معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَـٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (36)

قوله تعالى : { والبدن } جمع بدنة سميت بدنة لعظمها وضخامتها ، يريد : الإبل العظام الصحاح الأجسام ، يقال بدن الرجل بدناً وبدانةً إذا ضخم ، فأما إذا أسن واسترخى يقال بدن تبديناً . قال عطاء و السدي : البدن : الإبل والبقر أما الغنم فلا تسمى بدنة . { جعلناها لكم من شعائر الله } من أعلام دينه ، سميت شعائر لأنها تشعر ، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم أنها هدي ، { لكم فيها خير } النفع في الدنيا والأجر في العقبى ، { فاذكروا اسم الله عليها } أي : عند نحرها ، { صواف } أي : قياماً على ثلاث قوائم قد صفت رجليها وإحدى يديها ، ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد الله بن مسلمة ، أنبأنا يزيد بن زريع ، عن يونس ، عن زياد بن جبير قال : " رأيت بن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنةً ينحرها ، قال : ابعثها قياماً مقيدةً سنة محمد صلى الله عليه وسلم . وقال مجاهد : الصواف إذا عقلت رجلها اليسرى وقامت على ثلاث قوائم . وقرأ ابن مسعود : صوافن وهى أن تعقل منها يد وتنحر على ثلاث ، وهو مثل صواف . وقرأ أبي والحسن ومجاهد : صوافي بالياء أي : صافية خالصة لله لا شريك له فيها . { فإذا وجبت جنوبها } يعني : سقطت بعد النحر فوقعت جنوبها على الأرض . وأصل الوجوب : الوقوع . يقال : وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب ، { فكلوا منها } أمر إباحة ، { وأطعموا القانع والمعتر } اختلفوا في معناها : فقال عكرمة و إبراهيم و قتادة : القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل ، والمعتر : الذي يسأل . وروى العوفي عن ابن عباس : القانع الذي لا يعترض ولا يسأل ، والمعتر الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل ، فعلى هذين التأويلين يكون القانع : من القناعة ، يقال : قنع قناعة إذا رضي بما قسم له . وقال سعيد بن جبير والحسن والكلبي : القانع : الذي يسأل ، والمعتر : الذي يتعرض ولا يسأل ، فيكون القانع من قنع يقنع قنوعاً إذا سأل . وقرأ الحسن : والمعتري وهو مثل المعتر ، يقال : عره واعتره وعراه واعتراه إذا أتاه بطلب معروفه ، إما سؤالاً وإما تعرضاً . وقال ابن زيد : القانع : المسكين ، والمعتر : الذي ليس بمسكين ، ولا يكون له ذبيحة يجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم . { كذلك } يعني : مثل ما وصفنا من نحرها قياماً ، { سخرناها لكم } نعمة منا لتتمكنوا من نحرها ، { لعلكم تشكرون } لكي تشكروا إنعام الله عليكم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَـٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (36)

ثم أكد سبحانه - ما سبق الحديث عنه من وجوب ذكر اسمه - تعالى - عند الذبح ، ومن وجوب شكره على نعمه فقال : { والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله } .

والبدن : جمع بدنة . وهى الإبل خاصة التى تهدى إلى البيت الحرام للتقرب بها إلى الله - تعالى - وقيل : البدن تطلق على الإبل والبقر .

وسميت بهذا الإسم لبدانتها وضخامتها . يقال : بدن الرجل - بوزن كرم - إذا كثر لحمه ، وضخم جسمه .

أى : وشرعنا لكم - أيها المؤمنون - التقرب إلينا بالإبل البدينة السمينة وجعلنا ذلك شعيرة من شعائر ديننا ، وعلامة من العلامات الدالة على قوة إيمان من ينفذ هذه الشعيرة بتواضع وإخلاص .

وقوله - تعالى - { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } جملة مستأنفة مقررة لما قبلها . أى : لكم فيه خير فى الدنيا عن طريق الانتفاع بألبانها ووبرها . . . ولكم فيها خير فى الآخرة عن طريق الثواب الجزيل الذى تنالونه من خالقكم بسبب استجابتكم لما ارشدكم إليه .

وقوله - تعالى - : { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ } إرشاد لما يقوله الذابح عند ذبحها .

