معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

مكية إلا آيتين من قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً } إلى قوله : { فإن مصيركم إلى النار } . وهي اثنتان وخمسون آية

{ الر } أي : هذا كتاب { أنزلناه إليك } ، يا محمد يعني : القرآن ، { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } أي : لتدعوهم من ظلمات الضلالة إلى نور الإيمان ، { بإذن ربهم } ، بأمر ربهم . وقيل : بعلم ربهم . { إلى صراط العزيز الحميد } أي : إلى دينه ، و{ العزيز } ، هو الغالب ، و{ الحميد } : هو المستحق للحمد .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة إبراهيم

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه . وبعد : فهذا تفسير وسيط لسورة إبراهيم –عليه السلام- ، توخيت فيه أن يكون تفسيرا تحليليا ، خاليا من الآراء السقيمة ، والأقوال الضعيفة . والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه ، نافعا لعباده .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

المؤلف

د . محمد سيد طنطاوي

تعريف بسورة إبراهيم –عليه السلام-

1- سورة إبراهيم –عليه السلام- هي السورة الرابعة عشرة في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول ، فقد كان بعد سورة نوح –عليه السلام- .

وقد ذكر السيوطي قبلها سبعين سورة من السور المكية( {[1]} ) .

2- وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية في المصحف الكوفي ، وإحدى وخمسون في البصري ، وأربع وخمسون في المدني ، وخمس وخمسون في الشامي .

3- وسميت بهذا الاسم ، لاشتمالها على الدعوات الطيبات التي تضرع بها إبراهيم –عليه السلام- إلى ربه ، ولا يعرف لها اسم آخر سوى هذا الاسم .

4- وجمهور العلماء على أنها مكية ، وليس فيها آية أو آيات غير مكية .

وقال الآلوسي : " أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة . والظاهر أنهما أرادا أنها كلها كذلك ، وهو الذي عليه الجمهور .

وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا آيتين فإنهما نزلتا بالمدينة وهما قوله –تعالى- : [ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار* جهنم يصلونها وبئس القرار ] فإنهما نزلتا في قتلى بدر من المشركين . . ( {[2]} ) .

وسنرى عند تفسيرنا لهاتين الآيتين ، أنه لم يقم دليل يعتمد عليه على أنهما مدنيتان . وأن السورة كلها مكية كما قال جمهور العلماء .

5- هذا ، وبمطالعتنا لهذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل نراها في مطلعها تحدثنا عن وظيفة القرآن الكريم ، وعن جانب من مظاهر قدرة الله –تعالى- ، وعن سوء عاقبة الكافرين ، وعن الحكمة في إرسال كل رسول بلسان قومه قال –تعالى- : [ الر . كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد* الله الذي لهما في السموات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد ] . .

[ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ، فيضل الله من يشاء ، ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ] .

ثم نراها بعد ذلك تحدثنا عن طرف من رسالة موسى –عليه السلام- مع قومه ، وعن أخبار بعض الأنبياء مع أقوامهم ، وعن نماذج من المحاورات التي دارت بين الرسل وبين من أرسلوا إليهم .

قال –تعالى- : [ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله ، إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور . . ] .

ثم تضرب السورة الكريمة بعد ذلك مثلا لأعمال الكافرين ، وتصور أحوالهم عندما يخرجون من قبورهم يوم القيامة ، وتحكي ما يقوله الشيطان لهم في ذلك اليوم . . فتقول :

[ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد ] . .

[ وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا ] . .

[ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ] .

ثم تسوق السورة مثلا آخر لكلمتي الإيمان والكفر فتقول : [ ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ] . .

ثم يحكي ألوانا متعددة من الأدلة على وحدانية الله –تعالى- وعلمه وقدرته ونعمه على عباده فتقول : [ الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ، وسخر لكم الأنهار . . . ] .

ثم تسوق بعد ذلك تلك الدعوات الصالحات الجامعات لأنواع الخير ، التي تضرع بها إبراهيم إلى ربه فتقول :

[ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام . . . ] .

[ رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء* ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ] .

ثم يختم –سبحانه- هذه السورة الكريمة بآيات فيها ما فيها من أنواع العذاب الذي أعده للظالمين ، وفيها ما فيها من ألوان التحذير من السير في طريق الكافرين والجاحدين فيقول :

[ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار . مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء . . . ] .

[ هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد ، وليذكر أولوا الألباب ] .

6- ومن هذا العرض الإجمالي للسورة الكريمة ، نراها اهتمت بأمور من أبرزها ما يلي :

( أ‌ ) تذكير الناس بنعم خالقهم عليهم ، وتحريضهم على شكر هذه النعم وتحذيرهم من جحودها وكفرها . .

ومن الآيات التي وردت في هذه السورة في هذا المعنى قوله –تعالى- : [ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ] .

وقوله –تعالى- : [ وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، إن الإنسان لظلوم كفار ] .

