الصديق أبي بكر الذي لم تفقد روحه لحظة واحدة صلتها الداخلية المباشرة بروح رسول الله [صلى الله عليه وسلم]
ومن ثم بقيت على اطمئنانها دائما، ولم تفارقها الطمأنينة أبدا.
ومن ثم جاء افتتاح السورة بشرى لرسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فرح لها قلبه الكبير فرحا عميقا: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما. وينصرك الله نصرا عزيزا).
كما جاء في الافتتاح، الامتنان على المؤمنين بالسكينة، والاعتراف لهم بالإيمان السابق وتبشيرهم بالمغفرة والثواب، وعون السماء بجنود الله: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا -مع إيمانهم- ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما، ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ويكفر عنهم سيئاتهم، وكان ذلك عند الله فوزا عظيما).. ذلك مع ما أعده لأعدائهم من المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات من غضب وعذاب: (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، الظانين بالله ظن السوء، عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم، وأعد لهم جهنم، وساءت مصيرا)..
ثم التنويه ببيعة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] واعتبارها بيعة لله؛ وربط قلوب المؤمنين مباشرة بربهم عن هذا الطريق، بهذا الرباط المتصل مباشرة بالله الحي الباقي الذي لا يموت: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا. إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما).
وبمناسبة البيعة والنكث يلتفت -قبل إكمال الحديث عن المؤمنين ومواقفهم في الحديبية- إلى الأعراب الذين تخلفوا عن الخروج، فيفضح معاذيرهم، ويكشف ما جال في خواطرهم من سوء الظن بالله، ومن توقع السوء للرسول [صلى الله عليه وسلم] ومن معه. ويوجه الرسول [صلى الله عليه وسلم] إلى ما ينبغي أن يكون موقفه منهم في المستقبل. وذلك في أسلوب يوحي بقوة المسلمين وضعف المخلفين، كما يوحي بأن هنالك غنائم وفتوحا قريبة يسيل لها لعاب المخلفين المتباطئين:
سيقول لك المخلفون من الأعراب: شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، قل: فمن يملك لكم من الله شيئا، إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا؟ بل كان الله بما تعملون خبيرا. بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا، وزين ذلك في قلوبكم، وظننتم ظن السوء، وكنتم قوما بورا. ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا. ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما. سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها: ذرونا نتبعكم، يريدون أن يبدلوا كلام الله، قل: لن تتبعونا. كذلكم قال الله من قبل. فسيقولون: بل تحسدوننا. بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا. قل للمخلفين من الأعراب: ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون، فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا، وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما.
وفي هذا الصدد يبين المعذورين إذا تخلفوا، والمعفين من الجهاد لعجزهم عنه، وهو العذر الوحيد: ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج، ولا على المريض حرج، ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار، ومن يتول يعذبه عذابا أليما..
وبعد هذه اللفتة يعود سياق السورة للحديث عن المؤمنين ومواقفهم وخوالج نفوسهم؛ حديثا كله رضى وشفافية ووضاءة وتكريم؛ وكله بشريات لهذه النفوس الخالصة القوية، البائعة المتجردة. حديثا يتجلى فيه الله جل جلاله على هذه المجموعة المختارة من البشر. يتجلى عليهم برضوانه وبشرياته وامتنانه وتثبيته. ويبلغهم بأشخاصهم وأعيانهم أنه عنهم راض، وأنه كان حاضرهم وهم يبايعون في مكان بعينه: " تحت الشجرة " وأنه اطلع على ما في نفوسهم. وأنه رضيهم ورضي عنهم، وأنه كتب لهم النصر في المستقبل والغنائم والفتوح، وربط هذا كله بناموس الوجود وسنة الوجود. وهو أمر يقف له الوجود كله يشهد ويرقب ويتأثر ويسجل في أطوائه ذلك الحادث العظيم الفريد: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم، وأثابهم فتحا قريبا. ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما. وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها، فعجل لكم هذه، وكف أيدي الناس عنكم، ولتكون آية للمؤمنين، ويهديكم صراطا مستقيما، وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا. ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا. سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا)..
ويمتن عليهم بأخذ عدوهم النفر الذين أرادوا بهم الأذى؛ ويندد بأعدائهم الذين صدوهم عن المسجد الحرام، وصدوا الهدي أن يبلغ محله، ويتلطف معهم فيكشف لهم عن حكمته في كفهم هذا العام عنهم؛ وفضله في ترضيتهم بما كان، وإنزال سكينته في قلوبهم، لأمر يراه، وهو أعظم مما يرون. وهو فتح مكة ثم هيمنة هذا الدين على الدين كله بأمر الله وتدبيره: وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم، وكان الله بما تعملون بصيرا. هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله. ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم، أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم، ليدخل الله في رحمته من يشاء، لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما. إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وألزمهم كلمة التقوى، وكانوا أحق بها وأهلها، وكان الله بكل شيء عليما. لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون. فعلم ما لم تعلموا، فجعل من دون ذلك فتحا قريبا. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا..