وصواف : جمع اصفة . أى : قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن استعدادا للذبخح ! .

أى : إذا ما هيأتم هذه الإبل للذبح ، فاذكروا اسم الله عليها ، بأن تقولوا عند نحرها : بسم الله والله أكبر ، الله منك وإليك .

وقوله - سحبانه - : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر } بيان لما ينبغى عليهم فعله بعد ذبحها .

ووجبت بمعنى سقطت : وهو كناية عن موتها . يقال : وجب الجدار إذا سقط ، ووجبت الشمس إذا غابت .

والقانع : هو الراضى بما قدره الله - تعالى - له ، فلا يتعرض لسؤال الناس مأخوذ من قنع يقنع - كرضى يرضى - وزنا ومعنى .

والمعتر : هو الذى يسأل غيره ليعطيه . يقال : فلان يعترى الأغنياء ، أى : يذهب إليهم طالبا عطاءهم .

وقيل : القانع هو الطامع الذى يسأل غيره ، والمعتر : هو الذى يتعرض للعطاء من غير سؤال وطلب .

أى : فإذا ما سقطت جنوب هذه الإبل على الأرض ، وأعددتموها للأكل فكلوا منها ، وأطعموا الفقير القانع الذى لا يسألكم ، والفقير المعتر الذى يتعرض لكم بالسؤال والطلب .

ثم بين - سبحانه - مظاهر فضله عليهم ، حيث ذلل هذه الأنعام لهم فقال : { كذلك سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .

وقوله { كذلك } نعت لمصدر محذوف . أى : مثل ذلك التسخير البديع سخرنا لكم هذه الأنعام ، وذللناها لكم ، وجعلناها منقادة لأمركم ، لعلكم بعد أن شاهدتم هذه النعم ، وانتفعتم بها ، تكونون من الشاكرين لنا ، والمستجيبين لتوجيهاتنا وإرشادنا .

قال صاحب الكشاف : منَّ الله على عباده واستحمد إليهم ، بأن سخر لهم البدن مثل التسخير الذى رأوا وعلموا . يأخذونها منقادة للأخذ طيعة ، فيعقلونها ويحبسونها صافة قوائمها ، ثم يطعنون فى لبانها . ولولا تسخير الله لم تطعن ، ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش التى هى أصغر منها جرما ، وأقل قوة ، وكفى بما يتأبد من الإبل شاهدا على ذلك .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَـٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (36)

ويستطرد السياق في تقرير هذا المعنى وتوكيده وهو يبين شعائر الحج بنحر البدن :

والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير ، فاذكروا اسم الله عليها صواف . فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها واطعموا القانع والمعتر . كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون . . لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ، ولكن يناله التقوى منكم ، كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم ، وبشر المحسنين . .

ويخص البدن بالذكر لأنها أعظم الهدي ، فيقرر أن الله أراد بها الخير لهم ، فجعل فيها خيرا وهي حية تركب وتحلب ، وهي ذبيحة تهدى وتطعم فجزاء ما جعلها الله خيرا لهم أن يذكروا اسم الله عليها ويتوجهوا بها إليه وهي تهيأ للنحر بصف أقدامها : ( فاذكروا اسم الله عليها صواف ) . والإبل تنحر قائمة على ثلاث معقولة الرجل الرابعة - ( فإذا وجبت جنوبها )واطمأنت على الأرض بموتها أكل منها أصحابها استحبابا ، وأطعموا منها الفقير القانع الذي لا يسأل والفقير المعتر الذي يتعرض للسؤال . فلهذا سخرها الله للناس ليشكروه على ما قدر لهم فيها من الخير حية وذبيحة : ( كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَـٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (36)

يقول تعالى ممتنا على عباده فيما خلق لهم من البدن ، وجعلها من شعائره ، وهو أنه جعلها تهدى إلى بيته الحرام ، بل هي أفضل ما يهدى [ إلى بيته الحرام ]{[20223]} ، كما قال تعالى : { لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ [ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ]{[20224]} } الآية : [ المائدة : 2 ] .

قال ابن جُرَيج : قال عطاء في قوله : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } ، قال : البقرة ، والبعير . وكذا رُوي عن ابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، والحسن البصري . وقال مجاهد : إنما البدن من الإبل .

