النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَـٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (36)

قوله عز وجل : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ } في البدن ثلاثة أقاويل :

أحدها : أنها الإِبل ، وهو قول الجمهور .

والثاني : أنها الإِبل والبقر والغنم ، وهو قول جابر وعطاء .

والثالث : كل ذات خُفٍّ وحافر من الإِبل والبقر والغنم ، وهو شاذ حكاه ابن الشجرة ، وسميت بُدْناً لأنها مبدنة في السمن ، وشعائر الله تعالى دينه في أحد الوجهين ، وفروضه في الوجه الآخر .

وتعمق بعض أصحاب الخواطر فتأول البُدْن أن تطهر بدنك من البدع ، والشعائر أن تستشعر بتقوى الله وطاعته ، وهو بعيد .

{ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } فيه تأويلان :

أحدهما : أي أجر ، وهو قول السدي .

والثاني : منفعة فإن احْتِيجَ إلى ظهرها رُكبَ ، وإن حُلِبَ لَبَنُها شُرِبَ وهو قول إبراهيم النخعي .

{ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوافَّ } وهي قراءة الجمهور ، وقرأ الحسن : صوافي ، وقرأ ابن مسعود : صوافن .

فتأول صواف على قراءة الجمهور فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : مصطفة ، ذكره ابن عيسى .

والثاني : قائمة تصفّ ليديها بالقيود ، وهو قول ابن عمر .

والثالث : معقولة ، وهو قول مجاهد .

وتأويل صوافي وهي قراءة الحسن أي خالصة لله تعالى ، مأخوذ من الصفوة .

وتأويل صوافن وهي قراءة ابن مسعود أنها مصفوفة ، وهو أن تَعقِل إحدى يديها حتى تقف على ثلاث ، مأخوذ من صفن الفرس إذا ثنى إحدى يديه حتى يقف على ثلاث ، ومنه قوله تعالى : { الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } وقال الشاعر{[2023]} :

ألف الصفون مما يزال كأنه *** مما يقوم على الثلاث كسيراً

{ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبهُا } أي سقطت جنوبها على الأرض ، ومنه وجب الحائط إذا سقط ، ووجبت الشمس إذا سقطت للغروب ، وقال أوس بن حجر :

ألم تكسف الشمس ضوء النهار *** والبدر للجبل الواجب{[2024]}

{ فَكُلُوا مِنْهَا } فيه وجهان :

أحدهما : أن أكله منها واجب إذا تطوع بها ، وهو قول أبي الطيب بن سلمة .

والثاني : وهو قول الجمهور أنه استحباب وليس بواجب ، وإنما ورد الأمر به لأنه بعد حظر ، لأنهم كانوا في الجاهلية يحرمون أكلها على نفوسهم .

{ وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ والْمُعْتَرَّ } فيهم أربعة تأويلات :

أحدها : أن القانع السائل ، والمعتر الذي يتعرض{[2025]} ولا يسأل ، وهذا قول الحسن وسعيد بن جبير ، ومنه قول الشماخ :

لمالُ المرء يصلحه فيغني *** مفاقِرَه أعف من القُنُوع

أي من السؤال .

والثاني : أن القانع الذي يقنع ولا يسأل ، والمعتر الذي يسأل ، وهذا قول قتادة ، ومنه قول زهير :

على مكثريهم رزق من يعتريهم *** وعند المقلّين السماحةُ والبذلُ

والثالث : أن القانع المسكين الطوّاف ، والمعتر : الصديق الزائر ، وهذا قول زيد بن أسلم ، ومنه قول الكميت :

إما اعتياداً وإما اعتراراً ***

والرابع : أن القانع الطامع ، والمعتر الذي يعتري البُدْنَ ويتعرض للحم لأنه ليس عنده لحم ، وهذا قول عكرمة ، ومنه قول الشاعر :

على الطارق المعتر يا أم مالك *** إذا ما اعتراني بين قدري وصخرتي


[2023]:هو امرؤ القيس.
[2024]:هكذا بالأصل ورواية البيت في ديوانه: ألم تكسف الشمس والبدر والكواكب للجبل الواجب ويريد بالجبل فضالة بن كلدة، وهو من قصيدة يرثيه بها.
[2025]:يتعرض: في الأصل يعترض والصواب ما أثبتناه.