لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ} (92)

قوله عز وجل : { لن تنالوا البر } قال ابن عباس : يعني الجنة ، وقيل : البر هو التقوى ، وقيل هو الطاعة ، وقيل معناه لن تنالوا حقيقة البر ولن تكونوا أبرارا حتى تنفقوا مما تحبون ، وقيل معناه لن تنالوا بر الله وهو ثوابه وأصل البر التوسع في فعل الخير ، يقال بر العبد ربه أي توسع في طاعته فالبر من الله الثواب ومن العبد الطاعة وقد يستعمل في الصدق وحسن الخلق لأنهما من الخير المتوسع فيه .

( ق ) عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً " .

( م ) عن النواس بن سمعان قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال : " البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس منك " ، فعلى هذا يكون المعنى عليكم بالأعمال الصالحة حتى تكونوا أبراراً وتدخلوا في زمرة الأبرار . ومن قال إن لفظ البر هو الجنة فقال معنى الآية لن تنالوا الثواب البر المؤدي إلى الجنة { حتى تنفقوا مما تحبون } يعني من جيد أموالكم أنفسها عندكم قال الله تعالى :

{ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } ، وقيل هو أن تنفق من مالك ما أنت محتاج إليه قال الله تعالى : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } . ( ق ) عن أبي هريرة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا رسول الله أي الصدقة أفضل ؟ قال : " أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا إلاّ وقد كان " . واختلفوا في هذا الإنفاق قال ابن عباس : هو الزكاة المفروضة والمعنى لن تنالوا حتى تخرجوا زكاة أموالكم فعلى هذا القول قيل إن الآية منسوخة بآية الزكاة وفيه بعداً لأنه ترغيب في إخراج الزكاة وقال ابن عمر : المراد بها سائر الصدقات وقال الحسن : كل شيء أنفقه المسلم من مالك مما يبتغي به وجه الله ويطلب ثوابه حتى التمرة فإنه يدخل في قوله : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون .

( ق ) عن أنس بن مالك قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً وكان أحب أمواله إليه بيرحا وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس : فلما نزلت هذه الآية { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن الله تعالى يقول في كتابه { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وإن أحب أموالي إلي بيرحا وإنها صدقة لله عز وجل أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بخ بخ ذلك مال رابح " أو قال : " ذلك مال رابح أرى أن تجعلها في الأقربين " فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه ، قوله : بخ بخ هي كلمة تقال عند المدح والرضا وتكريرها للمبالغة وهي مبنية على السكون فإذا وصلت جر ب ونونت فقلت : بخ بخ قوله : مال رابح أي ذو ربح ، وفي الرواية الأخرى ذلك مال رايح بالياء معناه يروح عليك نفعه وثوابه وبيرحا اسم موضع بالمدينة وهو حائط كان لأبي طلحة . وروي عن مجاهد قال : كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت فلما جاءت أعجبته فقال عمر إن الله عزّ وجلّ يقول { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } فأعتقها عمر وعن حمزة بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما خطرت على قلبه هذه الآية : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } قال عبد الله فذكرت ما أعطاني الله تعالى فما كان شيء أحب إليّ من فلانة فقلت هي حرة لوجه الله تعالى ، قال : ولولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها . وعن عمرو بن دينار قال لما نزلت هذه الآية { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها سيل كان يحبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : تصدق بهذه يا رسول الله فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة ، فقال : يا رسول الله إنما أردت أن أتصدق بها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد قبلت صدقتك " ، وفي رواية " كأن زيداً أوجد في نفسه ، فلما رأى ذلك منه النبي صلى الله عليه وسلم قال : أما إن الله قد قبلها " ، ورُوي أن أبا ذر نزل به ضيف فقال للراعي : ائتني بخير إبلي ، فجاء بناقة مهزولة ، فقال للراعي : خنتني ، فقال الراعي : وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوماً حاجتكم إليه فقال : إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي ، وقوله تعالى : { وما تنفقوا من شيء } يعني من أي شيء كان من طيب تحبونه أو من خبيث تكرهونه { فإن الله به عليم } أي يعلمه ويجازيكم به .