قوله تعالى : { والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله } الآية . العامة على نصب «البُدْنَ » على الاشتغال{[31183]} ، ورجح النصب وإن كان محوجاً للإضمار على الرفع الذي لم يحوج إليه ، لتقدم جملة فعلية على جملة الاشتغال وقرئ{[31184]} برفعها على الابتداء والجملة بعدها الخبر{[31185]} والعامة أيضاً{[31186]} على تسكين الدال{[31187]} . وقرأ الحسن ويروى عن نافع وشيخه أبي جعفر بضمها{[31188]} ، وهما جمعان لبدنة نحو ثَمَرة{[31189]} وثُمُر وثُمْر{[31190]} ، فالتسكين يحتمل{[31191]} أن يكون تخفيفاً من المضموم وأن يكون أصلاً وقيل : البُدُن والبُدْنِ جمع بَدَن ، والبَدَن جمع بَدَنَة نحو خشبة وخشب ثم يجمع خشباً على خُشْب وخُشُب{[31192]} . وقيل : البُدْن اسم مفرد لا جمع يعنون اسم الجنس{[31193]} . وقرأ ابن أبي إسحاق : «البُدُنّ » بضم الباء والدال وتشديد النون{[31194]} وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أنه قرأ كالحسن فوقف على الكلمة وضعف لامها{[31195]} ، كقولهم : هذا فرج ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك{[31196]} ويحتمل أن يكون اسماً على فُعُلّ كعُتُلّ{[31197]} .
وسميت البدنة بدنة ، لأنها تبدن أي تسمن{[31198]} . وهل تختص بالإبل ؟ الجمهور على ذلك ، قال الزمخشري : والبدن جمع بدنة سميت لعظم بدنها وهي الإبل خاصة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألحق البقر بالإبل حين قال : «البَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ ، والبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ »{[31199]} فجعل البقر في حكم الإبل ، فصارت البدنة متناولة في الشريعة للجنسين عند أبي حنيفة وأصحابه ، وإلا فالبدن هي الإبل ، وعليه تدل الآية{[31200]} .
وقيل : لا تختص بالإبل ، فقال الليث : البدنة بالهاء تقع على الناقة والبقرة والبعير ، وما يجوز في الهدي والأضاحي ، ولا تقع على الشاة{[31201]} . وقال عطاء وغيره : ما أشعر من ناقة أو بقرة{[31202]} ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن البقر فقال : «وهَلْ هِيَ إِلاَ مِنَ البُدْن » ( وقيل : البدن يراد به العظيم السن من الإبل والبقر ) {[31203]} .
ونقل النووي في تحرير ألفاظ التنبيه{[31204]} عن الأزهري{[31205]} أنه قال : البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم{[31206]} . ويقال للسمين من الرجال ، وهو اسم جنس مفرد {[31207]} .
قوله : { مِّن شَعَائِرِ الله } هو{[31208]} المفعول الثاني للجعل بمعنى التصيير{[31209]} .
وقوله : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } الجملة حال{[31210]} من هاء «جَعَلْنَاهَا » ، وإما من «شَعَائِرِ اللَّهِ » وهذان مبنيان على أن الضمير في «فِيْهَا » هل هو عائد على «البُدْن » أو على «شعائر الله » ، والأول قول الجمهور .
قوله : { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَافَّ } . نصب «صَوَافَّ » على الحال ، أي مصطفة جنب بعضها إلى بعض{[31211]} . وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم «صَوَافِي » جمع صافية ، أي : خالصة لوجه الله تعالى{[31212]} . وقرأ عمرو بن عبيد كذلك إلا أنه نون{[31213]} الياء فقرأ «صَوَافِياً » {[31214]} . واستشكلت من حيث إنه جمع متناه ، وخرجت على وجهين :
أحدهما : ذكره الزمخشري : وهو أن يكون التنوين عوضاً من حرف الإطلاق عند الوقف{[31215]} ، يعني أنه وقف على «صَوافِي » بإشباع فتحة{[31216]} الياء فتولد{[31217]} منها ألف ، يسمى{[31218]} حرف الإطلاق ، ثم عوض عنه هذا التنوين ، وهو الذي يسميه النحويون تنوين الترنم {[31219]} .
