فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَـٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (36)

{ وَالْبُدْنَ } قرئ بضم الباء وسكون الدال وبضمهما وهما لغتان ، وهذا الاسم خاص عند الشافعي بالإبل ، وسميت بدنة لأنها تبدن ، والبدانة السمن . وقال أبو حنيفة ومالك : إنه يطلق على الإبل والبقر ، والأول أولى لما سيأتي من الأوصاف التي هي ظاهرة في الإبل ، ولما تفيده كتب اللغة من اختصاص هذا الاسم بالإبل .

قال ابن لقيمة : فكلام الشافعية موافق لكلام الأزهري ، وكلام الحنفية موافق لكلام الصحاح . وقال ابن كثير في تفسيره : واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على قولين : أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعا{[1241]} ، كما صح في الحديث قال ابن عمر : لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر . وقال أيضا : البدن ذات الجوف وعن مجاهد قال : ليس البدن إلا من الإبل وعن عطاء نحو ما قال ابن عمر ، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن . وقيل لا تسمي الغنم بدنة لصغرها .

{ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ } أي من أعلام الشريعة التي شرعها الله تعالى وإضافتها إلى اسمه تعظيم لها ، وقيل لأنها تشعر ، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم بذلك أنها هدي ، وقد تقدم بيانه قريبا .

{ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } أي منافع دينية ودنيوية كما تقدم ، وهي جملة مستأنفة ، مقررة لما قبلها أو حالية . قاله السمين .

{ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا } أي على نحرها بأن تقولوا عند ذبحها : الله أكبر لا إله إلا الله ، والله أكبر ، اللهم منك وإليك { صَوَافَّ } أي أنها قائمات قد صفت قوائمها لأنها تنحر قائمة معقولة وقرئ صوافي أي خوالص لله لا يشركون به في التسمية على نحرها أحدا وواحد صواف صافة وهي قراءة الجمهور ، وواحد صوافي صافية . وفي قراءة ابن مسعود صوافن بالنون جمع صافنة ، وهي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب ، ومنه قوله تعالى : { الصافنات الجياد } ، وأصل هذا الوصف في الخيل ، يقال صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى الرابعة .

قال ابن عباس في الآية : إذا أردت أن تنحر البدنة فأقمها على ثلاث قوائم معقولة ثم قل بسم و الله أكبر .

وفي الصحيحين وغيرهما عنه أنه رأى رجلا قد أناخ بدنته وهو ينحرها فقال ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكون قيامها سنة إنما هو على سبيل الندب ، ويجوز نحرها وذبحها مضجعة على جنبها كالبقر .

{ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } الوجوب السقوط ، يقال وجبت الشمس أي سقطت ووجب الجدار سقط ، ومنه الواجب الشرعي كأنه سقط علينا ولزمنا ، أي فإذا سقط جنبها بعد نحرها على الأرض ، وذلك عند خروج روحها فهو كناية عن الموت ، وجمع الجنوب مع أن البعير إذا خر يسقط على أحد جنبيه ، لأن ذلك الجمع في مقابلة جمع البدن .

{ فَكُلُوا مِنْهَا } إن شئتم ، ذهب الجمهور إلى أن هذا الأمر للندب { وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } هذا الأمر قيل هو للندب كالأول ، وبه قال مجاهد والنخعي وابن جرير وابن سريج .

وقال الشافعي وجماعة : هو للوجوب ، واختلف في القانع من هو ؟ فقيل هو السائل ؛ يقال قنع الرجل بفتح النون يقنع بكسرها إذا سأل ، وقيل هو المتعفف عن السؤال المستغني ببلغة ، ذكر معناه الخليل وبه قال ان عباس ، قال ابن السكيت : من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة ، وهي الرضا والتعفف وترك المسألة ، وبالأول قال زيد بن أسلم وابنه وسعيد بن جبير والحسن ، وبالثاني قال عكرمة وقتادة .

وقال ابن عمر وابن عباس : القانع الذي يقنع بما آتيته . وأما المعتر فقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن : أنه الذي يتعرض من غير سؤال وقيل هو الذي يعتريك ويسألك ، وقال مالك : أحسن ما سمعت أن القانع : الفقير والمعتر الزائر . وروي عن ابن عباس أن كليهما الذي لا يسأل ولكن القانع الذي يرضى بما عنده ولا يسأل ، والمعتر الذي يتعرض لك ولا يسألك وقرأ الحسن والمعتري ومعناه كمعنى المعتر ، يقال اعتره واعتراه وعره وعراه إذا تعرض لما عنده أو طلبه . ذكره النحاس .

قال ابن عباس : المعتر السائل ، وعنه الذي يعترض ، وعنه القانع الذي يجلس في بيته ، وعنه أنه سئل عن هذه الآية فقال : أما القانع فالقانع بما أرسلت إليه في بيته ، والمعتر الذي يعتريك ، وعنه قال : القانع الذي يسأل والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل .

وقي القانع المسكين ، والمعتر الذي ليس بمسكين ، وقيل القانع جارك الذي ينظر ما دخل عليك ، والمعتر الذي يعتر ببابك ويريك نفسه ، وقد روي عن التابعين في تفسير هذه الآية أقوال مختلفة ، والمرجع المعنى اللغوي لا سيما مع الاختلاف بين الصحابة ومن بعدهم في تفسير ذلك .

{ كَذَلِكَ } أي مثل ذلك التسخير البديع المفهوم من قوله صواف { سَخَّرْنَاهَا } أي ذللنا البدن { لَكُمْ } فصارت تنقاد لكم إلى مواضع نحرها فتنحرونها وتنتفعون بها بعد أن كانت مسخرة للحمل عليها والركوب على ظهورها والحلب لها ونحو ذلك { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } هذه النعمة التي أنعم الله بها عليكم .


[1241]:ابن كثير 3/221.