الأولى- قوله تعالى : " والبُدْن " وقرأ ابن أبي إسحاق " والبُدُن " لغتان ، واحدتها بَدَنَة . كما يقال : ثمرة وثُمُر وثُمْر ، وخشبة وخشُب وخشْب . وفي التنزيل " وكان له ثمر " {[11521]}وقرئ " ثمر " لغتان . وسميت بدنة لأنها تبدن ، والبدانة السمن . وقيل : إن هذا الاسم خاص بالإبل . وقيل : البدن جمع " بدن " بفتح الباء والدال . ويقال : بدن الرجل ( بضم الدال ) إذا سمن . وبدن ( بتشديدها ) إذا كبر وأسن . وفي الحديث ( إني قد بدنت ) أي كبرت وأسننت . وروي ( بدنت ) وليس له معنى ؛ لأنه خلاف صفته صلى الله عليه وسلم ، ومعناه كثرة اللحم . يقال : بدن الرجل يبدُن بدنا وبدانة فهو بادن ؛ أي ضخم .
الثانية-اختلف العلماء في البدن هل تطلق على غير الإبل من البقر أم لا ؟ فقال ابن مسعود وعطاء والشافعي : لا . وقال مالك وأبو حنيفة : نعم . وفائدة الخلاف فيمن نذر بدنة فلم يجد البدنة أو لم يقدر عليها وقدر على البقرة ، فهل تجزيه أم لا ؟ فعلى مذهب الشافعي وعطاء لا تجزيه . وعلى مذهب مالك تجزيه . والصحيح ما ذهب إليه الشافعي وعطاء ؛ لقوله عليه السلام في الحديث الصحيح في يوم الجمعة : ( من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ) الحديث . فتفريقه عليه السلام بين البقرة والبدنة يدل على أن البقرة لا يقال عليها بدنة ، والله أعلم . وأيضا قوله تعالى : " فإذا وجبت جنوبها " يدل على ذلك ، فإن الوصف خاص بالإبل . والبقر يضجع ويذبح كالغنم ، على ما يأتي . ودليلنا أن البدنة مأخوذة من البدانة وهو الضخامة ، والضخامة توجد فيهما جميعا . وأيضا فإن البقرة في التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم بمنزلة الإبل ، حتى تجوز البقرة في الضحايا على سبعة كالإبل . وهذا حجة لأبي حنيفة حيث وافقه الشافعي على ذلك ، وليس ذلك في مذهبنا . وحكى ابن شجرة أنه يقال في الغنم بدنة ، وهو قول شاذ . والبدن هي الإبل التي تهدى إلى الكعبة . والهدي عام في الإبل والبقر والغنم .
الثالثة-قوله تعالى : " من شعائر الله " نص في أنها بعض الشعائر . وقوله : " لكم فيها خير " يريد به المنافع التي تقدم ذكرها . والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة .
الرابعة- " فاذكروا اسم الله عليها صواف " أي انحروها على اسم الله . و " صواف " أي قد صفت قوائمها . والإبل تنحر قياما معقولة . وأصل هذا الوصف في الخيل ، يقال : صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاثة قوائم وثنى سنبك الرابعة ، والسنبك طرف الحافر . والبعير إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه فيقوم على ثلاث قوائم . وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري " صوافي " أي خوالص لله عز وجل لا يشركون به في التسمية على نحرها أحدا . وعن الحسن أيضا " صواف " بكسر الفاء وتنوينها مخففة ، وهي بمعنى التي قبلها ، لكن حذفت الياء تخفيفا على غير قياس و " صواف " قراءة الجمهور بفتح الفاء وشدها ، من صف يصف . وواحد صواف صافة ، وواحد صوافي صافية . وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو جعفر محمد بن علي " صوافن " بالنون جمع صافنة . ولا يكون واحدها صافنا ؛ لأن فاعلا{[11522]} لا يجمع على فواعل إلا في حروف مختصة لا يقاس عليها ؛ وهي فارس وفوارس ، وهالك وهوالك ، وخالف وخوالف{[11523]} . والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب . ومنه قوله تعالى : " الصافنات الجياد " {[11524]}[ ص : 31 ] . وقال عمرو بن كلثوم :
تركنا الخيلَ عاكفةً عليه *** مقلدة أعنَّتَها صُفُونا
تظل جيادُه نَوْحًا عليه *** مقلدة أعنَّتها صفونا
ألِفَ الصُّفون فما يزال كأنه *** مما يقوم على الثلاث كسيرا
وقال أبو عمرو الجرمي : الصافن عرق في مقدم الرجل ، فإذا ضرب على الفرس رفع رجله . وقال الأعشى :
وكل كُمَيْت كجذع السَّحو *** ق يَرْنُو القِناء إذا ما صَفَنْ
الخامسة-قال ابن وهب : أخبرني ابن أبي ذئب أنه سأل ابن شهاب عن الصواف فقال : تقيدها ثم تصفها . وقال لي مالك بن أنس مثله . وكافة العلماء على استحباب ذلك ، إلا أبا حنيفة والثوري فإنهما أجازا أن تنحر باركة وقياما . وشذ عطاء فخالف واستحب نحرها باركة . والصحيح ما عليه الجمهور ؛ لقوله تعالى : " فإذا وجبت جنوبها " معناه سقطت بعد نحرها ، ومنه وجبت الشمس . وفي صحيح مسلم عن زياد بن جبير أن ابن عمر أتى على رجل وهو ينحر بدنته باركة فقال : ابعثها قائمة مقيدة سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم . وروى أبو داود عن أبي الزبير عن جابر ، وأخبرني عبد الرحمن بن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها .
السادسة-قال مالك : فإن ضعف إنسان أو تخوف أن تنفلت بدنته فلا أرى بأسا أن ينحرها معقولة . والاختيار أن تنحر الإبل قائمة غير معقولة ، إلا أن يتعذر ذلك فتعقل ولا تعرقب إلا أن يخاف أن يضعف عنها ولا يقوى عليها . ونحرها باركة أفضل من أن تعرقب . وكان ابن عمر يأخذ الحربة بيده في عنفوان أيده فينحرها في صدرها ويخرجها على سنامها ، فلما أسن كان ينحرها باركة لضعفه ، ويمسك معه الحربة رجل آخر ، وآخر بخطامها . وتضجع البقر والغنم .
السابعة-ولا يجوز النحر قبل الفجر من يوم النحر بإجماع . وكذلك الأضحية لا تجوز قبل الفجر . فإذا طلع الفجر حل النحر بمنى ، وليس عليهم انتظار نحر إمامهم ، بخلاف الأضحية في سائر البلاد . والمنحر منى لكل حاج ، ومكة لكل معتمر . ولو نحر الحاج بمكة والمعتمر بمنى لم يحرج واحد منهما ، إن شاء الله تعالى .
الثامنة-قوله تعالى : " فإذا وجبت جنوبها " يقال : وجبت الشمس إذا سقطت ، ووجب الحائط إذا سقط . قال قيس بن الخطيم :
أطاعت بنُو عوف أميرا نهاهم *** عن السِّلْم حتى كان أول واجبِ
ألم تكسف الشمسُ والبدرُ والك *** واكبُ للجبل الواجب{[11525]}
فقوله تعالى : " فإذا وجبت جنوبها " يريد إذا سقطت على جنوبها ميتة . كنى عن الموت بالسقوط على الجنب كما كنى عن النحر والذبح بقوله تعالى : " فاذكروا اسم الله عليها " والكنايات في أكثر المواضع أبلغ من التصريح . قال الشاعر :
فتركتُه جَزَرَ السِّباع يَنُشْنَهُ *** ما بين قُلَّةِ رأسه والمِعصم{[11526]}
وضربت قَرْنَيْ كبشِها فَتَجَدَّلاَ{[11527]}
أي سقط مقتولا إلى الجدالة ، وهي الأرض ، ومثله كثير . والوجوب للجنب بعد النحر علامة نزف الدم وخروج الروح منها ، وهو وقت الأكل ، أي وقت قرب الأكل ؛ لأنها إنما تبتدأ بالسلخ وقطع شيء من الذبيحة ثم يطبخ . ولا تسلخ حتى تبرد لأن ذلك من باب التعذيب ، ولهذا قال عمر رضي الله عنه : لا تعجلوا الأنفس أن تزهق .
التاسعة-قوله تعالى : " فكلوا منها " أمر معناه الندب . وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هدية وفيه أجر وامتثال ، إذ كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم كما تقدم . وقال أبو العباس بن شريح : الأكل والإطعام مستحبان ، وله الاقتصار على أيهما شاء . وقال الشافعي : الأكل مستحب والإطعام واجب ، فإن أطعم جميعها أجزاه وإن أكل جميعها لم يجزه ، وهذا فيما كان تطوعا ، فأما واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئا حسبما تقدم بيانه . العاشرة- " وأطعموا القانع والمعتر " قال مجاهد وإبراهيم والطبري : قوله " وأطعموا " أمر إباحة . و " القانع " السائل . يقال : قنع الرجل يقنع قنوعا إذا سأل ، بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل{[11528]} ، يقنع قناعة فهو قنع ، إذا تعفف واستغنى ببلغته ولم يسأل ، مثل حمد يحمد ، قناعة وقنعا وقنعانا ، قاله الخليل . ومن الأول قول الشماخ :
لمَالُ المرءِ يصلحُه فيُغْنِي *** مفاقِرَه أعفُّ من القُنُوع
وقال ابن السكيت : من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة ، وهي الرضا والتعفف وترك المسألة . وروي عن أبى رجاء أنه قرأ " وأطعموا القَنِع " ومعنى هذا مخالف للأول . يقال : قنع الرجل فهو قنع إذا رضي . وأما المعتر فهو الذي يطيف بك يطلب ما عندك ، سائلا كان أو ساكنا . وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن بن أبي الحسن : المعتر المعترض من غير سؤال . قال زهير :
على مُكْثِرِيهم رزقُ من يَعْتَرِيهِم *** وعند المُقِلِّينَ السَّمَاحَةُ والبَذْلُ
وقال مالك : أحسن ما سمعت أن القانع الفقير ، والمعتر الزائر . وروي عن الحسن أنه قرأ " والمعتري " ومعناه كمعنى المعتر . يقال : اعتره واعتراه وعره وعراه إذا تعرض لما عنده أو طلبه ، ذكره النحاس .