قوله تعالى : { قد كان لكم آية } . ولم يقل قد كانت ، والآية مؤنثة لأنه ردها إلى البيان ، أي قد كان لكم بيان ، فذهب إلى المعنى ، وقال الفراء : إنما ذكر لأنه حالت الصفة بين الفعل والاسم المؤنث ، فذكر الفعل ، وكل ما جاء من هذا النحو فهذا وجهه ، فمعنى الآية : قد كان لكم آية : أي عبرة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون .
قوله تعالى : { في فئتين } فرقتين ، وأصلها فيء الحرب لأن بعضهم يفيء إلى بعض .
قوله تعالى : { التقتا } . يوم بدر .
قوله تعالى : { فئة تقاتل في سبيل الله } . طاعة الله ، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، سبعة وسبعون رجلاً من المهاجرين ، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار . وصاحب راية المهاجرين ، علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ، وكان فيهم سبعون بعيراً وفرسان ، فرس للمقداد بن عمرو ، وفرس لمرثد بن أبي مرثد وأكثرهم رجالة ، وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف .
قوله تعالى : { وأخرى كافرة } . أي فرقة أخرى كافرة ، وهم مشركو مكة ، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً من المقاتلة ، يرأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وفيهم مائة فرس ، وكانت حرب بدر أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { يرونهم مثليهم } قرأ أهل المدينة ويعقوب بالتاء ، يعني ترون يا معشر اليهود أهل مكة مثلي المسلمين ، وذلك أن جماعة من اليهود كانوا حضروا قتال بدر لينظروا على من تكون الدائرة فرأوا المشركين مثلي عدد المسلمين ، ورأوا النصرة مع ذلك للمسلمين فكان ذلك معجزة وآية ، وقرأ الآخرون بالياء ، واختلفوا في وجهه ، فجعل بعضهم الرؤية للمسلمين ، ثم له تأويلان : أحدهما : يرى المسلمون المشركين مثليهم كما هم ، فإن قيل كيف قال مثليهم وهم كانوا ثلاثة أمثالهم ؟ قيل : هذا مثل قول الرجل وعنده درهم ، أنا أحتاج إلى مثلي هذا الدرهم ، يعني إلى مثليه سواه فيكون ثلاثة والتأويل الثاني وهو الأصح : كان المسلمون يرون المشركين مثلي عدد أنفسهم ، قللهم الله تعالى في أعينهم حتى رأوهم ستمائة وستة وعشرين ، ثم قللهم الله في أعينهم في حالة أخرى حتى رأوهم مثل عدد أنفسهم .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً ؛ ثم قللهم الله تعالى أيضا في أعينهم حتى رأوهم عددا يسيرا أقل من أنفسهم . قال ابن مسعود رضي الله عنه : حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين ؟ قال :أراهم مائة . قال بعضهم : الرؤية راجعة إلى المشركين ، يعني يرى المشركون المسلمين مثليهم ، قللهم الله قبل القتال في أعين المشركين ليجترئ المشركون عليهم ولا ينصرفوا فلما أخذوا في القتال كثرهم الله في أعين المشركين ليجبنوا وقللهم في أعين المؤمنين ليجترئوا ، فذلك قوله تعالى( وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ) قوله تعالى : { رأي العين } . أي في رأي العين ، نصب بنزع حرف الصفة .
قوله تعالى : { والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك } . الذي ذكرت .
قوله تعالى : { لعبرة لأولي الأبصار } . لذوي العقول ، وقيل لمن أبصر الجمعين .
ثم ساق القرآن مثلا مشاهداً يدل على نصر الله - تعالى - لأوليائه وخذلانه لأعدائه ، فقال : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين } .
والمراد بالآية هنا العلامة والبرهان والشاهد على صدق الشىء المخبر عنه .