والثاني : أنه جاء على لغة من يصرف ما لا ينصرف{[31220]} . وقرأ الحسن «صَوَافٍ » بالكسر والتنوين{[31221]} ، وجهها أنه نصبها بفتحة مقدرة فصار حكم هذه الكلمة كحكمها حالة الرفع والجر في حذف الياء وتعويض التنوين نحو هؤلاء جوار ، ومررت بجوار وتقدير الفتحة في الياء كثير{[31222]} كقولهم :
أَعْطِ{[31223]} القَوْسَ بَارِيْهَا{[31224]} *** . . .
كَأَنَّ أَيْدِيْهِنَّ بِالقَاعِ القَرِقْ *** أَيْدِي جَوَارٍ يَتَعَاطَيْنَ الوَرِقْ{[31225]}
وَكَسَوْتُ عَارٍ لَحْمَه{[31226]} *** . . .
ويدل على هذه قراءة بعضهم «صَوَافِيْ » بياء ساكنة من غير تنوين نحو رأيت القاضي يا فتى . بسكون الياء . ويجوز أن يكون سكن الياء في هذه القراءة للوقف ثم أجرى الوصل مجراه {[31227]} .
وقرأ العبادلة{[31228]} ومجاهد والأعمش «صَوَافِنَ »{[31229]} بالنون جمع صافنة{[31230]} ، وهي التي تقوم على ثلاثة وطرف الرابعة أي : على طرف سنبكه{[31231]} ، لأن البدنة تعلق{[31232]} إحدى يديها ، فتقوم على ثلاثة إلا أن الصوافن إنما يستعمل في الخيل كقوله : «الصَّافِنَاتُ الجِيَاد »{[31233]} كما سيأتي ، فيكون استعماله في الإبل استعارة .
سميت البدنة بدنة لعظمها يريد الإبل العظام الصحاح الأجسام ، يقال : بَدَنَ الرجل بُدْناً وبَدَانَةً : إذا ضَخُم ، فأما إذا أسن واسترخى يقال : بَدَّنَ تَبْدِيْناً {[31234]} .
{ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله } أي : من أعلام دينه ، سميت شعائر ، لأنها تشعر ، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم أنها هَدْي . { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } النفع في الدنيا والأجر في العقبى{[31235]} . { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا } عند نحرها «صَوَافَّ » أي قياماً على ثلاث قوائم قد صفت رجليها وإحدى يديها ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك لما روى زياد بن جبير{[31236]} قال : رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها فقال : ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد - صلى الله عليه وسلم{[31237]} - . وقال مجاهد : الصواف إذا علقت{[31238]} رجلها اليسرى وقامت على ثلاث{[31239]} . قال المفسرون : قوله : { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا } فيه حذف أي اذكروا اسم الله على نحرها ، وهو أن يقال عند النحر : باسم الله والله أكبر ولا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك{[31240]} . والحكمة في اصطفافها ظهور كثرتها للناظر{[31241]} فتقوى نفوس المحتاجين ، ويكون التقرب بنحرها عند ذلك أعظم أجراً ، وإعلاء اسم الله وشعائر دينه{[31242]} .
فصل{[31243]}
إذا قال : لله عليَّ بدنة ، هل يجوز نحرها في غير مكة ؟ قال أبو حنيفة ومحمد يجوز وقال أبو يوسف : لا يجوز إلا بمكة . واتفقوا في من نذر هدياً أن عليه ذبحه بمكة .
ومن قال : لله عليَّ جزور أنه يذبحه حيث شاء . وقال أبو حنيفة : البدنة بمنزلة الجزور ، فوحب أن يجوز له نحرها حيث يشاء ، بخلاف الهدي فإنه قال : { هَدْياً بَالِغَ الكعبة }{[31244]} [ المائدة : 95 ] فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدي . واحتج أبو يوسف بقوله : { والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله }{[31245]} فكان اسم البدنة يفيد كونها قربة فكان كاسم الهدي .
وأجاب أبو حنيفة بأنه ليس كل ما كان ذبحه قربة اختص بالحرم ، فإن الأضحية قربة وهي جائزة في سائر الأماكن .
قوله : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } أي سقطت بعد النحر فوقعت{[31246]} جنوبها على الأرض . وأصل الوجوب السقوط ، يقال : وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب{[31247]} ، ووجب الجدار : أي سقط ، ومنه الواجب الشرعي كأنه وقع علينا ولزمنا . قال أوس بن حجر{[31248]} :
أَلَمْ تُكْسَفِ الشَّمْسِ شَمْسُ النَّهَا *** ر والبَدْرُ لِلْجَبَلِ الوَاجِبِ{[31249]}
قوله : { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر } أمر إباحة { وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر }{[31250]} اختلفوا في معناهما ، فقال عكرمة وإبراهيم وقتادة : القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل . والمعتر الذي يسأل{[31251]} . قال الأزهري : قال ابن الأعرابي : يقال : عَرَوْتُ فلاناً وأعْتَرَيْتُه وعَرَرْتَه{[31252]} واعْتَرَرْته{[31253]} : إذا أتيته تطلب معروفه ونحوه{[31254]} .