وتختم السورة بالصفة الكريمة الوضيئة التي تميز هذه المجموعة المختارة من البشر، وتفردها بسمتها الخاصة، وتنوه بها في الكتب السابقة: التوراة والإنجيل. وبوعد الله الكريم بالمغفرة والأجر العظيم: (محمد رسول الله، والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود. ذلك مثلهم في التوراة. ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره، فاستغلظ، فاستوى على سوقه، يعجب الزراع، ليغيظ بهم الكفار. وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما)..
وهكذا تصبح نصوص السورة مفهومة واضحة، تعيش في جوها الذي نزلت فيه، وتصوره أقوى تصوير، بأسلوب القرآن الخاص الذي لا يفصل الحوادث بترتيبها وتسلسلها؛ ولكنه يأخذ منها لمحات توجيهية وتربوية؛ ويربط الحادثة المفردة بالقاعدة الشاملة. والموقف الخاص بالأصل الكوني العام. ويخاطب النفوس والقلوب بطريقته الفذة ومنهجه الفريد.
ومن سياق السورة وجوها، وبالموازنة بينها وبين ايحاءات سورة محمد التي قبلها في ترتيب المصحف؛ يتبين مدى ما طرأ على الجماعة المسلمة في موقفها كله من تغيرات عميقة، في مدى السنوات الثلاث، التي نرجح أنها تفرق بين السورتين في زمن النزول. ويتبين مدى فعل القرآن الكريم، وأثر التربية النبوية الرشيدة لهذه الجماعة التي سعدت بالنشوء والنمو في ظلال القرآن، وفي رعاية النبوة. فكانت ما كانت في تاريخ البشرية الطويل.
واضح في جو سورة الفتح وإيحاءاتها أننا أمام جماعة نضج إدراكها للعقيدة، وتجانست مستوياتها الإيمانية، واطمأنت نفوسها لتكاليف هذا الدين؛ ولم تعد محتاجة إلى حوافز عنيفة الوقع كي تنهض بهذه التكاليف في النفس والمال؛ بل عادت محتاجة إلى من يخفض حميتها، وينهنه حدتها، ويأخذ بزمامها لتستسلم للهدوء، والمهادنة بعض الوقت، وفق حكمة القيادة العليا للدعوة.
لم تعد الجماعة المسلمة تواجه بمثل قوله تعالى: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم).. ولا بمثل قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، والله الغني وأنتم الفقراء، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم).
ولم تعد في حاجة إلى حوافز قوية للجهاد بالحديث عن الشهداء وما أعد الله لهم عنده من الكرامة؛ ولا بيان حكمة الابتلاء بالقتال ومشقاته كما في سورة محمد إذ يقول الله تعالى: (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم، ولكن ليبلو بعضكم ببعض، والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم. سيهديهم ويصلح بالهم، ويدخلهم الجنة عرفها لهم).
إنما صار الحديث عن السكينة التي أنزلها الله في قلوب المؤمنين، أو أنزلها عليهم. والمقصود بها تهدئة فورتهم، وتخفيض حميتهم، واطمئنان قلوبهم لحكم الله وحكمة رسوله [صلى الله عليه وسلم] في المهادنة والملاينة، وعن رضى الله عن المبايعين تحت الشجرة. وكانت هذه الصورة الوضيئة في نهاية السورة للرسول ومن معه.
أما الحديث عن الوفاء بالبيعة والنكث فيها في قوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما).. فالإيحاء فيه أكثر إلى تكريم المبايعين وتعظيم شأن البيعة. والإشارة إلى النكث جاءت بمناسبة الحديث عن الأعراب المتخلفين، وكذلك الإشارة إلى المنافقين والمنافقات فهي إشارة عابرة، تدل على ضعف موقف هذه الطائفة، وعلى خلوص الجماعة المسلمة بالمدينة ونضوجها وتجانسها. وهي على كل حال إشارة عابرة لا تشغل من السورة شيئا مما شغله الحديث عن المنافقين في سورة محمد، حيث كان للمنافقين شأنهم هم وحلفاؤهم اليهود. وهذا تطور آخر في موقف الجماعة المسلمة من ناحية موقفها الخارجي يساير ذلك التطور الذي تم في نفوسها من الداخل.
وواضح كذلك قوة المسلمين بالقياس إلى قوة المشركين في جو السورة كلها وفي آيات بنصها؛ والإشارات إلى الفتوح المقبلة، وإلى رغبة المخلفين في الغنائم السهلة واعتذارهم، وإلى ظهور هذا الدين على الدين كله.. كلها تشي بما بلغت إليه قوة المسلمين في هذه الفترة بين نزول السورتين.