والفئة - كما يقول القرطبي - الجماعة من الناس ، وسميت الجماعة من الناس فئة لأنها يفاء إليها ، أي يرجع إليها في وقت الشدة ، ولا خلاف في أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر . ثم قال : ويحتمل أن يكون المخاطب بهذه الآية جميع المؤمنين ، ويحتمل أن يخاطب بها جميع الكفار ، ويحتمل أن يخاطب بها يهود المدينة ، وبكل احتمال منها قد قال قوم . وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت النفوس وتشجيعها ، حتى يقدموا على مثليهم وأمثالهم كما قد وقع .
والمعنى : قد كان لكم أيها الناس علامة عظيمة ، ودلالة واضحة على أن الكافرين سيغلبون والمؤمنين سينصرون بما جرى في غزوة بدر ، فقد رأيتم كيف أن الله - تعالى - قد نصر المؤمنين مع قلة عددهم ، وهزم الكافرين مع كثرة عددهم وعددعم . ولقد كان المؤمنون يرون أعداءهم أكثر منهم عددا وعدة ومع ذلك لم يهابوهم ولم يجبنوا عن لقائهم ، بل أقدموا على قتالهم بإيمان وشجاعة فرزقهم الله النصر على أعدائهم .
ووصف - سبحانه - الفئة المؤمنة بأنها تقاتل في سبيل الله ، على سبيل المدح لها ، والإعلاء من شأنها ، وبيان الغاية السامية التي من أجلها قاتلت ، ومن أجلها تم لها النصر فهي لم تقاتل لأجل عرض من أعراض الدنيا وإنما قاتلت لإعلاء كلمة الله ونصرة الحق .
ووصف الفئة الأخرى بأنها كافرة ؛ لأنها لم تؤمن بالحق ، ولم تتبع الطريق المستقيم ، بل كفرت بكل ما يصلحها في دينها ودنياها .
ولم يصفها بالقتال كما وصف الفئة المؤمنة . إسقاطا لقتال تلك الفئة الكافرة عن درجة الاعتبار ، وإيذانا بأن الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم عند لقائهم للمؤمنين ، جعلهم بأنهم ليسوا أهلا لأن يوصفوا بالقتال .
هذا وللعلماء أقوال في المراد من قوله - تعالى - { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين } وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه الأقوال فقال : { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ } أي : يرى المشركون المسلمين مثلى عدد المشركين أي قريبا من ألفين ، أو مثلى عدد المسلمين أي ستمائة ونيفا وعشرين . أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم . وكان ذلك مددا لهم من الله كما أمدهم بالملائكة . والدليل عليه قراءة نافع " ترونهم " بالتاء ، أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلى فئتكم الكافرة ، أو مثلى أنفسهم . فإن قلت فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال { وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ } قلت : قللوا أولا في أعينهم حتى اجترؤا عليهم : فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا ، فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين . . . وتقليلهم تارة وتكثيرهم تارة أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية . وقيل : يرى المسلمون المشركين مثلى المسلمين على ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثيني في قوله { فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } بعدما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة في قوله - تعالى - { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } والذى نراه أن الرأى الذى عبر عنه صاحب الكشاف بقوله : وقيل : يرى المسلمون المشركين مثل المسلمين . . . إلخ هذا الرأى هو أقرب الأقوال إلى الصواب ؛ لأن المسلمين في غزوة بدر كانوا أقل عددا وعدة من المشركين ، ولأن التعبير بقوله - تعالى - { رَأْيَ العين } يفيد أن رؤية هذه الكثرة من المشركين كانت رؤية بصرية بالمشاهدة ، وليست بالتقدير أو التخيل ، وهذا يتحقق في رؤية المؤمنين للمشركين :
فإن قيل : إن المشركين في بدر كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين تقريبا - كما حكى لنا التاريخ - ولم يكونوا مثليهم أي ضعفهم ؟
فالجواب على ذلك أن هذا التقدير للمشركين من جانب المؤمنين كان تقديراً تقريبيا وليس تقديرا عدديا ، فثلاثة الأمثال قد ترى رأى العين مثلين أو نقول : إن المراد بكلمة مثلين مجرد التكرار وليس المراد بها التثنية على الحقيقة ، كما في قوله - تعالى - { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } فالمراد تكرار النظر مرة ومرات وليس المراد التحديد بكرتين .