قلت : أما إطلاق البَدَنة على البعير فمتفق عليه ، واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة ، على قولين ، أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعا كما صح في الحديث .

ثم جمهور العلماء على أنه تُجزئ البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة ، كما ثبت به الحديث عند مسلم ، من رواية جابر بن عبد الله [ وغيره ]{[20225]} ، قال : أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نشتركَ في الأضاحي ،

البدنةُ عن سبعة ، والبقرة عن سبعة{[20226]} .

[ وقال إسحاق بنُ رَاهَويه وغيره : بل تُجزئ البقرة عن سبعة ، والبعير عن عشرة ]{[20227]} . وقد ورد به حديث في مسند الإمام أحمد ، وسنن النسائي ، وغيرهما{[20228]} ، فالله أعلم .

وقوله : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } ، أي : ثواب في الدار الآخرة .

وعن سليمان بن يزيد الكعبي ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما عَمِل ابن آدم يوم النحر عملا أحبّ إلى الله من هِرَاقه دم ، وإنه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها ، وإن الدم ليقع من الله بمكان ، قبل أن يقع على الأرض ، فطِيبُوا بها نفسا " . رواه ابن ماجه ، والترمذي وحَسنه{[20229]} .

وقال سفيان الثوري : كان أبو حاتم{[20230]} يستدين ويسوق البُدْن ، فقيل له : تستدين وتسوق البدن ؟ فقال : إني سمعت الله يقول : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ }

وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أنفقت الوَرقَ في شيء أفضلَ من نحيرة في يوم عيد " . رواه الدارقطني في سننه{[20231]} .

وقال مجاهد : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } قال : أجر ومنافع .

وقال إبراهيم النَّخَعِيّ : يركبها ويحلبها إذا احتاج إليها .

وقوله : { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } وعن [ المطلب بن عبد الله بن حنطب ، عن ]{[20232]} جابر ابن عبد الله قال : صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدَ الأضحى ، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه ، فقال : " بسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عني وعمن لم يُضَحِّ من أمتي " .

رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي{[20233]} .

وقال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن ابن عباس ، عن جابر قال : ضحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين في يوم عيد ، فقال حين وجههما : " وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا مسلمًا ، وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له ، وبذلك أمرت ، وأنا أول المسلمين ، اللهم منك ولك ، وعن محمد وأمته " . ثم سمى الله وكبر وذبح{[20234]} .

وعن علي بن الحسين ، عن أبي رافع ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين ، فإذا صلى وخطب الناس أتى{[20235]} بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية{[20236]} ، ثم يقول : " اللهم هذا عن أمتي جميعها ، مَنْ شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ " . ثم يُؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ، ثم يقول : " هذا عن محمد وآل محمد " فيُطعمها جميعًا المساكين ، [ ويأكل ]{[20237]} هو وأهله منهما .

رواه أحمد ، وابن ماجه{[20238]} .

وقال الأعمش ، عن أبي ظِبْيَان ، عن ابن عباس في قوله : { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } ، قال : قيام على ثلاث قوائم ، معقولة يدُها اليسرى ، يقول : " بسم الله والله أكبر{[20239]} ، اللهم منك ولك " . وكذلك روى مجاهد ، وعلي بن أبي طلحة ، والعَوْفي ، عن ابن عباس ، نحو هذا .

وقال ليث . عن مجاهد : إذا عُقلت رجلها اليسرى قامت على ثلاث . ورَوَى ابن أبي نَجِيح ، عنه ، نحوه{[20240]} .

وقال الضحاك : تُعقل رجل{[20241]} واحدة فتكون على ثلاث .

وفي الصحيحين عن ابن عمر : أنه أتى على رجل قد أناخ بَدَنته وهو ينحرها ، فقال : ابعثها قيامًا مقيدة سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم{[20242]} .

وعن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه كانوا ينحَرون البُدْن معقولةَ اليسرى ، قائمة على ما بقي من قوائمها . رواه أبو داود{[20243]} .

وقال ابن لَهِيعة : حدثني عطاء بن دينار ، أن سالم بن عبد الله قال لسليمان بن عبد الملك : قفْ من شقها الأيمن ، وانْحَر من شقها الأيسر .