قال أبو عبيدة : روى العوفي عن ابن عباس : القانع الذي لا يتعرض ولا يسأل ، والمعتر الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل{[31255]} . فعلى هذين التأويلين يكون القانع من القناعة ، يقال : قَنِعَ قَنَاعَةً : إذا رضي بما قسم له{[31256]} . وقال سعيد بن جبير والحسن والكلبي : القانع الذي يسأل ، والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل{[31257]} . وقيل : القانع الراضي بالشيء اليسير من قَنِعَ يَقْنَعُ قَنَاعَةً فهو قانع . والقنع بغير ألف هو السائل . ذكره أبو البقاء{[31258]} . وقال الزمخشري القانع السائل من قَنَعْتُ وكَنَعْتُ{[31259]} إذا خضعت له وسألته قنوعاً ، والمُعتَرّ : المتعرض بغير سؤال أو{[31260]} القانع الراضي بما عنده وبما يعطى من غير سؤال من قَنِعْتُ قَنَعاً وقَنَاعَةً ، والمعتر المتعرض للسؤال{[31261]} . انتهى .
وفرق بعضهم بين المعنيين بالمصدر فقال : «قَنَعَ يَقْنَع قُنُوعاً » أي : سأل ، وقناعةً أي : تعفف ببلغته واستغنى به ، وأنشد للشماخ {[31262]} :
لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحه فيُغْنِي *** مَفَاقِرهُ أَعَفُّ مِنَ القُنُوْعِ{[31263]}
وقال ابن قتيبة : المعتر المتعرض من غير سؤال ، يقال : عَرّهُ واعْتَرّهُ وَعَرَاهُ واعْتَرَاهُ أي : أتاه طالباً معروفه{[31264]} ، قال :
لَعَمْرُكَ مَا المُعْتَرُّ يَغْشَى{[31265]} بِلاَدَنَا *** لِنَمْنَعَهِ بِالضَّائِعِ المُتَهَضِّمِ{[31266]}
سَلِي الطَّارِقَ المُعْتَرَّ يا أُمَّ مَالِكٍ *** إِذَا ما اعْتَرَانِي بَيْنَ قِدْرِي وَمَجزَرِي{[31267]}
وقرأ أبو رجاء : «القَنِعَ » دون ألف{[31268]} ، وفيها وجهان :
أحدهما : أن أصلها القانع فحذف الألف كما قالوا : مِقْوَل ، ومِخْيَط وجَنَدِل وعُلَبِط في مِقْوَال ، ومِخْيَاط ، وجَنَادِل ، وعُلاَبِط {[31269]} .
والثاني : أن القانع هو الراضي باليسير ، والقَنِع السائل كما تقدم تقريره . قال الزمخشري : والقنع الراضي لا غير{[31270]} . وقرأ الحسن : «والمُعْتَرِي » اسم فاعل من اعْتَرَى يَعْتَرِي{[31271]} وقرأ إسماعيل ويروى عن أبي رجاء والحسن أيضاً «والمُعْتَرِ » بكسر الراء اجتزاء بالكسر عن لام الكلمة {[31272]} . وقرئ «المُعْتَرِي » بفتح التاء{[31273]} ، قال أبو البقاء : وهو في معناه{[31274]} أي : في معنى «المُعْتَر » في قراءة العامة{[31275]} . قال بعضهم{[31276]} : والأقرب أن القانع هو الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح ، والمعتر : هو الذي يعترض ويطالب ويعتريهم حالاً بعد حال فيفعل ما يدل على أنه لا{[31277]} يقنع بما يدفع إليه أبداً {[31278]} .
وقال ابن زيد : القانع المسكين ، والمعتر الذي ليس بمسكين ، ولا يكون له ذبيحة ، ويجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم{[31279]} .
قوله : «كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا » . الكاف نعت مصدر{[31280]} أو حال من ذلك المصدر ، أي مثل وصفنا ما وصفنا من نحرها قياماً سخرناها لكم نعمة منا لتتمكنوا من نحرها . «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون » لكي تشكروا إنعام الله عليكم .