ففي حقيقة النفوس، وفي حال الجماعة، وفي الظروف المحيطة بها، حدث تطور واضح، يدركه من يتلمس خط السيرة في النصوص القرآنية. ولهذا التطور قيمته كما أن له دلالته على أثر المنهج القرآني والتربية المحمدية، لهذه الجماعة السعيدة الفريدة في التاريخ. ثم إن لهذا التطور إيحائه للقائمين على الجماعات البشرية. فلا تضيق صدورهم بالنقص فيها والضعف ورواسب الماضي ومخلفاته، وآثار البيئة والوسط، وجواذب الأرض، وثقلة اللحم والدم.. وكلها تبدو في أول العهد قوية عميقة عنيفة. ولكنها مع المثابرة والحكمة والصبر على العلاج، تأخذ في التحسن والتطور. والتجارب والابتلاءات تعين على التحسن والتطور، حين تتخذ فرصة للتربية والتوجيه. وشيئا فشيئا تخف ثقلة الطين، وتشف كثافة اللحم والدم، وتتوارى آثار البيئة، وتصفو رواسب الماضي، وتستشرف القلوب آفاقا أعلى فأعلى، حتى ترى النور هناك على الأفق الوضيء البعيد. ولنا في رسول الله أسوة حسنة، ولنا في المنهج القرآني صراط مستقيم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سورة {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} سميت في كلام الصحابة {سورة الفتح}. ووقع في صحيح البخاري عن عبد الله بن مغفل بغين معجمة مفتوحة وفاء مشددة مفتوحة قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة {سورة الفتح} فرجع فيها. وفيها حديث سهل بن حنيف لقد رأيتنا يوم الحديبية ولو ترى قتالا لقاتلنا. ثم حكى مقاله عمر إلى أن قال فنزلت سورة الفتح ولا يعرف لها اسم آخر.
ووجه التسمية أنها تضمنت حكاية فتح متجه الله للنبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
وهي مدنية على المصطلح المشهور في أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو كان نزوله في مكان غير المدينة من أرضها أو من غيرها. وهذه السورة نزلت بموضع يقال له كراع الغميم -بضم الكاف من كراع وبفتح الغين المعجمة وكسر الميم من الغميم- موضع بين مكة والمدينة وهو واد على مرحلتين من مكة وعلى ثلاثة أميال من عسفان وهو من أرض مكة. وقيل نزلت بضجنان -بوزن سكران- وهو جبل قرب مكة ونزلت ليلا فهي من القرآن الليلي.
ونزولها سنة ست بعد الهجرة منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية وقبل غزوة خيبر. وفي الموطأ عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره أي منصرفه من الحديبية ليلا وعمر بن الخطاب يسير معه فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال: عمر ثكلت أم عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك. قال عمر: فحركت بعيري وتقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في القرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي، فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله فسلمت عليه فقال: لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب الي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ {إنا فتحنا لك فتحا مبينا}. ومعنى قوله لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس لما اشتملت عليه من قوله {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك}.
وأخرج مسلم والترمذي عن أنس قال أنزل على النبي {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك} إلى قوله {فوزا عظيما} مرجعه من الحديبية فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على وجه الأرض ثم قرأها...
وسبب نزولها ما رواه الواحدي وابن إسحاق عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية وقد حيل بيننا وبين نسكنا فنحن بين الحزن والكآبة أنزل الله تعالى {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} فقال رسول الله: لقد أنزلت علي آية أحب إلي من الدنيا وما فيها وفي رواية من أولها إلى آخرها.
تضمنت هذه السورة بشارة المؤمنين بحسن عاقبة صلح الحديبية وأنه نصر وفتح فنزلت به السكينة في قلوب المسلمين وأزال حزنهم من صدهم عن الاعتمار بالبيت وكان المسلمون عدة لا تغلب من قلة فرأوا أنهم عادوا كالخائبين فأعلمهم الله بأن العاقبة لهم، وأن دائرة السوء على المشركين والمنافقين.
والتنويه بكرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه ووعده بنصر متعاقب.
والثناء على المؤمنين الذين عزروه وبايعوه، وأن الله قدم مثلهم في التوراة وفي الإنجيل.
ثم ذكر بيعة الحديبية والتنويه بشأن من حضرها.
وفضح الذين تخلفوا عنها من الأعراب ولمزهم بالجبن والطمع وسوء الظن بالله وبالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعهم من المشاركة في غزوة خيبر، وإنبائهم بأنهم سيدعون إلى جهاد آخر فإن استجابوا غفر لهم تخلفهم عن الحديبية.