( ب‌ ) تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما لقيه من مشركي قريش ، تارة عن طريق ما لقيه الأنبياء السابقون من أقوامهم ، وتارة عن طريق بيان أن العاقبة للمتقين .

ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله –تعالى- : [ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ، جاءتهم رسلهم بالبينات ، فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب . . . ] .

وقوله –تعالى- : [ وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ، فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين . ولنسكننكم الأرض من بعدهم . . . ] .

( ج ) اشتمال السورة الكريمة على أساليب متعددة للترغيب في الإيمان ، وللتحذير من الكفر ، تارة عن طريق ضرب الأمثال ، وتارة عن طريق بيان حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المكذبين ، وتارة عن طريق حكاية ما يقوله الشيطان لأتباعه يوم القيامة ، وما يقوله الضعفاء للذين استكبروا وما يقوله الظالمون يوم يرون العذاب . .

ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله –تعالى- : [ ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة ، أصلها ثابت وفرعها في السماء . تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ] .

وقوله –تعالى- : [ فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام ] .

وقوله –تعالى- : [ وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل . . . ] .

هذه بعض الموضوعات التي اهتمت السورة بإبرازها وبتركيز الحديث عنها ، وهناك موضوعات أخرى عنيت السورة بتفصيل الحديث عنها ، ويراها المتدبر لآياتها . .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

سورة إبراهيم - عليه السلام - من السور القرآنية التى افتتحت بحرف من الحروف المقطعة وهو قوله - تعالى - : { الار } .

وقد سبق أن ذكرنا آراء العلماء فى هذه الحروف عند تفسيرنا لسور : آل عمران ، والأعراف ، ويونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد .

وقلنا ما خلاصته : لعل أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت فى افتتاح بعض سور القرآن ، على سبيل الإِيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن .

فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعاندين والمعارضين فى أن القرآن من عند الله . هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم فى شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك ، فإن لم تستطيعوا فهاتوا عشر سور من مثله ، فإن عجزتم فهاتوا سورة واحدة من مثله .

قال - تعالى - : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وادعوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وقوله { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } تنويه بشأن القرآن الكريم ، وبيان للغرض السامى الذى أنزله الله - تعالى - من أجله .

والظلمات : جمع ظلمة ، والمراد بها : الكفر والضلال ، والمراد بالنور : الإِيمان والهداية .

والباء فى { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } للسببية ، والجار والمجرور متعلق بقوله { لِتُخْرِجَ } .

والصراط : الجادة والطريق ، من سرط الشئ إذا ابتلعه ، وسمى الطريق بذلك ، لأنه يبتلع المارين فيه ، وأبدلت سينه صادا على لغة قريش .

والمعنى : هذا كتاب جليل الشأن ، عظيم القدر ، أنزلناه إليك يا محمد ، لكى تخرج الناس من ظلمات الكفر والجهالة والضلال ، إلى نور الإِيمان والعلم والهداية وهذا الإِخراج إنما هو بإذن ربهم ومشيئته وإرادته وأمره .

وقوله { إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } بدل من قوله { إِلَى النور } .

أى لتخرج الناس من ظلمات الكفر والضلال إلى طريق الله { العزيز } أى : الذى يَغلب ولا يُغلب { الحميد } أى : المحمود بكل لسان .

وأسند - سبحانه - الإِخراج إلى النبى صلى الله عليه وسلم باعتباره المبلغ لهذا الكتاب المشتمل على الهداية التى تنقل الناس من الكفر إلى الإِيمان ، ومن الجهالة إلى الهداية وشبه الكفر بالظلمات - كما يقول الإِمام الرازى - ، لأنه ما يتحير الرجل فيه عن طريق الهداية ، وشبه الإِيمان بالنور ، لأنه ناية ما ينجلى به طريق هدايته " .

وفى جمع " الظلمات " وإفراد " النور " إشارة إلى أن للكفر طرقا كثيرة ، وأما الإِيمان فطريق واحد .

وقوله - سبحانه - : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } احتراس لبيان أن نقل الناس من حال إلى حال إنما هو بإرادة الله - تعالى - ومشيئته ، وأن الرسول ما هو إلا مبلغ فقط ، أما الهداية فمن الله وحده .


[1]:- سورة إبراهيم: الآية 1.
[2]:- سورة الإسراء. الآية 9.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة إبراهيم مكية وآياتها ثنتان وخمسون .

هذه السورة - سورة إبراهيم - مكية ، موضوعها الأساسي هو موضوع السور المكية الغالب : العقيدة في أصولها الكبيرة : الوحي والرسالة والتوحيد والبعث والحساب والجزاء .

