فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَـٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (36)

قرأ ابن أبي إسحاق : «والبدن » بضم الباء والدال ، وقرأ الباقون بإسكان الدال وهما لغتان ، وهذا الاسم خاص بالإبل . وسميت بدنة ؛ لأنها تبدن ، والبدانة : السمن . وقال أبو حنيفة ومالك : إنه يطلق على غير الإبل ، والأوّل أولى لما سيأتي من الأوصاف التي هي ظاهرة في الإبل ، ولما تفيده كتب اللغة من اختصاص هذا الاسم بالإبل . وقال ابن كثير في تفسيره : واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على قولين : أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعاً كما صح في الحديث { جعلناها لَكُمْ } وهي ما تقدّم بيانه قريباً { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } أي منافع دينية ودنيوية كما تقدّم { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا } أي على نحرها ومعنى { صَوَافَّ } أنها قائمة قد صفت قوائمها ، لأنها تنحر قائمة معقولة . وأصل هذا الوصف في الخيل يقال : صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى الرابعة . وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري : «صوافي » أي خوالص لله لا تشركون به في التسمية على نحرها أحداً ، وواحد صوافّ صافة ، وهي قراءة الجمهور . وواحد صوافي صافية ، وقرأ ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبو جعفر ومحمد بن علي : «صوافن » بالنون جمع صافنة . والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب ، ومنه قوله تعالى : { الصافنات الجياد } [ ص : 31 ] ، ومنه قول عمرو بن كلثوم :

تركنا الخيل عاكفة عليه *** مقلدة أعنتها صفونا

وقال الآخر :

ألف الصفون فما يزال كأنه *** مما يقوم على الثلاث كسير

{ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } الوجوب : السقوط ، أي فإذا سقطت بعد نحرها ، وذلك عند خروج روحها { فَكُلُوا مِنْهَا } ذهب الجمهور أن هذا الأمر للندب { وَأَطْعِمُوا القانع والمعتر } هذا الأمر قيل : هو للندب كالأوّل ، وبه قال مجاهد والنخعي وابن جرير وابن سريج . وقال الشافعي وجماعة : هو للوجوب .

واختلف في القانع من هو ؟ فقيل : هو السائل ، يقال : قنع الرجل بفتح النون يقنع بكسرها إذا سأل ، ومنه قول الشماخ :

لمال المرء يصلحه فيغني *** مفاقره أعفّ من القنوع

أي السؤال ، وقيل : هو المتعفف عن السؤال المستغني ببلغة ، ذكر معناه الخليل . قال ابن السكيت : من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة ، وهي الرضا والتعفف وترك المسألة . وبالأوّل قال زيد بن أسلم وابنه وسعيد بن جبير والحسن ، وروي عن ابن عباس . وبالثاني قال عكرمة وقتادة . وأما المعترّ ، فقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن : أنه الذي يتعرّض من غير سؤال . وقيل : هو الذي يعتريك ويسألك . وقال مالك : أحسن ما سمعت أن القانع : الفقير ، والمعترّ : الزائر . وروي عن ابن عباس : أن كلاهما الذي لا يسأل ، ولكن القانع الذي يرضى بما عنده ولا يسأل ، والمعترّ الذي يتعرّض لك ولا يسألك .

وقرأ الحسن : «والمعترّي » ومعناه كمعنى المعترّ ومنه قول زهير :

على مكثريهم رزق من يعتريهم *** وعند المقلين السماحة والبذل

يقال : اعترّه واعتراه وعرّه وعراه : إذا تعرّض لما عنده أو طلبه ، ذكره النحاس { كذلك سخرناها لَكُمْ } أي مثل ذلك التسخير البديع سخرناها لكم ، فصارت تنقاد لكم إلى مواضع نحرها فتنحرونها . وتنتفعون بها بعد أن كانت مسخرة للحمل عليها والركوب على ظهرها والحلب لها ونحو ذلك { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } هذه النعمة التي أنعم الله بها عليكم .

/خ37