ووعد النبي صلى الله عليه وسلم بفتح آخر يعقبه فتح أعظم منه وبفتح مكة وفيها ذكر بفتح من خيبر كما سيأتي في قوله تعالى {فعجل لكم هذه}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هذه السورة من السور الحركية التي لاحقت صلح الحديبية بوصفه فتحاً على مستوى الصراع بين قريش ومن معها من أهل مكة، وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمسلمين معه، حيث استطاع النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يفرض على قريش الصلح، الذي يؤكد على وصول الصراع إلى مرحلة توازن القِوى في الساحة، بعد أن كانت كفّة الميزان تميل إلى جهة قريش التي كانت تعمل على إسقاط الإسلام كله، بهزيمة المسلمين، فإذا بها ترفض دخول النبي عنوة إلى مكة للطواف بالبيت، لا لأنها ترفض ذلك بالذات، بل خوفاً من سقوط هيبتها عند العرب. وبدأت تفتش عن الحل الذي يحفظ هيبتها، ويحقق للمسلمين ما أرادوه من إلغاء المنع المفروض عليهم من قِبَل قريش، في قدومهم إلى مكة للحج والعمرة، فكان الصلح على أساس أن يرجع المسلمون في عامهم هذا من حيث أتوا، ويأتوا إلى مكة في العام القادم، ليطوفوا بالبيت ثلاثة أيام، على أن تخرج منها قريش في تلك الفترة، مع بنودٍ أخرى، تتجمّد فيها الحرب عشر سنين، الأمر الذي يوحي بأن ميزان القوّة بدأ يميل إلى جانب المسلمين، لأن الصلح كان من تخطيط الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) لفتح مكة، من موقع القوّة، لا من موقع الضعف العسكري الذي يريد أن يجنح إلى السلم خوفاً من نتائج الحرب...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تبدأ السورة بموضوع البشرى بالفتح كما أنّ آياتها الأخيرة لها علاقة بهذا الموضوع أيضاً، وفيها تأكيد على تحقق رؤيا النّبي التي تدور حول دخوله وأصحابه مكّة وأداء مناسك العمرة...
يتحدّث قسمٌ آخر من هذه السورة عن الحوادث المتعلّقة بصلح الحديبية ونزول السكينة على قلوب المؤمنين و«بيعة الرضوان» وما إلى ذلك!...
ويتحدّث قسم ثالث منها عن مقام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهدفه الأسمى...
ويكشف القسم الرابع الستار عن غَدر المنافقين ونقضهم العهد ونكثهم له... 5 وفي قسم آخر يقع الكلام على طلبات «المنافقين» في غير محلّها...
والقسم السادس يوضح من هم المعذورون الذين لا حرج عليهم!...
وأخيراً، فإنّ القسم السابع يتحدّث عن خصائص أصحاب النّبي وأتباعه في طريقته وسنّته وصفاتهم التي يتميّزون بها...
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنا فتحنا لك} يعني قضينا لك {فتحا مبينا} يعني قضاء بينا، يعني الإسلام.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم" إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا "يقول: إنا حكمنا لك يا محمد حكما لمن سمعه أو بلغه على من خالفك وناصبك من كفار قومك، وقضينا لك عليهم بالنصر والظفر، لتشكر ربك، وتحمده على نعمته بقضائه لك عليهم، وفتحه ما فتح لك، ولتسبحه وتستغفره، فيغفر لك بفعالك ذلك ربك ما تقدّم من ذنبك قبل فتحه لك ما فتح، وما تأخّر بعد فتحه لك ذلك ما شكرته واستغفرته.
وإنما اخترنا هذا القول في تأويل هذه الآية لدلالة قول الله عزّ وجلّ "إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالفَتْح، ورأيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أفْوَاجا، فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كانَ تَوّابا" على صحته، إذ أمره تعالى ذكره أن يسبح بحمد ربه إذا جاءه نصر الله وفتح مكة، وأن يستغفره، وأعلمه أنه توّاب على من فعل ذلك، ففي ذلك بيان واضح أن قوله تعالى ذكره: "لَيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخّرَ" إنما هو خبر من الله جلّ ثناؤه نبيه عليه الصلاة والسلام عن جزائه له على شكره له، على النعمة التي أنعم بها عليه من إظهاره له ما فتح، لأن جزاء الله تعالى عباده على أعمالهم دون غيرها.
وبعد ففي صحة الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم حتى ترِم قدماه، فقيل له: يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: «أفَلا أكُونُ عَبْدا شَكُورا؟»، الدلالة الواضحة على أن الذي قلنا من ذلك هو الصحيح من القول، وأن الله تبارك وتعالى، إنما وعد نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم غفران ذنوبه المتقدمة، فتح ما فتح عليه، وبعده على شكره له، على نعمه التي أنعمها عليه. وكذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم: «إنّي لأَسْتَغْفِرُ اللّهَ وأتُوبُ إلَيْهِ فِي كُلّ يَوْمٍ مِئَةَ مَرّةٍ» ولو كان القول في ذلك أنه من خبر الله تعالى نبيه أنه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر على غير الوجه الذي ذكرنا، لم يكن لأمره إياه بالاستغفار بعد هذه الآية، ولا لاستغفار نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ربه جلّ جلاله من ذنوبه بعدها معنى يعقل، إذ الاستغفار معناه: طلب العبد من ربه عزّ وجلّ غفران ذنوبه، فإذا لم يكن ذنوب تغفر، لم يكن لمسألته إياه غفرانها معنى، لأنه من المحال أن يقال: اللهمّ اغفر لي ذنبا لم أعمله. وقد تأوّل ذلك بعضهم بمعنى: ليغفر لك ما تقدّم من ذنبك قبل الرسالة، وما تأخر إلى الوقت الذي قال: "إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ".