ولكن السياق في السورة يسلك نهجا خاصا بها في عرض هذا الموضوع وحقائقه الأصيلة . نهجا مفردا يميزها - كالشأن في كل سورة قرآنية - عن السور غيرها . يميزها بجوها وطريقة أدائها ، والأضواء والظلال الخاصة التي تعرض فيها حقائقها الكبرى . ولون هذه الحقائق التي قد لا تفترق موضوعيا عن مثيلاتها في السور الأخرى ؛ ولكنها تعرض من زاوية خاصة ، في أضواء خاصة فتوحي إيحاءات خاصة . كما تختلف مساحتها في رقعة السورة وجوها ، فتزيد أطرافا وتنقص أطرافا ، فيحسها القارئ جديدة بما وقع فيها من تجديد في " اللقطات الفنية " . ونحن نستعمل هذا التعبير " اللقطات الفنية " لأنه يلاحظ في صورته المعجزة في طريقة الأداء القرآنية !

ويبدو أنه كان لجو السورة من اسمها نصيب . . إبراهيم . . أبو الأنبياء . . المبارك ، الشاكر الأواه المنيب . وكل الظلال التي تخلعها هذه الصفات ملحوظة في جو السورة ، وفي الحقائق التي تبرزها ، وفي طريقة الأداء ، وفي التعبير والإيقاع .

ولقد تضمنت السورة عدة حقائق رئيسية في العقيدة . ولكن حقيقتين كبيرتين تظللان جو السورة كلها . وهما الحقيقتان المتناسقتان مع ظل إبراهيم في جو السورة : حقيقة وحدة الرسالة والرسل ، ووحدة دعوتهم ، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة بدين الله على اختلاف الأمكنة والأزمان . وحقيقة نعمة الله على البشر وزيادتها بالشكر ؛ ومقابلة أكثر الناس لها بالجحود والكفران . .

وبروز هاتين الحقيقتين ، أو هذين الظلين . لا ينفي أن هناك حقائق أخرى في سياق السورة . ولكن هاتين الحقيقتين تظللان جو السورة . وهذا ما أردنا الإشارة إليه :

تبدأ السورة ببيان وظيفة الرسول وما أوتيه من كتاب . . فهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن الله :

( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) .

وتختم بهذا المعنى وبالحقيقة الكبرى التي تتضمنها الرسالة . حقيقة التوحيد :

( هذا بلاغ للناس ولينذروا به ، وليعلموا أنما هو إله واحد ، وليذكر أولو الألباب ) .

وفي أثنائها يذكر أن موسى قد أرسل بمثل ما أرسل به محمد [ ص ] ولمثل ما أرسل به ، حتى في ألفاظ التعبير :

( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ) . .

ويذكر كذلك أن وظيفة الرسل عامة كانت هي البيان :

( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) . . .

وتتضمن إلى جانب وظيفة الرسول بيان حقيقته البشرية ، وهي التي تحدد وظيفته . فهو مبلغ ومنذر وناصح ومبين . ولكنه لا يملك أن يأتي بخارقة إلا بإذن الله ، وحين يشاء الله ، لا حين يشاء هو أو قومه ؛ ولا يملك كذلك أن يهدي قومه أو يضلهم ، فالهدى والضلال متعلقان بسنة الله التي اقتضتها مشيئته المطلقة .

ولقد كانت بشرية الرسل هي موضع الاعتراض من جميع الأقوام في جاهليتهم ، والسورة هنا تحكي قولهم مجتمعين :

( قالوا : إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ، فأتونا بسلطان مبين ) .

وتحكي رد رسلهم كذلك مجتمعين :

( قالت لهم رسلهم : إن نحن إلا بشر مثلكم ، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده . وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله . وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) .

ويتضمن السياق كذلك أن إخراج الناس من الظلمات إلى النور إنما يتم ( بإذن ربهم ) . . وكل رسول يبين لقومه ( فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ، وهو العزيز الحكيم ) .

وبهذا وذلك تتحدد حقيقة الرسول ، فتتحدد وظيفته في حدود هذه الحقيقة ، ولا تشتبه حقيقة الرسل البشرية وصفاتهم ، بشيء من حقيقة الذات الإلهية وصفاتها . وكذلك يتجرد توحيد الله بلا ظل من مماثلة أو مشابهة .

كذلك تتضمن السورة تحقق وعد الله للرسل والمؤمنين بهم إيمانا حقا . تحقق ذلك الوعد في الدنيا بالنصر والاستخلاف ، وفي الآخرة بعذاب المكذبين ونعيم المؤمنين .

يصور السياق هذه الحقيقة الكبيرة في نهاية المعركة بين الرسل مجتمعين وقومهم مجتمعين في الدنيا :

( وقال الذين كفروا لرسلهم : لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ، ولنسكننكم الأرض من بعدهم . ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد . . واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد . . ) .

ويصورها في مشاهد القيامة في الآخرة :

( وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام ) . .

( وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد ، سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ) . .

