الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ} (92)

أخرج مالك وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أنس قال : " كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلا ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب ، فلما نزلت { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } قال أبو طلحة : يا رسول الله إن الله يقول { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بخ ، ذاك مال رابح ، وقد سمعت ما قلت ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين . فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله ؟ فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه " .

وأخرج عبد بن حميد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير عن أنس قال : " لما نزلت هذه الآية { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } قال أبو طلحة : يا رسول الله إن الله يسألنا من أموالنا ، أشهد أني قد جعلت بأريحا لله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعلها في قرابتك . فجعلها في حسان بن ثابت ، وأبي بن كعب " .

وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن أنس قال : " لما نزلت هذه الآية { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } أو هذه الآية ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) قال أبو طلحة : يا رسول الله حائطي الذي بكذا وكذا صدقة ، ولو استطعت أن أسره لم أعلنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعله في فقراء أهلك " .

وأخرج عبد بن حميد والبزار عن ابن عمر قال : حضرتني هذه الآية { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } فذكرت ما أعطاني الله ، فلم أجد شيئا أحب إلي من مرجانة جارية لي رومية ، فقلت هي حرة لوجه الله ، فلو أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها ، فأنكحها نافعا .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب ، أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء . فدعا بها عمر فقال : إن الله يقول { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } فأعتقها عمر .

وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر قال : " لما نزلت هذه الآية { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } جاء زيد بن حارثة بفرس له يقال لها شبلة لم يكن له مال أحب أليه منها فقال : هي صدقة . فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحمل عليها ابنه أسامة ، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في وجه زيد فقال : إن الله قد قبلها منك " .

وأخرج ابن جرير عن عمرو بن دينار . مثله .

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير من طريق معمر عن أيوب وغيره " أنها حين نزلت { لن تنالوا البر . . . } الآية ، جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال : يا رسول الله هذه في سبيل الله ، فحمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد ، فكأن زيدا وجد في نفسه . فلما رأى ذلك منه النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أما إن الله قد قبلها " .

وأخرج عبد بن حميد عن ثابت بن الحجاج قال : " بلغني أنه لما نزلت هذه الآية { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } قال زيد : اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مال أحب إلي من فرسي هذه فتصدق بها على المساكين ، فأقاموها تباع وكانت تعجبه . فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه أن يشتريها " .

وأخرج ابن جرير عن ميمون بن مهران أن رجلا سأل أبا ذر أي الأعمال أفضل ؟ قال : الصلاة عماد الإسلام ، والجهاد سنام العمل ، والصدقة شيء عجيب . فقال : يا أبا ذر لقد تركت شيئا هو أوثق عملي في نفسي لا أراك ذكرته ! قال : ما هو ؟ قال : الصيام ! فقال : قربة وليس هنا . وتلا هذه الآية { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } .

وأخرج عبد بن حميد عن رجل من بني سليم قال : جاورت أبا ذر بالربذة ، وله فيها قطيع إبل . له فيها راع ضعيف فقلت : يا أبا ذر ألا أكون لك صاحبا أكنف راعيك ، وأقتبس منك بعض ما عندك ، لعل الله أن ينفعني به ؟ فقال أبو ذر : إن صاحبي من أطاعني ، فإما أنت مطيعي فأنت لي صاحب وإلا فلا . قلت : ما الذي تسألني فيه الطاعة ؟ قال : لا أدعوك بشيء من مالي إلا توخيت أفضله .

قال : فلبثت معه ما شاء الله ، ثم ذكر له في الماء حاجة فقال : ائتني ببعير من الإبل ، فتصفحت الإبل فإذا أفضلها فحلها ذلول ، فهممت بأخذه ثم ذكرت حاجتهم إليه فتركته ، وأخذت ناقة ليس في الإبل بعد الفحل أفضل منها ، فجئت بها فحانت منه نظرة فقال : يا أخا بني سليم خنتني . فلما فهمتها منه خليت سبيل الناقة ورجعت إلى الإبل ، فأخذت الفحل فجئت به فقال لجلسائه : من رجلان يحتسبان عملهما ؟ قال رجلان : نحن . . . قال : أما لا فأنيخاه ، ثم اعقلاه ، ثم انحراه ، ثم عدوا بيوت الماء فجزئوا لحمه على عددهم ، واجعلوا بيت أبي ذر بيتا منها ففعلوا .

فلما فرق اللحم دعاني فقال : ما أدري أحفظت وصيتي فظهرت بها ، أم نسيت فأعذرك ؟ قلت : ما نسيت وصيتك ولكن لما تصفحت الإبل وجدت فحلها أفضلها ، فهممت بأخذه فذكرت حاجتكم إليه فتركته فقال : ما تركته إلا لحاجتي إليه ؟ قلت : ما تركت إلا لذلك قال : أفلا أخبرك بيوم حاجتي ؟ إن يوم حاجتي يوم أوضع في حفرتي ، فذلك يوم حاجتي . إن في المال ثلاثة شركاء : القدر لا ينتظر أن يذهب بخيرها أو شرها ، والوارث ينتظر متى تضع رأسك ثم يستفيئها وأنت ذميم ، وأنت الثالث فإن استطعت أن لا تكونن أعجز الثلاثة فلا تكونن مع أن الله يقول { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وأن هذا المال مما أحب من مالي فأحببت أن أقدمه لنفسي .

وأخرج أحمد عن عائشة قالت : " أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب فلم يأكله ولم ينه عنه قلت : يا رسول الله أفلا نطعمه المساكين ؟ قال : لا تطعموهم مما لا تأكلون " .

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن طريق مجاهد عن ابن عمر أنه لما نزلت { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } دعا بجارية له فأعتقها .

وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : قرأ ابن عمر وهو يصلي فأتى على هذه الآية { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } فأعتق جارية له وهو يصلي أشار إليها بيده .

وأخرج ابن المنذر عن نافع قال : كان ابن عمر يشتري السكر فيتصدق به فنقول له : لو اشتريت لهم بثمنه طعاما كان أنفع لهم من هذا ، فيقول : إني أعرف الذي تقولون ولكن سمعت الله يقول { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وابن عمر يحب السكر .

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله { لن تنالوا البر } قال : الجنة .

وأخرج ابن جرير عن عمرو بن ميمون والسدي . مثله .

وأخرج ابن المنذر عن مسروق . مثله .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال : لن تنالوا بركم حتى تنفقوا مما يعجبكم ، ومما تهوون من أموالكم { وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم } يقول محفوظ : ذلك لكم والله به عليم شاكر له .