وأما الفتح الذي وعد الله جلّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم هذه العدة على شكره إياه عليه، فإنه فيما ذُكر الهدنة التي جرت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش بالحديبية.
وذُكر أن هذه السورة أُنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرَفَه عن الحديبية بعد الهدنة التي جرَت بينه وبين قومه...
عن قتادة، قوله: "إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا" قال: قضينا لك قضاءً مبينا.
حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا والفتح: القضاء...
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا أبو بحر، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا جامع بن شدّاد، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: لما أقبلنا من الحُديبية أعرسنا فنمنا، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت، فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم، قال: فقلنا أيقظوه، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «افْعَلُوا كمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ، فكذلك من نام أو نسي» قال: وفقدنا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدناها قد تعلّق خطامها بشجرة، فأتيته بها، فركب فبينا نحن نسير، إذ أتاه الوحي، قال: وكان إذا أتاه اشتدّ عليه فلما سري عنه أخبرنا أنه أُنزل عليه: "إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا".
حدثنا أحمد بن المقدام، قال: حدثنا المعتمر، قال: سمعت أبي يحدّث عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: لما رجعنا من غزوة الحديبية، وقد حيل بيننا وبين نسكنا، قال: فنحن بين الحزن والكآبة، قال: فأنزل الله عزّ وجلّ: "إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ، وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، ويَهْدِيَكَ صِرَاطا مُسْتَقِيما"، أو كما شاء الله، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَليّ آيَةٌ أحَبّ إليّ مِنَ الدّنْيا جَمِيعا»...
حدثني موسى بن سهل الرملي، حدثنا محمد بن عيسى، قال: حدثنا مُجَمع بن يعقوب الأنصاريّ، قال: سمعت أبي يحدّث عن عمه عبد الرحمن بن يزيد، عن عمه مجمّع بن جارية الأنصاريّ، وكان أحد القرّاء الذين قرأوا القرآن، قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرفنا عنها، إذا الناس يهزّون الأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما للناس، قالوا: أُوحِي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا، لَيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ فقال رجل: أوَ فتحٌ هو يا رسول الله؟ قال: «نَعَمْ»، «وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّهُ لَفَتْحٌ»، قال: فقُسّمَت خيبر على أهل الحديبية، لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية...
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبيّ، قال: نزلت إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا بالحديبية، وأصاب في تلك الغزوة ما لم يصبه في غزوة، أصاب أن بُويع بيعة الرضوان، وغُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وظهرت الروم على فارس، وبلغ الهَدْىُ مَحِله، وأُطعموا نخل خيبر، وفرح المؤمنون بتصديق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبظهور الروم على فارس.
وقوله تعالى: "وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ" بإظهاره إياك على عدوّك، ورفعه ذكرك في الدنيا، وغفرانه ذنوبك في الآخرة.
"ويَهْدِيَكَ صِرَاطا مُسْتَقِيما" يقول: ويرشدك طريقك من الدين لا اعوجاج فيه، يستقيم بك إلى رضا ربك. "وَيَنْصُرَكَ اللّهُ نَصْرا عَزِيزا" يقول: وينصرك على سائر أعدائك، ومن ناوأك نصرا، لا يغلبه غالب، ولا يدفعه دافع، للبأس الذي يؤيدك الله به، وبالظفر الذي يمدّك به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إنا فتحنا لك فتحا مبينا} قال بعضهم: هو فتح مكة، وقال بعضهم: هو صُلح الحُديبيّة...
وقوله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} يُخرَّج على وجوه ثلاثة:
أحدها: إنا قضينا ذلك قضاء بيِّنًا بالحجج والبراهين على رسالتك ونبوّتك ليُعلم أنك محقّ على ما تدعو، صادق في قولك {ليغفر لك الله} بما أكرمك، وعظّم أمرك بالرسالة والنبوّة، أي أعطاك ذلك، وأكرمك به {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخّر}.
والثاني: {إنا فتحا لك فتحا مبينا} ما لم يطمع أحد من الخلائق أنه يفتح عليك أمثال تلك الفتوح {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}.