وفي صحيح مسلم ، عن جابر ، في صفة حجة الوَدَاع ، قال فيه : فنحر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثًا وستين بَدَنة ، جعل{[20244]} يَطعَنُها بحَربة في يده{[20245]} .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة قال : في حرف ابن مسعود : " صوافن " ، أي : مُعقَّلة{[20246]} قياما{[20247]} .

وقال سفيان الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد : مَن قرأها " صوافن " قال : معقولة . ومن قرأها { صَوَافَّ } قال : تصف بين يديها .

وقال طاوس ، والحسن ، وغيرهما : " فاذكروا اسم الله عليها صوافي " يعني : خالصة لله عز وجل . وكذا رواه مالك ، عن الزهري .

وقال عبد الرحمن بن زيد : " صوافيَ " : ليس فيها شرك كشرك الجاهلية لأصنامهم .

وقوله : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } قال : ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : يعني : سقطت إلى الأرض .

وهو رواية عن ابن عباس ، وكذا قال مقاتل بن حيان .

وقال العوفي ، عن ابن عباس : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } يعني : نحرت .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } يعني : ماتت .

وهذا القول هو مُرَادُ ابن عباس ومجاهد ، فإنه لا يجوز الأكل من البَدَنة{[20248]} إذا نُحرت حتى تموت وتَبْرد حركتها . وقد جاء في حديث مرفوع : " ولا تُعجِلُوا النفوسَ أن تَزْهَق " {[20249]} . وقد رواه الثوري في جامعه ، عن أيوب ، عن يحيى ابن أبي كثير ، عن فَرافصَة الحنفي ، عن عمر بن الخطاب ؛ أنه قال ذلك{[20250]} ويؤيده حديث شَدّاد بن أوس في صحيح مسلم : " إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح{[20251]} ولْيُحدَّ أحدكم شَفْرَته ، ولْيُرِحْ ذَبِيحته " {[20252]} .

وعن أبي واقد الليثي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما قُطع من البهيمة وهي حية ، فهو ميتة " .

رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه{[20253]} .

وقوله : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } قال بعض السلف{[20254]} : قوله : { فَكُلُوا مِنْهَا } أمر إباحة .

وقال مالك : يستحب ذلك . وقال غيره : يَجِبُ . وهو وَجْه لبعض الشافعية . واختلف في المراد بالقانع والمعتر ، فقال العوفي ، عن ابن عباس : القانع : المستغني بما أعطيته ، وهو في بيته . والمعترّ : الذي يتعرض لك ، ويُلمّ بك أن تعطيه من اللحم ، ولا يسأل . وكذا قال مجاهد ، ومحمد بن كعب القُرَظِيّ .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : القانع : المتعفف . والمعتر : السائل . وهذا قولُ قتادة ، وإبراهيم النَّخَعي ، ومجاهد في رواية عنه .

وقال ابن عباس ، وزيد بن أسلم وعِكْرِمَة{[20255]} ، والحسن البصري ، وابن الكلبي ، ومُقَاتِل بن حَيَّان ، ومالك بن أنس : القانع : هو الذي يَقْنع إليك ويسألك . والمعتر : الذي يعتريك ، يتضرع ولا يسألك . وهذا لفظ الحسن .

وقال سعيد بن جبير : القانع : هو السائل ، ثم قال : أما سمعت قول الشَّمَّاخ :

لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحُه فَيُغْني *** مَفَاقِرَه{[20256]} ، أَعَفُّ مِنَ القُنُوع{[20257]}

قال : يعني من السؤال ، وبه قال ابن زيد .

وقال زيد بن أسلم : القانع : المسكين الذي يطوف . والمعتر : الصديق والضعيف{[20258]} الذي يزور . وهو رواية عن عبد الله{[20259]} بن زيد أيضا .

وعن مجاهد أيضا : القانع : جارك الغني [ الذي يبصر ما يدخل بيتك ]{[20260]} والمعتر : الذي يعتريك{[20261]} من الناس .

وعنه : أن القانع : هو الطامع . والمعتر : هو الذي يَعْتَر بالبُدْن من غني أو فقير .

وعن عكرمة نحوه ، وعنه القانع : أهل مكة .