ويصورها في الأمثال التي يضربها لهؤلاء وهؤلاء :

( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ؛ ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون . ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثتمن فوق الأرض ما لها من قرار . يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، ويضل الله الظالمين ، ويفعل الله ما يشاء ) . .

( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، لا يقدرون مما كسبوا على شيء . ذلك هو الضلال البعيد ) . .

فأما الحقيقتان اللتان تظللان جو السورة ، وتتسقان مع ظل إبراهيم : أبي الأنبياء . الشكور الأواه المنيب ، وهما حقيقة وحدة الرسالة والرسل ، ووحدة دعوتهم ، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة . وحقيقة نعمة الله على البشر كافة وعلى المختارين منهم بصفة خاصة . . فنفردهما هنا بالحديث .

فأما الحقيقة الأولى فيبرزها السياق في معرض فريد في طريقة الأداء . لقد أبرزها سياق بعض السور الماضية في صورة توحيد الدعوة التي يجيء بها كل رسول ، فيقول كلمته لقومه ويمضي ، ثم يجيء رسول ورسول . كلهم يقولون الكلمة ذاتها ، ويلقون الرد ذاته ، ويصيب المكذبين ما يصيبهم في الدنيا ، وينظر بعضهم ويمهل إلى أجل في الأرض أو إلى أجل في يوم الحساب . ولكن السياق هناك كان يعرض كل رسول في مشهد ، كالشريط المتحرك منذ الرسالات الأولى . وأقرب مثل لهذا النسق سورة الأعراف وسورة هود .

فأما سورة إبراهيم - أبي الأنبياء - فتجمع الأنبياء كلهم في صف وتجمع الجاهليين كلهم في صف . وتجري المعركة بينهم في الأرض ، ثم لا تنتهي هنا ، بل تتابع خطواتها كذلك في يوم الحساب !

ونبصر فنشهد أمة الرسل ، وأمة الجاهلية ، في صعيد واحد ، على تباعد الزمان والمكان . فالزمان والمكان عرضان زائلان ، أما الحقيقة الكبرى في هذا الكون - حقيقة الإيمان والكفر - فهي أضخم وأبرز من عرضي الزمان والمكان :

ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود . والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله . جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم ، وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به ، وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب . قالت رسلهم : أفي الله شك فاطر السماوات والأرض ، يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ، ويؤخركم إلى أجل مسمى ؟ قالوا : إن أنتم إلا بشر مثلنا ، تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ، فأتونا بسلطان مبين . قالت لهم رسلهم : إن نحن إلا بشر مثلكم ، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ، وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون . وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ، ولنصبرن على ما آذيتمونا . وعلى الله فليتوكل المتوكلون . وقال الذين كفروا لرسلهم : لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا . فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ، ولنسكننكم الأرض من بعدهم . ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد .

( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ، من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد ، يتجرعه ولا يكاد يسيغه ، ويأتيه الموت من كل مكان ، وما هو بميت ، ومن ورائه عذاب غليظ ) . .

فها هنا تتجمع الأجيال من لدن نوح وتتجمع الرسل ؛ ويتلاشى الزمان والمكان ؛ وتبرز الحقيقة الكبرى : حقيقة الرسالة وهي واحدة . واعتراضات الجاهليين عليها وهي واحدة . وحقيقة نصر الله للمؤمنين وهي واحدة . وحقيقة استخلاف الله للصالحين وهي واحدة . وحقيقة الخيبة والخذلان للمتجبرين وهي واحدة . وحقيقة العذاب الذي ينتظرهم هناك وهي واحدة . . وذلك إلى التماثل بين قول الله لمحمد [ ص ] :

( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) .

وحكاية قوله لموسى - عليه السلام - :

( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ) .

ولا تنتهي المعركة بين الكفر والإيمان هنا بل يتابع السياق خطواته بها إلى ساحة الآخرة . فتبرز معالمها في مشاهد القيامة المتنوعة التي تتضمنها السورة . وهذه نماذج منها :

( وبرزوا لله جميعا ، فقال الضعفاء للذين استكبروا : إنا كنا لكم تبعا ، فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ؟ قالوا : لو هدانا الله لهديناكم ، سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص . وقال الشيطان لما قضي الأمر : إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ، وما كان لي عليكم من سلطان ، إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ، ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ، إني كفرت بما أشركتمون من قبل ، إن الظالمين لهم عذاب أليم . . وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم ، تحيتهم فيها سلام ) . .

( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار . مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ) . .

( وقد مكروا مكرهم ، وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال . فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله . إن الله عزيز ذو انتقام . يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ، وبرزوا لله الواحد القهار ، وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد . سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ) . . .

وهي كلها تشير إلى أنها معركة واحدة تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة ، وتكمل إحداهما الأخرى بلا انقطاع ولا انفصال .