والثالث: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} جميع أبواب الحكمة والعلوم وجميع أبواب الخيرات والحسنات {ليغفر لك الله} بما أكرمك من أبواب الحكمة والخيرات.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
هو فتح مكة، وقد نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة عام الحديبية عِدَة له بالفتح، وجيء به على لفظ الماضي على عادة ربّ العزة سبحانه في أخباره؛ لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخْبِر ما لا يخفى.
فإن قلت: كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة، ولكن لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة: وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز، كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة، ونصرناك على عدوّك، لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون فتح مكة -من حيث إنه جهاد للعدوّ- سبباً للغفران والثواب والفتح والظفر بالبلد عنوة أو صلحاً بحرب أو بغير حرب، لأنه منغلق ما لم يظفر به، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح. وقيل: هو فتح الحديبية...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ونزلت السورة مؤنسة للمؤمنين، لأنهم كانوا استوحشوا من رد قريش لهم ومن تلك المهادنة التي هادنهم النبي عليه السلام فنزلت السورة مؤنسة لهم في صدهم عن البيت ومذهبه: ما كان في قلوبهم، ومنه حديث عمر الشهير وما قاله للنبي عليه السلام ولأبي بكر واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة أنه هادن عدوه ريثما يتقوى هو...
المسألة الأولى: في الفتح وجوه:
(وثالثها) المراد من الفتح صلح الحديبية.
(ورابعها) فتح الإسلام بالحجة والبرهان، والسيف والسنان.
(وخامسها) المراد منه الحكم كقوله {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} وقوله {ثم يفتح بيننا بالحق} والمختار من الكل وجوه:
(والثالث) فتح الإسلام بالآية والبيان والحجة والبرهان.
والأول مناسب لآخر ما قبلها من وجوه؛
(أحدها) أنه تعالى لما قال: {هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله}. إلى أن قال: {ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه} بين تعالى أنه فتح لهم مكة وغنموا ديارهم وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم.
(ثانيها) لما قال: {والله معكم} وقال: {وأنتم الأعلون} بين برهانه بفتح مكة، فإنهم كانوا هم الأعلون.
(ثالثها) لما قال تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم} وكان معناه لا تسألوا الصلح من عندكم، بل اصبروا فإنهم يسألون الصلح ويجتهدون فيه كما كان يوم الحديبية وهو المراد بالفتح في أحد الوجوه، وكما كان فتح مكة حيث أتى صناديد قريش مستأمنين ومؤمنين ومسلمين، فإن قيل: إن كان المراد فتح مكة، فمكة لم تكن قد فتحت، فكيف قال تعالى: {فتحنا لك فتحا مبينا} بلفظ الماضي؟ نقول: الجواب عنه من وجهين:
(أحدهما) فتحنا في حكمنا وتقديرنا.
(ثانيهما) ما قدره الله تعالى فهو كائن، فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمر لا دافع له، واقع لا رافع له.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وقال الزهري: لم يكن فتح أعظم من فتح الحديبية، اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم، وتمكن الإسلام من قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} أي: بينا ظاهرا، والمراد به صلح الحديبية فإنه حصل بسببه خير جزيل، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إنا} أي بما لنا من العظمة التي لا تثبت لها الجبال {فتحنا} أي أوقعنا الفتح المناسب لعظمتنا لكل متعلق بإتقان الأسباب المنتجة له من غير شك، ولذلك عبر عنه بالماضي...
{لك} أي بصلح الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة التي نزلت هذه السورة في شأنه...
ثم زاده تأكيداً بقوله: {فتحاً} وزاد في إعظامه بقوله: {مبيناً} أي لا لبس فيه على أحد، بل يعلم كل ذي عقل به أنك ظاهر على جميع أهل الأرض لأنك كنت وحدك، وكان عند أهل الكفر أنك في أيديهم، وأن أمرك لا يعدو فمك، فتبعك ناس ضعفاء فعذبوهم وكانوا معهم في أسوأ الأحوال، وتقرر ذلك في إذهانهم مدداً طوالاً ثلاث عشرة سنة، ثم انقذ الله أتباعك منهم بالهجرة إلى النجاشي رحمه الله تعالى أولاً، وإلى المدينة الشريفة ثانياً، وهم مطمئنون بأنك أنت -وأنت رأسهم- لا ينتظم لهم بدونك أمر، ولا يحصل لكسرهم ما لم تكن معهم جبر في هذه السورة فقال تعالى {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} -الآيات...