واختار ابنُ جرير أنّ القانع : هو السائل ؛ لأنه من أقنع بيده إذا رفعها للسؤال ، والمعتر من الاعترار ، وهو : الذي يتعرض لأكل اللحم .

وقد احتج بهذه الآية الكريمة مَن ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تُجزَّأ ثلاثة أجزاء : فثلث لصاحبها يأكله [ منها ]{[20262]} ، وثلث يهديه لأصحابه ، وثلث يتصدق به على الفقراء ؛ لأنه تعالى قال : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } . وفي الحديث الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس : " إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، فكلوا وادخروا ما بدا لكم " {[20263]} وفي رواية : " فكلوا وادخروا وتصدقوا " . وفي رواية : " فكلوا وأطعموا وتصدقوا " {[20264]} .

والقول الثاني : إن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف ، لقوله في الآية المتقدمة : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } [ الحج : 28 ] ، ولقوله في الحديث : " فكلوا وادخروا وتصدقوا " .

فإن أكل الكل فقيل{[20265]} : لا يضمن شيئا . وبه قال ابن سُرَيج من الشافعية .

وقال بعضهم : يضمنها كلها بمثلها أو قيمتها . وقيل : يضمن نصفها . وقيل : ثلثها . وقيل : أدنى جزء منها . وهو المشهور من مذهب الشافعي .

وأما الجلود ، ففي مسند أحمد عن قتادة ابن النعمان في حديث الأضاحي : " فكلوا وتصدقوا ، واستمتعوا بجلودها ، ولا تبيعوها " {[20266]} .

ومن العلماء من رخص [ في ذلك ]{[20267]} ، ومنهم من قال : يقاسم الفقراء ثمنها ، والله أعلم .

[ مسألة ]{[20268]} .

عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما نبدأ{[20269]} به في يومنا هذا أن نصلي ، ثم نرجع فننحر . فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ، ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم [ عجله ]{[20270]} لأهله ، ليس من النسك في شيء " أخرجاه{[20271]} .

فلهذا قال الشافعي وجماعة من العلماء : إن أول وقت الأضحى إذا طلعت الشمس يوم النحر ، ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين . زاد أحمد : وأن يذبح الإمام بعد ذلك ، لما جاء في صحيح مسلم : وألا تذبحوا حتى يذبح الإمام " {[20272]} .

وقال أبو حنيفة : أما أهل السواد من القرى ونحوهم{[20273]} ، فلهم أن يذبحوا بعد طلوع الفجر ، إذ لا صلاة عيد{[20274]} عنده لهم . وأما أهل الأمصار فلا يذبحوا حتى يصلي الإمام ، والله أعلم .

ثم قيل : لا يشرع الذبح إلا يوم النحر وحده . وقيل : يوم النحر لأهل الأمصار ، لتيسر{[20275]} الأضاحي عندهم ، وأما أهل القرى فيوم النحر وأيام التشريق بعده ، وبه قال سعيد بن جبير . وقيل : يوم النحر ، ويوم بعده للجميع . وقيل : ويومان بعده ، وبه قال أحمد . وقيل : يوم النحر وثلاثة أيام التشريق بعده ، وبه قال الشافعي ؛ لحديث جبير بن مطعم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " وأيام التشريق كلها ذبح " . رواه أحمد وابن حبان{[20276]} .

وقيل : إن وقت الذبح يمتد إلى آخر ذي الحجة ، وبه قال إبراهيم النَّخَعِيّ ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن . وهو قول غريب .

وقوله : { كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } : يقول تعالى : من أجل هذا { سَخَّرْنَاهَا لَكُم } أي : ذللناها لكم ، أي : جعلناها منقادة لكم خاضعة ، إن شئتم ركبتم ، وإن شئتم حلبتم ، وإن شئتم ذبحتم ، كما قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ . وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ . وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ } [ يس : 71 - 73 ] ،

وقال في هذه الآية الكريمة : { كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }


[20223]:- زيادة من أ.
[20224]:- زيادة من أ.
[20225]:- زيادة من أ.
[20226]:- صحيح مسلم برقم (1318).
[20227]:- زيادة من ف ، أ.
[20228]:- المسند (1/275) وسنن النسائي (7/222) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر النحر فاشتركنا في البعير عن عشرة والبقرة عن سبعة".
[20229]:- سنن الترمذي برقم (1493) وسنن ابن ماجه برقم (3126).
[20230]:- في أ : "أبو حازم".
[20231]:- سنن الدارقطني (4/282) من طريق إبراهيم بن يزيد عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس.
[20232]:- زيادة من ف ، أ.
[20233]:- المسند (3/356) وسنن أبي داود برقم (2810) وسنن الترمذي برقم (1521) وقال الترمذي : "هذا حديث غريب من هذا الوجه".
[20234]:- تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية : 162 من سورة "الأنعام".
[20235]:- في ت : "أمر".
[20236]:- في ت ، أ : "بالمدينة".
[20237]:- زيادة من ف ، أ.
[20238]:- المسند (6/8) وتقدم الحديث في هذه السورة.
[20239]:- في ف ، أ : "والله أكبر ، لا إله إلا الله".
[20240]:- في أ : "نحو هذا".
[20241]:- في ت ، ف : "يعقل يدا".
[20242]:- صحيح البخاري برقم (1713) وصحيح مسلم برقم (1320).
[20243]:- سنن أبي داود برقم (1767).
[20244]:- في ت : "وجعل".
[20245]:- صحيح مسلم برقم (1218).
[20246]:- في ت ، أ : "معلقة".
[20247]:- تفسير عبد الرزاق (2/33).
[20248]:- في ت : "البدن".
[20249]:- رواه الدارقطني في السنن (4/283) من طريق سعيد بن سلام العطار عن عبد الله بن بديل عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا وسعيد بن سلام العطار كذبه أحمد وابن نمير ، وضعف البيهقي هذا الحديث في السنن الكبرى (9/278).
[20250]:- ومن طريقه رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/278).
[20251]:- في ت : "الذبحة".
[20252]:- صحيح مسلم برقم (1955).
[20253]:- المسند (5/218) وسنن أبي داود برقم (2858) وسنن الترمذي برقم (1480).
[20254]:- في أ : "الناس".
[20255]:- في ف ، أ : "وعكرمة وزيد بن أسلم".
[20256]:- في ت : "مفاقه".
[20257]:- البيت في ديوانه (ص221) أ.هـ مستفادا من حاشية الشعب.
[20258]:- في ت : "والضيف".
[20259]:- في أ : "عن أبيه عبد الرحمن".
[20260]:- زيادة من ف ، أ.
[20261]:- في أ : "يعتزل".
[20262]:- زيادة من ت ، ف ، أ.
[20263]:- صحيح مسلم برقم (977) من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه.
[20264]:- رواه مالك في الموطأ (2/484) من حديث جابر رضي الله عنه.
[20265]:- في ت ، ف ، أ. "فقد فقيل".
[20266]:- المسند (4/15).
[20267]:- زيادة من ف ، أ.
[20268]:- زيادة من ف ، أ.
[20269]:- في ت : "يبدأ
[20270]:- زيادة من ت ، ف ، أ ، والبخاري ، وفي هـ : "يبديه".
[20271]:- صحيح البخاري برقم (5545) وصحيح مسلم برقم (1961).
[20272]:- لم يقع لي في مسلم هذا اللفظ وينظر صحيح مسلم (3/1551).
[20273]:- في ف : "وغيرها".
[20274]:- في أ : "عيد تشرع".
[20275]:- في ف : "لتيسر".
[20276]:- المسند (4/82).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَـٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (36)

عطف على جملة { ولكل أمة جعلنا منسكاً } [ الحج : 34 ] أي جعلنا منسكاً للقربان والهدايا ، وجعلنا البدن التي تُهدى ويتقرب بها شعائرَ من شعائر الله .

والمعنى : أنّ الله أمر بقربان البُدْن في الحجّ من عهد إبراهيم عليه السلام وجعلها جزاء عما يترخص فيه من أعمال الحجّ . وأمر بالتطوع بها فوعد عليها بالثواب الجزيل فنالت بذلك الجَعل الإلهي يُمناً وبركة وحرمة ألحقتها بشعائر الله ، وامتن بذلك على الناس بما اقتضته كلمة { لكم } .