وقد رجح ابن جرير الطبرى هذا الرأى ، فقد قال بعد سرده لجملة من أقوال العلماء : وأولى هذه القراءات بالصواب : قراءة من قرأ { يَرَوْنَهُمْ } بمعنى : وأخرى كافرة يراهم المسلمون مثليهم ، يعني : مثلى عدد المسلمين ، لتقليل الله إياهم في أعينهم في حال . فكان حزرهم إياهم كذلك . . ثم قال : وأما قوله : { رَأْيَ العين } فإنه مصدر رأيته يقال رأيته رأياً ورؤية ، ويقال هو منى رأى العين ، ورأى العين - بالنصب والرفع - يراد حيث يقع عليه بصرى .
. فمعنى ذلك : يرونهم حيث تلحقهم أبصارهم وتراهم عيونهم مثليهم " .
وقوله - تعالى - { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } . . إلخ من تمام القول المأمور به جىء به لتقرير وتحقيق ما قبله . و { كَانَ } هنا ناقصة ، و { آيَةٌ } اسمها ، وترك التأنيث في - كان - لوجود الفاصل بينها وبين اسمها ، ولأن المرفوع بها وهو اسمها مجازى التأنيث أو باعتبار أن الآية برهان ودليل . وقوله { لَكُمْ } خبر كان . وقوله { فِئَةٌ } خبر لمبتدأ محذوف أى . إحداهما فئة تقاتل في سبيل الله . وقوله { وأخرى } نعت لمقدر أى وفئة أخرى كافرة . والجملة مستأنفة لتقرير " ما في الفئتين من الآية " ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } .
أى : والله - تعالى - يؤيد بنصره من يشاء نصره وفوزه ، فهو القادر على أن يجعل الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة ، لاراد لمشيئته ولا معقب لحكمه وإن الذين يغترون بقوتهم وحدها ، ويغترون بما بين أيديهم من أموال وعتاد ورجال ، ولا يعملون حسابا للقدر ، الذي يجريه الله على حسب مشيئته وإرادته هؤلاء الذين غرهم بالله الغرور ، تداهمهم الهزيمة من حيث لا يحتسبون ، وقد يفجؤهم الخسران والخذلان من الطريق الذى توهموا فيه الكسب والانتصار .
لذا أمر الله - تعالى- عباده بالاعتبار والاتعاظ فقال : { إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } واسم الإشارة ذلك يعود إلى المذكور الذى رأوه وشاهدوه وهو أن الفئة القليلة المؤمنة غلبت الفئة الكثيرة الكافرة .
والعبرة - الاعتبار والاتعاظ وأصله من العبو وهو النفور من أحد الجانبين إلى الآخر ، وسمى الاتعاظ عبرة ، لأن المعتبر المتعظ يعبر عن الجهل إلى العلم ، ومن الهلاك إلى النجاة .
أى : إن في ذلك الذي شاهده الناس وعاينوه من انتصار الفئة القليلة التي تقاتل في سبيل الله ، على الفئة الكثيرة التي تقاتل في سبيل الطاغوت ، لعبرة عظيمة ، ودلالة واضحة ، لأصحاب المدارك السليمة والعقول الواعية التي تفهم الأمور على حقيقتها ، وتؤمن بأن الله - تعالى - قادر على كل شيء ، أما أصحاب القلوب المطموسة والنفوس المغرورة بقوتها . فهي عن الاعتبار والاتعاظ بمعزل .