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{إنَّا فتحنا لَكَ} فتحُ البلدِ عبارةٌ عن الظَّفرِ به عُنوةً أو صُلحاً بحِراب أو بدونِه فإنَّه ما لم يُظفرْ به منغلقٌ، مأخوذٌ من فتحِ بابِ الدارِ. وإسنادُه إلى نونِ العظمةِ لاستنادِ أفعالِ العبادِ إليه تعالى خلقاً وإيجاداً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهذا فتح في تاريخ الدعوات له حسابه، وله دلالته، وله آثاره بعد ذلك في التاريخ. ولقد فرح رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بهذه السورة. فرح قلبه الكبير بهذا الفيض الرباني عليه وعلى المؤمنين معه. فرح بالفتح المبين. وفرح بالمغفرة الشاملة، وفرح بالنعمة التامة، وفرح بالهداية إلى صراط الله المستقيم. وفرح بالنصر العزيز الكريم. وفرح برضى الله عن المؤمنين ووصفهم ذلك الوصف الجميل. وقال -في رواية -: "نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها".. وفي رواية: " لقد أنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس".. وفاضت نفسه الطيبة بالشكر لربه على ما أولاه من نعمته. فاضت بالشكر في صورة صلاة طويلة مديدة، تقول عنها عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا صلى قام حتى تنفر رجلاه، فقالت له عائشة- رضي الله عنها -يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال [صلى الله عليه وسلم]: " يا عائشة، أفلا أكون عبدا شكورا؟"..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتاح الكلام بحرف (إنّ) ناشئ على ما أحلّ للمسلمين من الكآبة على أن أجيب المشركون إلى سؤالهم الهدنة كما سيأتي من حديث عمر بن الخطاب وما تقدم من حديث عبد الله بن مغفل فالتأكيد مصروف للسامعين على طريقة التعريض، وأما النبيء صلى الله عليه وسلم فقد كان واثقاً بذلك، وسيأتي تبيين هذا التأكيد قريباً.
والفتح: إزالة غلق البابِ أو الخزانة قال تعالى: {لا تُفتَّح لهم أبواب السماء} [الأعراف: 40] ويطلق على النصر وعلى دخول الغازي بلاد عدوّه لأن أرض كل قوم وبلادهم مواقع عنها فاقتحام الغازي إياها بعد الحرب يشبه إزالة الغلق عن البيت أو الخزانة، ولذلك كثر إطلاق الفتح على النصر المقترن بدخول أرض المغلوب أو بلده ولم يطلق على انتصار كانت نهايته غنيمة وأسر دون اقتحام أرض فيقال: فتح خيبر وفتح مكة ولا يقال: فتح بَدر. وفتح أُحد. فمن أطلق الفتح على مطلق النصر فقد تسامح، وكيف وقد عطف النصر على الفتح في قوله: {نصر من الله وفتح قريب} في سورة الصف (13). ولعلّ الذي حداهم على عدّ النصر من معاني مادة الفتح أن فتح البلاد هو أعظم النصر لأن النصر يتحقق بالغلبة وبالغنيمة فإذا كان مع اقتحام أرض العدّو فذلك نصر عظيم لأنه لا يتم إلا مع انهزام العدّو أشنع هزيمة وعجزه عن الدفاع عن أرضه. وأطلق الفتح على الحكم قال تعالى: {ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين} الآية سورة ألم السجدة (28).
ولمراعاة هذا المعنى قال جمع من المفسّرين: المراد بالفتح هنا فتح مكة وأن محمله على الوعد بالفتح. والمعنى: سنفتح. وإنما جيء في الإخبار بلفظ الماضي لتحققه وتيقنه، شُبه الزمن المستقبل بالزمن الماضي فاستعملت له الصيغة الموضوعة للمضي. أو نقول استعمل {فتحنا} بمعنى: قدّرنا لك الفتح، ويكون هذا الاستعمال من مصطلحات القرآن لأنه كلام من له التصرف في الأشياء لا يحجزه عن التصرف فيها مانع. وقد جرى على عادة إخبار الله تعالى لأنه لا خلاف في إخباره، وذلك أيضاً كناية عن علو شأن المخبر مثل {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} [النحل: 1].
وما يندرج في هذا التفسير أن يكون المراد بالفتح صلح الحديبية تشبيهاً له بفتح مكة لأنه توطئة له فعن جابر بن عبد الله: ما كنّا نعدّ فتح مكة إلا يوم الحديبية، يريد أنهم أيقنوا بوقوع فتح مكة بهذا الوعد، وعن البراء بن عازب « تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية»، يريد أنكم تحملون الفتح في قوله: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} على فتح مكة ولكنه فتح بيعة الرضوان وإن كان فتح مكة هو الغالب عليه اسم الفتح.
ويؤيد هذا المحمل حديث عبد الله بن مغفَّل « قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة سورةَ الفتح»، وفي رواية « دخل مكة وهو يقرأ سورة الفتح على راحلته».
على أن قرائن كثيرة تُرجح أن يكون المراد بالفتح المذكور في سورة الفتح: أُولاها أنّه جعله مُبيناً.
الثّانية: أنه جعل علّته (النصر العزيز) الثانية، ولا يكون الشيء علّة لنفسه.
الثالثة: قوله {وأثابهم فتحاً قريباً} [الفتح: 18].