والبدن : جمع بَدنَة بالتحريك ، وهي البعير العظيم البَدن . وهو اسم مأخوذ من البَدانة ، وهي عِظم الجثّة والسمن ، وفعله ككرم ونصر ، وليست زنة بدنة وصفاً ولكنها اسم مأخوذ من مادة الوصف ، وجمعه بُدْن . وقياس هذا الجمع أن يكون مضموم الدال مثل خُشُب جمع خشبة ، وثُمرُ جمع ثَمرة ، فتسكين الدال تخفيف شائع ، وغلب اسم البدنة على البعير المعيّن للهدي .

وفي « الموطأ » : " عن أبي هُريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال : اركَبْها ، فقال : إنها بدنة ، فقال : اركَبْها ، فقال : إنها بدنة ، فقال : اركبْها ويلك في الثانية أو الثالثة " فقول الرجل : إنها بدنة ، متعين لإرادة هديه للحجّ .

وتقديم { البُدن } على عامله للاهتمام بها تنويهاً بشأنها .

والاقتصار على البدن الخاصصِ بالإبل لأنها أفضل في الهَدي لكثرة لحمها ، وقد ألحقت بها البقر والغنم بدليل السنّة ، واسم ذلك هَدي .

ومعنى كونها من شعائر الله : أنّ الله جعلها معالم تؤذن بالحج وجعل لها حرمة . وهذا وجه تسميتهم وضع العلامة التي يعلّم بها بعير الهَدْي في جلده إشعاراً .

قال مالك في « الموطأ » : « كان عبد الله بن عمر إذا أهدى هدْياً من المدينة قلّده وأشعره بذي الحليفة ، يقلّده قبل أن يُشعره . . . يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر . . . » بطعن في سنامه فالإشعار إعداد للنحر .

وقد عدها في جملة الحرمات في قوله : { لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي في سورة العقود ( 2 ) .

وتقديم { لكم } على المبتدأ ليتأتى كون المبتدأ نكرة ليفيد تنوينه التعظيم ، وتقديم { فيها } على متعلّقه وهو { خير } للاهتمام بما تجمعه وتحتوي عليه من الفوائد .

والخير : النّفع ، وهو ما يحصل للناس من النفع في الدنيا من انتفاع الفقراء بلحومها وجلودها وجِلالها ونعالها وقَلائدها . وما يحصل للمُهدين وأهلهم من الشبع من لحمها يوم النّحر ، وخير الآخرة من ثواب المُهدين ، وثواب الشكر من المعطَيْن لحومَها لربّهم الذي أغناهم بها .

وفرع على ذلك أن أمَرَ الناس بأن يذكروا اسم الله عليها حين نحرها .

وصوافّ : جمع صافّة . يقال : صف إذا كان مع غيره صفّا بأن اتّصل به . ولعلّهم كانوا يصفُّونها في المنحر يوم النّحر بمِنى ، لأنه كان بمِنى موضع أُعدّ للنحر وهو المنحَر .

وقد ورد في حديث مسلم عن جابر بن عبدالله في حجّة الوداع قال فيه : « ثم انصرف رسول الله إلى المنحرَ فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين بَدنة جعل يطعنها بحَربة في يده ثم أعطى الحربة عليّاً فنحر ما غَبَر ، أي ما بقي وكانت مائة بدنة » وهذا يقتضي أنها كانت مجتمعة متقاربة .

وانتصب { صوافّ } على الحال من الضمير المجرور في قوله { عليها } . وفائدة هذه الحال ذكر محاسن من مَشاهد البُدن فإن إيقاف الناس بدنهم للنحر مجتمعة ومنتظمة غير متفرقة مما يزيد هيئتها جلالاً . وقريب منه قوله تعالى : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص } [ الصف : 4 ] .

ومعنى { وجبت } سقطت ، أي إلى الأرض ، وهو كناية عن زوال الروح التي بها الاستقلال . والقصد من هذا التوقيت المبادرة بالانتفاع بها إسراعاً إلى الخير الحاصل من ذلك في الدنيا بإطعام الفقراء وأكل أصحابها منها فإنه يستحب أن يكون فطور الحاج يوم النحر مِن هديه ، وكذلك الخير الحاصل من ثواب الآخرة .