قال الفخر الرازي ما ملخصه : " واعلم أن العلماء ذكروا في تفسير كون تلك الواقعة آية بينة وعبرة واضحة - وجوها : منها أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف عن المقاومة أمور منها قلة العدد ، وأنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا ، ومنه قلة السلاح ، ومنها أنها كانت ابتداء غارة في الحرب لأنها أول غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني من الكثرة والتأهب وغير ذلك ومع هذا فقد انتصر المؤمنون ، ولما كان ذلك خارجا عن العادة كان معجزا " .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد أنذرت الكافرين بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم ، وساقت لهم ما يؤيد ذلك من واقع ما شاهدوه ، وبشرت المؤمنين بنصر الله لهم ، وحثنهم على الاتعاظ والاعتبار ، لأن من شأن المعتبرين أن يكونوا مراقبين لله - تعالى - ومنفذين لأوامره ، ومبتعدين عن نواهيه ، ومن كان كذلك كان الله معه بنصره وتأييده .
( قد كان لكم آية في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين . والله يؤيد بنصره من يشاء . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . .
وقوله تعالى : ( يرونهم مثليهم رأي العين ) يحتمل تفسيرين : فإما أن يكون ضمير( يرون ) راجعا إلى الكفار ، وضمير( هم ) راجعا إلى المسلمين ، ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين( مثليهم ) . . وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة ، فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم .
وإما أن يكون العكس ، ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين ( مثليهم ) هم - في حين أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم - ومع هذا ثبتوا وانتصروا .
والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره . . وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد . كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم . . وكان الموقف - كما ذكرنا في التمهيد للسورة - يقتضي هذا وذاك . . وكان القرآن يعمل هنا وهناك . .
وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة . وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة . . إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله ، قائم في كل لحظة . ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة - ولو قل عددها - قائم كذلك في كل لحظة . وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ ، وسنة ماضية لم تتوقف .
وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة ؛ وتثق في ذلك الوعد ؛ وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة ؛ وتصبر حتى يأذن الله ؛ ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله ، المدبر بحكمته ، المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة .
( إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . .
ولا بد من بصر ينظر وبصير تتدبر ، لتبرز العبرة ، وتعيها القلوب . وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار !
أي : قد كان لكم - أيها اليهود القائلون ما قلتم - { آيَةٌ } أي : دلالة على أن الله معز دينه ، وناصر رسوله ، ومظهر كلمته ، ومعل أمره { فِي فِئَتَيْنِ } أي : طائفتين { الْتَقَتَا } أي : للقتال { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وهم المسلمون ، { وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } وهم مشركو قريش يوم بدر .
وقوله : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } قال بعض العلماء - فيما حكاه ابن جرير : يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم ، أي : جعل الله ذلك فيما رأوه سببًا لنصرة الإسلام عليهم . وهذا لا إشكال عليه إلا من جهة واحدة ، وهي أن المشركين بعثوا عمر بن سعد يومئذ قبل القتال يحزر{[4838]} لهم المسلمين ، فأخبرهم بأنهم ثلاثمائة ، يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا . وهكذا كان الأمر ، كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ثم لما وقع القتال أمدّهم الله بألف من خواص الملائكة وساداتهم .
والقول الثاني : " أن المعنى في قوله : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } أي : ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم ، أي : ضعفيهم في العدد ، ومع هذا نصرهم{[4839]} الله عليهم . وهذا لا إشكال فيه على ما رواه العوفي ، عن ابن عباس أن المؤمنين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا والمشركين{[4840]} كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلا . وكأن هذا القول مأخوذ من ظاهر هذه الآية ، ولكنه خلاف المشهور عند أهل التواريخ والسير وأيام الناس ، وخلاف المعروف عند الجمهور من أن المشركين كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف كما رواه محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل ذلك العبد
الأسود لبني الحجاج عن عدّة قريش ، فقال : كثير ، قال : " كم ينحرون كل يوم ؟ " قال : يومًا تسعًا{[4841]} ويومًا عشرًا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " القوم ما بين التسعمائة إلى الألف " {[4842]} .