وتكمل الأمثال التي تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة كذلك إبراز معالم المعركة بين الفريقين ، ونتائجها الأخيرة : مثل الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة : شجرة النبوة ، وشجرة الإيمان ، وشجرة الخير . والكلمة الخبيثة : كالشجرة الخبيثة : شجرة الجاهلية والباطل والتكذيب والشر والطغيان .

وأما الحقيقة الثانية المتعلقة بالنعمة والشكر والبطر فتطبع جو السورة كله ، وتتناثر في سياقها .

يعدد الله نعمه على البشر كافة ، مؤمنهم وكافرهم ، صالحهم وطالحهم ، برهم وفاجرهم ، طائعهم وعاصيهم . وإنها لرحمة من الله وسماحة وفضل أن يتيح للكافر والفاجر والعاصي نعمة في هذه الأرض ، كالمؤمن والبار والطائع : لعلهم يشكرون . ويعرض هذه النعمة في أضخم مجالي الكون وأبرزها ، ويضعها داخل إطار من مشاهد الوجود العظيمة :

( الله الذي خلق السماوات والأرض ، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ؛ وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ، وسخر لكم الأنهار . وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ، وسخر لكم الليل والنهار . وآتاكم من كل ما سألتموه ، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها . إن الإنسان لظلوم كفار ) . .

وفي إرسال الرسل للناس نعمة تعدل تلك أو تربو عليها :

( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) . .

والنور أجل نعم الله في الوجود . والنور هنا هو النور الأكبر . النور الذي يشرق به كيان الإنسان ، ويشرق به الوجود في قلبه وحسه . . وكذلك كانت وظيفة موسى في قومه . ووظيفة الرسل كما بينتها السورة .

وفي قول الرسل مجتمعين :

( يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ) . .

والدعوة لأجل الغفران نعمة تعدل نعمة النور ، وهي منه قريب . .

وفي جو الحديث عن النعمة يذكر موسى قومه بأنعم الله عليهم :

( وإذ قال موسى لقومه : اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) .

وفي هذا الجو يذكر وعد الله للرسل :

( فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم . ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ) . .

وهي نعمة من نعم الله الكثار الكبار .

ويبرز السياق حقيقة زيادة النعمة بالشكر :

( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) . .

مع بيان أن الله غني عن الشكر وعن الشاكرين :

( إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ) .

ويقرر السياق أن الإنسان في عمومه لا يشكر النعمة حق الشكر :

( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ) . .

ولكن الذين يتدبرون آيات الله ، وتتفتح لها بصائرهم يصبرون على البأساء ويشكرون على النعماء :

( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) .

ويمثل الصبر والشكر في شخص إبراهيم في موقف خاشع ، وفي دعاء واجف ، عند بيت الله الحرام ، كله حمد وشكر وصبر ودعاء .

( وإذ قال إبراهيم : رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام . رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ، فمن تبعني فإنه مني ، ومن عصاني فإنك غفور رحيم . ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم . ربنا ليقيموا الصلاة ، فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون . ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن ، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء . الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء . رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ، ربنا وتقبل دعاء ، ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ) . .

ولأن النعمة والشكر عليها والكفر بها تطبع جو السورة تجيء التعبيرات والتعليقات فيها متناسقة مع هذا الجو :

( وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) . .

( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) . .

( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ) . .

( اذكروا نعمة الله عليكم ) . .

( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ) . .

وفي رد الأنبياء على اعتراض المكذبين بأنهم بشر يجيء :

( ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) . .

فيبرز منة الله تنسيقا للرد مع جو السورة كله . جو النعمة والمنة والشكر والكفران . .

وهكذا يتساوق التعبير اللفظي مع ظلال الجو العام في السورة كلها على طريقة التناسق الفني في القرآن . .

وتنقسم السورة إلى مقطعين متماسكي الحلقات :

المقطع الأول يتضمن بيان حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول . ويصور المعركة بين أمة الرسل وفرقة المكذبين في الدنيا وفي الآخرة ، ويعقب عليها بمثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة .

والمقطع الثاني يتحدث عن نعم الله على البشر ، والذين كفروا بهذه النعمة وبطروا . والذين آمنوا بها وشكروا ونموذجهم الأول هو إبراهيم . ويصور مصير الظالمين الكافرين بنعمة الله في سلسلة من أعنف مشاهد القيامة وأجملها ، وأحفلها بالحركة والحياة . . ليختم السورة ختاما يتسق مع مطلعها :

هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد ، وليذكر أولو الألباب . .

فلنأخذ في السير مع المقطع الأول في السياق :

( ألر . كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد . الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ، وويل للكافرين من عذاب شديد . الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ، ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، أولئك في ضلال بعيد . وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ، فيضل الله من يشاء ، ويهدي من يشاء ، وهو العزيز الحكيم ) . .

ألف لام . را . . ( كتاب أنزلناه إليك ) . .

هذا الكتاب المؤلف من جنس هذه الأحرف كتاب أنزلناه إليك . لم تنشئه أنت . أنزلناه إليك لغاية :

( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) . .