والأمر في قوله { فكلوا منها } مجمل ، يحتمل الوجوب ويحتمل الإباحة ويحتمل الندب ، وقرينة عدم الوجوب ظاهرة لأنّ المكلف لا يفرض عليه ما الداعي إلى فعله من طبعه . وإنما أراد الله إبطال ما كان عند أهل الجاهلية من تحريم أكل المُهدي من لحوم هديه فبقي النظر في أنه مباح بحت أو هو مندوب .

واختلف الفقهاء في الأكل من لحوم الهدايا الواجبة .

فقال مالك : يباح الأكل من لحوم الهدايا الواجبة ، وهو عنده مستحبّ ولا يؤكل من فدية الأذى وجزاءِ الصيد ونذر المساكين ، والحُجّة لمالك صريح الآية . فإنها عامة إلا ما قام الدّليل على منعه وهي الثلاثة الأشياء المستثناة .

وقال أبو حنيفة : يأكل من هدي التمتّع والقِران ، ولا يأكل من الواجب الذي عيّنه الحاج عند إحرامه .

وقال الشافعي : لا يأكل من لحوم الهدايا بحاللٍ مستنداً إلى القياس ، وهو أن المُهدي أوجب إخراج الهدي من ماله فكيف يأكل منه . كذا قال ابن العربي . وإذا كان هذا قصارى كلام الشافعي فهو استدلال غير وجيه ولفظ القرآن ينافيه لا سيما وقد ثبت أكل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من لحوم الهدايا بأحاديث صحيحة .

وقال أحمد : يؤكل من الهدايا الواجبة إلاّ جزاء الصيد والنذر .

وأما الأمر في قوله : { وأطعموا القانع والمعتر } فقال الشافعي : للوجوب ، وهو الأصح . قال ابن العربي وهو صريح قول مالك . وقلت : المعروف من قول مالك أنه لو اقتصر المُهدي على نحر هديه ولم يتصدق منه ما كان آثماً .

والقانع : المتصف بالقنوع ، وهو التذلل . يقال : قنَع من باب سَأل . قُنوعاً بضم القاف إذا سأل بتذلّل .

وأما القناعة ففعلها من باب تَعِب ويستوي الفعل المضارع مع اختلاف الموجب . ومن أحسن ما جمع من النظائر ما أنشده الخفاجي :

العَبْد حرّ إن قَنِع *** والحـــر عبد إن قنَع

فاقنَع ولا تقنَع فما *** شيء يشين سوى الطمَع

وللزمخشري في « مقاماته » : « يا أبا القاسم اقنَع من القَناعة لا من القنوع ، تستغْن عن كل مِعْطَاءٍ ومنوع » .

وفي « الموطأ » في كتاب الصيد قال مالك : « والقانع هو الفقير » .

والمعتَرّ : اسم فاعل من اعترّ ، إذا تعرّض للعطاء ، أي دون سؤال بل بالتعريض وهو أن يحضر موضع العطاء ، يقال : اعترّ ، إذا تعرّض . وفي « الموطأ » في كتاب الصيد قال مالك : « وسمعت أنّ المعترّ هو الزائر ، أي فتكون من عرا إذا زار » والمراد زيارة التعرض للعطاء .

وهذا التفسير أحسن ويرجحه أنه عطف { المعترّ } على { القانع ، } فدل العطف على المغايرة ، ولو كانا في معنى واحد لما عطف عليه كما لم يعطف في قوله { وأطعموا البائس الفقير } [ الحج : 28 ] .

وجملة { وكذلك سخرناها لكم } استئناف للامتنان بما خلق من المخلوقات لنفع الناس . والأمارة الدالة على إرادته ذلك أنه سخّرها للناس مع ضعف الإنسان وقوّة تلك الأنعام فيأخذ الرجل الواحد العدد منها ويسوقها منقادة ويؤلمونها بالإشعار ثم بالطعن . ولولا أنّ الله أودع في طباعها هذا الانقياد لما كانت أعجزَ من بعض الوحوش التي هي أضعف منها فتنفر من الإنسان ولا تسخّر له .

وقوله { كذلك } هو مثل نظائره ، أي مثلَ ذلك التسخير العجيب الذي ترونه كان تسخيرها لكم .

ومعنى { لعلكم تشكرون } خلقناها مسخرة لكم استجلاباً لأن تشكروا الله بإفراده بالعبادة . وهذا تعريض بالمشركين إذا وضعوا الشكر موضع الشكر .