وروى{[4843]} أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن حارثة ، عن علي ، قال : كانوا ألفًا ، وكذا قال ابن مسعود . والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف ، وعلى كل تقدير فقد كانوا ثلاثة أمثال المسلمين ، وعلى هذا فيشكل هذا القول والله أعلم . لكن وجه ابن جرير هذا ، وجعله صحيحًا كما تقول : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها ، وتكون{[4844]} محتاجًا إلى ثلاثة آلاف ، كذا قال . وعلى هذا فلا إشكال .
لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين ، وهو أن يقال : ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في قصة بدر : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا } ؟ [ الأنفال : 44 ] والجواب : أن هذا كان في حال ، والآخر كان في حال{[4845]} أخرى ، كما قال السُّدِّي ، عن [ مرة ] الطيب{[4846]} عن ابن مسعود في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا [ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ] {[4847]} } الآية ، قال : هذا يوم بدر . قال عبد الله بن مسعود : وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يُضْعَفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدًا ، وذلك قوله{[4848]} تعالى : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } .
وقال أبو إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي{[4849]} تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة . قال : فأسرنا رجلا منهم فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفا . فعندما عاين كل الفريقين الآخر رأى المسلمون المشركين مثليهم ، أي : أكثر منهم بالضعف ، ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا الإعانة من ربهم ، عز وجل . ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع ، ثم لما حصل التصاف{[4850]} والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء ، وهؤلاء في أعين هؤلاء ، ليقدم كل منهما على الآخر .
{ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا } أي : ليفرّق بين الحق والباطل ، فيظهر كلمة الإيمان على الكفر ، ويعز المؤمنين ويذل الكافرين ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } [ آل عمران : 123 ] وقال هاهنا : { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ } أي : إن في ذلك لمعتبرًا لمن له بصيرة وفهم يهتدي به إلى حكم الله وأفعاله ، وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
وقوله تعالى : { قد كان لكم آية في فئتين } الآية تحتمل أن يخاطب بها المؤمنون وأن يخاطب بها جميع الكفار وأن يخاطب بها يهود المدينة ، وبكل احتمال منها قد قال قوم ، فمن رأى أن الخطاب بها للمؤمنين فمعنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها ، لأنه لما قال للكفار ما أمر به أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون وبعض ضعفة المؤمنين ، كما قال قائل يوم الخندق : يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر ، ونحن لا نأمن على أنفسنا في المذهب ، وكما قال عدي بن حاتم حين أخبره النبي عليه السلام بالأمنة التي تأتي ، فقلت في نفسي : وأين دعار طيىء الذين سعروا البلاد ؟ الحديث بكماله{[2984]} ، فنزلت الآية مقوية لنفوس المؤمنين ومبينة صحة ما أخبر به بالمثال الواقع ، فمن قرأ «ترونهم » بالتاء من فوق فهي مخاطبة لجميع المؤمنين إذ قد رأى ذلك جمهور منهم ، والهاء والميم في «ترونهم » تجمع المشركين ، وفي «مثلهم » لجميع المؤمنين{[2985]} ، ومن قرأ بالياء من تحت فالمعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار مثلي جمع المؤمنين ، ومن رأى أن الخطاب لجميع الكفار ومن رأى أنه لليهود فالآية عنده داخلة فيما أمر محمد عليه السلام أن يقوله لهم احتجاجاً عليهم ، وتبييناً لصورة الوعيد المتقدم في أنهم سيغلبون ، فمن قرأ بالياء من