لتخرج هذه البشرية من الظلمات . ظلمات الوهم والخرافة . وظلمات الأوضاع والتقاليد . وظلمات الحيرة في تيه الأرباب المتفرقة ، وفي اضطراب التصورات والقيم والموازين . . لتخرج البشرية من هذه الظلمات كلها إلى النور . النور الذي يكشف هذه الظلمات . يكشفها في عالم الضمير وفي دنيا التفكير . ثم يكشفها في واقع الحياة والقيم والأوضاع والتقاليد .

والإيمان بالله نور يشرق في القلب ، فيشرق به هذا الكيان البشري ، المركب من الطينة الغليظة ومن نفخة روح الله . فإذا ما خلا من إشراق هذه النفخة ، وإذا ما طمست فيه هذه الإشراقة استحال طينة معتمة . طينة من لحم ودم كالبهيمة ، فاللحم والدم وحدهما من جنس طينة الأرض ومادتها . لولا تلك الإشراقة التي تنتفض فيه من روح الله ، يرقرقها الإيمان ويجلوها ، ويطلقها تشف في هذا الكيان المعتم ، ويشف بها هذا الكيان المعتم .

والإيمان بالله نور تشرق به النفس ، فترى الطريق . ترى الطريق واضحة إلى الله ، لا يشوبها غبش ولا يحجبها ضباب . غبش الأوهام وضباب الخرافات . أو غبش الشهوات وضباب الأطماع . ومتى رأت الطريق سارت على هدى لا تتعثر ولا تضطرب ولا تتردد ولا تحتار .

والإيمان بالله نور تشرق به الحياة . فإذا الناس كلهم عباد متساوون . تربط بينهم آصرتهم في الله وتتمحض دينونتهم له دون سواه ، فلا ينقسمون إلى عبيد وطغاة . وتربطهم بالكون كله رابطة المعرفة . معرفة الناموس المسير لهذا الكون وما فيه ومن فيه . فإذا هم في سلام مع الكون وما فيه ومن فيه .

والإيمان بالله نور . نور العدل . ونور الحرية . ونور المعرفة . ونور الأنس بجوار الله ، والاطمئنان إلى عدله ورحمته وحكمته في السراء والضراء . ذلك الاطمئنان الذي يستتبع الصبر في الضراء والشكر في السراء على نور من إدراك الحكمة في البلاء .

والإيمان بالله وحده إلها وربا ، منهج حياة كامل لا مجرد عقيدة تغمر الضمير وتسكب فيه النور . . منهج حياة يقوم على قاعدة العبودية لله وحده ، والدينونة لربوبيته وحده ، والتخلص من ربوبيات العبيد ، والاستعلاء على حاكمية العبيد . .

وفي هذا المنهج من المواءمة مع الفطرة البشرية ، ومع الحاجات الحقيقية لهذه الفطرة ، ما يملأ الحياة سعادة ونور وطمأنينة وراحة . كما أن فيه من الاستقرار والثبات عاصما من التقلبات والتخبطات التي تتعرض لها المجتمعات التي تخضع لربوبية العبيد ، وحاكمية العبيد ، ومناهج العبيد في السياسة والحكم وفي الاقتصاد والاجتماع ، وفي الخلق والسلوك ، وفي العادات والتقاليد . . وذلك فوق صيانة هذا المنهج للطاقة البشرية أن تبذل في تأليه العبيد ، والطبل والزمر للطواغيت ! ! !

وإن وراء هذا التعبير القصير : ( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور . . )لآفاقا بعيدة لحقائق ضخمة عميقة في عالم العقل والقلب . وفي عالم الحياة والواقع ، لا يبلغها التعبير البشري ولكنه يشير !

( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور . . بإذن ربهم ) . .

فليس في قدرة الرسول إلا البلاغ ، وليس من وظيفته إلا البيان . أما إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، فإنما يتحقق بإذن الله ، وفق سنته التي ارتضتها مشيئته ، وما الرسول إلا رسول !

( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ) . . ( إلى صراط العزيز الحميد ) . .

فالصراط بدل من النور . وصراط الله : طريقه ، وسنته ، وناموسه الذي يحكم الوجود وشريعته التي تحكم الحياة . والنور يهدي إلى هذا الصراط ، أو النور هو الصراط . وهو أقوى في المعنى . فالنور المشرق في ذات النفس هو المشرق في ذات الكون . هو السنة . هو الناموس . هو الشريعة . والنفس التي تعيش في هذا النور لا تخطيء الإدراك ولا تخطيء التصور ولا تخطيء السلوك . فهي على صراط مستقيم . . ( صراط العزيز الحميد ) . . مالك القوة القاهر المسيطر المحمود المشكور .

والقوة تبرز هنا لتهديد من يكفرون ، والحمد يبرز لتذكير من يشكرون .

/خ27

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية .

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور .

{ كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ } أي : هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد ، وهو القرآن العظيم ، الذي هو أشرف كتاب أنزله الله من السماء ، على أشرف رسول بعثه الله في الأرض ، إلى جميع أهلها عربهم وعجمهم{[15736]} .

{ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أي : إنما بعثناك يا محمد بهذا الكتاب ؛ لتخرج الناس مما هم فيه من الضلال والغي إلى الهدى والرشد ، كما قال : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } الآية[ البقرة : 257 ] ، وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ }

[ الحديد : 9 ] .

وقوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } أي : هو الهادي لمن قَدر له الهداية على يدي رسوله المبعوث عن أمره يهديهم { إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ } أي : العزيز الذي لا يمانع ولا يغالب ، بل هو القاهر لكل ما سواه ، " الحميد " أي : المحمود في جميع أفعاله وأقواله ، وشرعه وأمره ونهيه ، الصادق في خبره .


[15736]:- في ت ، أ : "عربيهم وعجميهم".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

أضيفت هذه السورة إلى اسم إبراهيم عليه السلام فكان ذلك اسما لها لا يعرف لها غيره . ولم أقف على إطلاق هذا الاسم عليها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا في كلام أصحابه في خبر مقبول .

ووجه تسميتها بهذا وإن كان ذكر إبراهيم عليه السلام جرى في كثير من السور أنها من السور ذوات { ألر } . وقد ميز بعضها عن بعض بالإضافة إلى أسماء الأنبياء عليهم السلام التي جاءت قصصهم فيها ، أو إلى مكان بعثة بعضهم وهي سورة الحجر ، ولذلك لم تضف سورة الرعد إلى مثل ذلك لأنها متميزة بفاتحتها بزيادة حرف ميم على ألف ولام وراء .

وهي مكية كلها عند الجمهور . وعن قتادة إلا آيتي { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا } إلى قوله { وبئس القرار } ، وقيل : إلى قوله : { فإن مصيركم إلى النار } . نزل ذلك في المشركين في قضية بدر ، وليس ذلك إلا توهما كما ستعرفه .

نزلت هذه السور بعد سورة الشورى وقبل سورة الأنبياء . وقد عدت السبعين في ترتيب السور في النزول .

وعدت آياتها أربعا وخمسين عند المدنين وخمسين عند أهل الشام ، وإحدى وخمسين عند أهل البصرة . واثنتين وخمسين عند أهل الكوفة .

واشتملت من الأغراض على أنها ابتدأت بالتنبيه إلى إعجاز القرآن ، وبالتنويه بشأنه ، وأنه أنزل لإخراج الناس من الضلالة . والامتنان بأن جعله بلسان العرب . وتمجيد الله تعالى الذي أنزله .

ووعيد الذين كفروا به بمن أنزل عليه .

وإيقاظ المعاندين بأن محمد صلى الله عليه وسلم ما كان بدعا من الرسل . وأن كونه بشرا أمر غير مناف لرسالته من عند الله كغيره من الرسل . وضرب له مثلا برسالة موسى عليه السلام إلى فرعون لإصلاح حال بني إسرائيل .

وتذكيره قومه بنعم الله ووجوب شكرها .

وموعظته إياهم بما حل بقوم نوح وعاد ومن بعدهم وما لاقته رسلهم من التكذيب .

وكيف كانت عاقبة المكذبين .

وإقامة الحجة على تفرد الله تعالى بالإلهية بدلائل مصنوعاته .

وذكر البعث .

وتحذير الكفار من تغرير قادتهم وكبرائهم بهم من كيد الشيطان .

وكيف يتبرأون منهم يوم الحشر .

ووصف حالهم وحال المؤمنين يومئذ .

وفضل كلمة الإسلام وخبث كلمة الكفر .

ثم التعجيب من حال قوم كفروا نعمة الله وأوقعوا من تبعهم في دار البوار بالإشراك .

والإيماء إلى مقابلته بحال المؤمنين .

وعد بعض نعمة على الناس تفضيلا ثم جمعها إجمالا .

ثم ذكر الفريقين بحال إبراهيم عليه السلام ليعلم الفريقان من هو سالك سبيل إبراهيم عليه السلام ومن هو ناكب عنه من ساكني البلد الحرام .

وتحذيرهم من كفران النعمة .

وإنذارهم أن يحل بالذين ظلموا من قبل .

وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بوعد النصر .

وما تخلل ذلك من الأمثال .

وختمت بكلمات جامعة من قوله { هذا بلاغ للناس } إلى آخرها .

{ ألر } تقدم الكلام على الحروف المقطعة في فاتحة سورة البقرة وعلى نظير هذه الحروف في سورة يونس .

{ الر } .

تقدم الكلام عى الحروف المقطعة في فاتحة سورة البقرة وعلى نظير هذه الحروف في سورة يونس .

{ كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد }

الكلام على تركيب { الر كتاب أنزلته إليك } كالكلام على قوله تعالى : { ألمص كتاب أنزل إليك } [ سورة الأعراف : 1 2 ] عدا أن هذه الآية ذكر فيها فاعل الإنزال وهو معلوم من مادة الإنزال المشعرة بأنه وارد من قبل العالم العلوي ، فللعلم بمنزله حذف الفاعل في آية سورة الأعراف ، وهو مقتضى الظاهر والإيجاز ؛ ولكنه ذكر هنا لأن المقام مقام الامتنان على الناس المستفاد من التعليل بقوله : لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } ، ومن ذكر صفة الربوبية بقوله : { بإذن ربهم } ، بخلاف آية سورة الأعراف فإنها في مقام الطمأنة والتصبير للنبيء عليه الصلاة والسلام المنزل إليه الكتاب ، فكان التعرض لذكر المنزل إليه والاقتصار عليه أهم في ذلك المقام مع ما فيه من قضاء حق الإيجاز .

أما التعرض للمنزل إليه هنا فللتنويه بشأنه ، وليجعل له حظ في هذه المنة وهو حظ الوساطة ، كما دل عليه قوله : { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } ، ولما فيه من غم المعاندين والمبغضين للنبيء صلى الله عليه وسلم .

ولأجل هذا المقصد وقع إظهار صفات فاعل الإنزال ثلاث مرات في قوله : { بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد } بعد أن كان المقام للإضمار تبعاً لقوله : { أنزلناه } .

وإسناد الإخراج إلى النبي عليه الصلاة والسلام لأنه يبلغ هذا الكتاب المشتمل على تبيين طرق الهداية إلى الإيمان وإظهار فساد الشرك والكفر ، وهو مع التبليغ يبين للناس ويقرب إليهم معاني الكتاب بتفسيره وتبيينه ، ثم بما يبنيه عليه من المواعظ والنذر والبشارة . وإذ قد أسند الإخراج إليه في سياق تعليل إنزال الكتاب إليه عُلِم أن إخراجه إياهم من الظلمات بسبب هذا الكتاب المنزل ، أي بما يشتمل عليه من معاني الهداية .

وتعليل الإنزال بالإخراج من الظلمات دل على أن الهداية هي مراد الله تعالى من الناس ، وأنه لم يتركهم في ضلالهم ، فمن اهتدى فبإرشاد الله ومن ضلّ فبإيثار الضال هوى نفسه على دلائل الإرشاد ، وأمرُ الله لا يكون إلا لحِكم ومصالح بعضها أكبر من بعض .

والإخراج : مستعار للنقل من حال إلى حال . شبه الانتقال بالخروج فشبه النقل بالإخراج .

و { الظلماتُ والنور } استعارة للكفر والإيمان ، لأن الكفر يجعل صاحبه في حيرة فهو كالظلمة في ذلك ، والإيمان يرشد إلى الحق فهو كالنور في إيضاح السبيل . وقد يستخلص السامع من ذلك تمثيل حال المنغمس في الكفر بالمتحير في ظلمة ، وحال انتقاله إلى الإيمان بحال الخارج من ظلمة إلى مكانٍ نيّر .

وجمع { الظلمات } وإفراد { النور } تقدم في أول سورة الأنعام ( 1 ) .

والباء في { بإذن ربهم } للسببية ، والإذنُ : الأمر بفعل يتوقف على رضَى الآمر به ، وهو أمر الله إياه بإرساله إليهم لأنه هو الإذن الذي يتعلق بجميع الناس ، كقوله : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } . ولما كان الإرسال لمصلحتهم أضيف الإذن إلى وصف الربّ المضاف إلى ضمير الناس ، أي بإذن الذي يدبر مصالحهم .

وقوله : { إلى صراط العزيز الحميد } [ سورة إبراهيم : 1 ] بدل من { النور } بإعادة الجار للمبدل منه لزيادة بيان المبدل منه اهتماماً به ، وتأكيد للعامل كقوله تعالى : { قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم } في سورة الأعراف ( 88 ) .

ومناسبة الصراط المستعار للدين الحق ، لاستعارة الإخراج والظلمات والنور ولما يتضمنه من التمثيل ، ظاهرة .

واختيار وصف { العزيز الحميد } من بين الصفات العُلى لمزيد مناسبتها للمقام ، لأن العزيز الذي لا يُغلب . وإنزال الكتاب برهان على أحقية ما أراده الله من الناس فهو به غالب للمخالفين مقيمٌ الحجة عليهم .

والحميد : بمعنى المحمود ، لأن في إنزال هذا الكتاب نعمة عظيمة ترشد إلى حمده عليه ، وبذلك استوعبَ الوصفان الإشارة إلى الفريقين من كل منساق إلى الاهتداء من أول وهلة ومن مجادل صائر إلى الاهتداء بعد قيام الحجة ونفاد الحيلة .