الرّابعة: قوله: {ومغانم كثيرة يأخذونها} [الفتح: 19].
الخامسة: قوله: {فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً} [الفتح: 27].
والجمهور على أن المراد في سورة الفتح هو صلح الحديبية، وجعلوا إطلاق اسم الفتح عليه مجازاً مرسلاً باعتبار أنه آل إلى فتح خيبر وفتِح مكة، أو كان سبباً فيهما فعن الزهري « لقد كان يوم الحديبية أعظم الفتوح ذلك أن النبيء صلى الله عليه وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة فلما وقع صلح مشي الناس بعضهم في بعض، أي تفرقوا في البلاد فدخل بعضهم أرض بعض من أجْل الأمن بينهم، وعلموا وسمِعوا عن الله فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه، فما مضت تلك السنتانِ إلا والمسلمون قد جاؤوا إلى مكّة في عشرة آلاف» اه، وفي رواية « فلما كانت الهدنة أمن الناس بعضُهم بعضاً فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة فلم يكلَّم أحد يعقل بالإسلام إلا دخل فيه». وعلى هذا فالمجاز في إطلاق مادة الفتح على سببه ومآله لا في صورة الفعل، أي التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي لأنه بهذا الاعتبار المجازي قد وقع فيما مضي فيكون اسم الفتح استعمل استعمال المشترك في معنييه، وصيغةُ الماضي استعملت في معنييها فيظهر وجه الإعجاز في إيثار هذا التركيب. وقيل: هو فتح خيبر الواقع عند الرجوع من الحديبية كما يجىء في قوله: {إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها} [الفتح: 15].
وعلى هذه المحامل فتأكيد الكلام ب (إن) لما في حصول ذلك من تردد بعض المسلمين أو تساؤلهم، فعن عمر أنه لما نزلت {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} قال: « أوَ فتح هو يا رسول الله؟ قال: "نعم والذي نفسي بيده إنه لفتح". وروى البيهقي عن عروة بن الزبير قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعاً فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما هذا بفتح صُددنا عن البيت وصُدّ هدينا. فبلغ ذلك رسول الله فقال: بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم الأمان وقد كرهوا منكم ما كرهوا ولقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين، فهذا أعظم الفتح أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون.
فقال المسلمون: صدق الله ورسوله وهو أعظم الفتوح والله يا رسول الله ما فكرنا فيما ذكرت، ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا».
وحذف مفعول {فتحنا} لأن المقصود الإعلام بجنس الفتح لا بالمفتوح الخاص.
واللام في قوله: {فتحنا لك} لام العلة، أي فتحنا لأجلك فتحاً عظيماً مثل التي في قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1].
وتقديم المجرور قبل المفعول المطلق خلافاً للأصل في ترتيب متعلقات الفعل لقصد الاهتمام والاعتناء بهذه العلة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وباختصار فإنّ المسلمين حصلوا على امتيازات عديدة من وراء هذا الصلح وفتحاً كبيراً نذكرها على النحو التالي:
بيّنوا عملياً للمضللين من أهل مكّة أنّهم ليس لديهم نيّة للحرب وسفك الدماء وأنّهم يحترمون مكّة وكعبتها المقدسة وكان هذا الأمر سبباً لاكتساب قلوب الكثيرين نحو الإسلام.
اعترفت قريش لأوّل مرّة بالإسلام والمسلمين «بصورة رسمية» وكان ذلك سبباً لتثبيت موقعهم في جزيرة العرب!..
استطاع المسلمون بعد صلح الحديبيّة أن يمضوا حيث يشاؤون وأن تبقى أرواحهم وأموالهم في مأمن من الخطر...
انفتح الطريق بعد صلح الحديبيّة لنشر الإسلام في الجزيرة العربية. وأثار موقف النّبي الإيجابي من الصلح القبائل العربية وأصلح نظرتها إلى الإسلام ورسوله الكريم... 5 هيّأ صلح الحديبيّة الطريق لفتح «خيبر» واستئصال هذه الغدة السرطانية «المتمثلة باليهود» والتي كانت تشكل خطراً مهمّاً «بالفعل والقوّة» على الإسلام والمسلمين!... 6 وأساساً فإنّ استيحاش قريش من مواجهة الجيش الذي كان يتألّف من ألف وأربعمائة مسلم فحسب ولا يحمل أي منهم سلاحاً سوى سلاح السفر وقبول قريش بمعاهدة الصلح كان بنفسه أيضاً عاملاً مهماً على تقوية المعنويات عند المسلمين وهزيمة أعداء الإسلام إلى درجة أنّهم كانوا يتهيّبون من مواجهة المسلمين!... 7 وبعد صلح الحديبيّة كتب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كتباً و (رسائل) متعددة إلى رؤساء الدول الكبرى (إيران والروم والحبشة) وملوك العالم البارزين يدعوهم فيها إلى الإسلام...