تحت ، فالعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار مثلي جمع المؤمنين ، ومن قرأ بالتاء فالمعنى لو حضرتم أو إن كنتم حضرتم وساغت العبارة لوضوح الأمر في نفسه ووقوع اليقين به لكل إنسان في ذلك العصر ، ومن قرأ بضم التاء أو الياء فكأن المعنى ، أن اعتقاد التضعيف في جميع الكفار إنما كان تخميناً وظناً لا يقيناً ، فلذلك ترك في العبارةضرب من الشك وذلك أن أرى بضم الهمزة تقولها فيما بقي عندك فيه نظر و-أرى- بفتح الهمزة تقولها فيما قد صح نظرك فيه ، ونحا هذا المنحى أبو الفتح وهو صحيح ، قال أبو علي : والرؤية في هذه الآية عين ، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد ، و { مثليهم } نصب على الحال من الهاء والميم في { ترونهم } وأجمع الناس على الفاعل ب { ترونهم } المؤمنون والضمير المتصل هو للكفار ، إلا ما حكى الطبري عن قوم أنهم قالوا : بل كثر الله عدد المؤمنين في عيون الكفار حتى كانوا عندهم ضعفيهم ، وضعف الطبري هذا القول ، وكذلك هو مردود من جهات ، بل قلل الله كل طائفة في عين الأخرى ، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، فقلل الكفار في عيون المؤمنين ليقع التجاسر ويحتقر العدو ، وهذا مع اعتقاد النبي وقوله ، واعتقاد أولي الفهم من أصحابه أنهم من التسعمائة إلى الألف{[2986]} ، لكن أذهب الله عنهم البهاء وانتشار العساكر وفخامة الترتيب ، حتى قال ابن مسعود في بعض ما روي عنه : لقد قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين ؟ فقال : أظنهم مائة ، فلما أخذنا الأسرى أخبرونا أنهم كانوا ألفاً ، وقلل الله المؤمنين في عيون الكفار ليغتروا ولا يحزموا ، وتظاهرت الروايات أن جمع الكفار ببدر كان نحو الألف فوق التسعمائة وأن جمع المؤمنين كان ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً وقيل وثلاثة عشر ، فكان الكفار ثلاثةاثلاث من المؤمنين ، لكن رجع بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ، ورجع طالب بن أبي طالب{[2987]} وأتباع وناس كثير حتى بقي للقتال من يقرب من المثلين ، وقد ذكر النقاش نحواً من هذا فذكر الله تعالى المثلين ، إذ أمرهما متيقن لم يدفعه قط أحد ، وقد حكى الطبري عن ابن عباس : أن المشركين في قتال بدر كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلاً ، وقد ذهب الزجاج وبعض المفسرين ، أنهم كانوا نحو الألف وأراهم الله للمؤمنين مثليهم فقط ، قال : فهذا التقليل في الآية الأخرى ، ثم نصرهم عليهم مع علمهم بأنهم مثلاهم في العدد ، لأنه كان أعلم المسلمين أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار ، وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال يوم بدر : القوم ألف{[2988]} ، وقوله تعالى : { لكم آية } يريد علامة وأمارة ومعتبراً ، والفئة : الجماعة من الناس سميت بذلك لأنها يفاء إليها ، أي يرجع في وقت الشدة ، وقال الزجاج : الفئة الفرقة ، مأخوذة من فأوت رأسه بالسيف ، ويقال : فأيته إذا فلقته ، ولا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر ، وقرأ جمهور الناس «فئةٌ تقاتل » برفع «فئةٌ » على خبر ابتداء ، تقديره إحداهما فئة ، وقرأ مجاهد والحسن والزهري وحميد : : فئةٍ «بالخفض على البدل ، ومنهم من رفع » كافرةٌ «ومنهم من خفضها على العطف ، وقرأ ابن أبي عبلة : » فئةً «بالنصب وكذلك » كافرة «قال الزجاج : يتجه ذلك على الحال كأنه قال : التقتا مؤمنة وكافرة ، ويتجه أن يضمر فعل أعني ونحوه و { رأي العين } نصب على المصدر ، و { ويؤيد } معناه يقوي من الأيد وهو القوة .
الخطاب في قوله : { قد كان لكم آية } خطاب للذين كفروا ، كما هو الظاهر ؛ لأنّ المقام للمحاجّة ، فأعقب الإنذار والوعيد بإقامة الحجّة . فيكون من جملة المقول ، ويجوز أن يكون الخطاب للمسلمين ، فيكون استئنافاً ناشئاً عن قوله ستُغلبون ؛ إذ لعلّ كثرة المخاطبين من المشركين ، أو اليهود ، أو كليهما ، يثير تعجّب السامعين من غلبهم فذكرهم الله بما كان يوم بدر .
والفئتان هما المسلمون والمشركون يوم بدر .
والالتقاء : اللقاء ، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة ، واللقاء مصادفة الشخصصِ شخصاً في مَكان واحد ، ويطلق اللقاء على البروز للقتال كما في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } وسيأتي . والالتقاء يطلق كذلك كقول أنيف بن زبان :
فلما التقينا بين لسيف بيننا *** لسائلة عنا حفي سؤالها .
وقوله { فئة تقاتل } تفصيل للفئتين ، وهو مرفوع على أنه صدر جملة للاستئناف في التفصيل والتقسيم ، الوارد بعد الإجمال والجمع .
والفئة : الجماعة من الناس ، وقد نقدم الكلام عليها في قوله تعالى { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } في سورة البقرة .
والخطاب في { ترونهم } كالخطاب في قوله : { قد كان لكم } .
والرؤية هنا بصرية بقوله { رأي العين } والظاهر أن الكفار رأو المسلمين يوم بدر عند اللقاء والتلاحم مثلي عددهم ، فوقع الرعب في قلوبهم فانهزموا . فهذه الرؤية جعلت آية لمن رأوها وتحققوا بعد الهزيمة أنهم كانوا واهمين فيما رأوه ليكون ذلك أشد حسرة لهم ، وتكون هذه الرؤية غير الرؤية المذكورة في الأنفال بقوله : { ويقللكم في أعينهم } فإن تلك يناسب أن تكون وقعت قبل التلاحم ، حتى يستخف المشركون بالمسلمين ، فلا يأخذوا أهميتهم للقائهم ، فلما لاقوهم رأوهم مثلي عددهم فدخلهم الرعب والهزيمة ، وتحققوا قلة المسلمين بعد انكشاف الملحمة فقد كانت إرادة القلة وإرادة الكثرة سببي نصر المسلمين بعجيب صنع الله تعالى . وجوز أن يكون المسلمون رأوا المشركين مثلي عدد المؤمنين ، وكان المشركون ثلاثة أمثالهم ، فقللهم الله في أعين المسلمين لئلا يفشلوا لأنهم قد علموا من قبل أن المسلم يغلب كافرَين فلو علموا أنهم ثلاثة أضعافهم لخافو الهزيمة ، وتكون هذه الإراءة هي الإراءة المذكورة في سورة الأنفال { وإذ يريكموهم إذ القتيتم في أعينكم قليلا } ويكون ضمير الغيبة في قوله { مثليهم } راجعا للمسلمين على طريقة الالتفات ، وأصله ترونهم مثليكم على أنه من المقول .
وقرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب : ترونهم – بناء الخطاب – وقرأه الباقون بياء الغيبة : على أنه حال من { أخرى كافرة } ، أو من { فئة تقاتل في سبيل الله } أي مثلي عدد المرئين . إن كان الراءون هم المشركون ، أو مثلي عدد الرائين ، إن كان الراءون هم المسلمين . لأن كليهما جرى ضميره على الغيبة وكلتا الرؤيتين قد وقعت يوم بدر وكل فئة علمت رؤيتها وتُحديت بهاته الآية ، وعلى هذه القراءة يكون العدول عن التغيير بفئتكم إلى قوله { فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة } لقصد صلوحية ضمير الغيبة لكلتا الفئتين ، فيفيد اللفظ آيتين على التوزيع بطريقة التوجيه .
و { رأي العين } مصدر مبين لنوع الرؤية : إذ كان فعل رأى يحتمل البصر والقلب وإضافته إلى العين دليل على أنه يستعمل مصدرا لرأى القلبية . كيف والرأي اسم للعقل ، وتشار فيها رأى البصرية ، بخلاف الرؤية فخاصة بالبصرية .
وجملة { والله يؤيد بنصره من يشاء } تذييل لأن تلك الرؤية كيفما فسرت تأييد للمسلمين . قال تعالى { إذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا } .