فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ} (92)

{ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم } .

{ تنالوا } تعطوا وتدركوا وتصيبوا .

{ البر } الصدق والطاعة والصلاح والخير والتقى والقربة وخير الدنيا والآخرة فخير الدنيا الهدى وسعة النعمة وخير الآخرة الفوز بالرضوان والخلود والجنة .

{ تنفقوا } توسعوا وتنشروا وتتصدقوا وأنفق الرجل إنفاقا إذا وجد نفاقا ورواجا وكثر من يقبل على ما لديه .

[ لما ذكر أن الإنفاق لا ينفع الكافر البتة علم المؤمنين كيفية الإنفاق الذي ينتفعون به في الآخرة وهو الإنفاق من أحب الأشياء إليهم ؛ . . . البر . . . ما به يصيرون أبرارا ليدخلوا في قوله { إن الأبرار لفي نعيم }{[1059]} فيكون المراد بالبر ما يصدر عنهم من الأعمال المقبولة المذكورة في قوله { . . أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون }{[1060]} ، والثاني : الجنة أي لن تنالوا ثواب البر وقيل المراد بر الله وأوليائه وإكرامه وإياهم . . و{ من } في قوله { من ما تحبون } للتبعيض . . وفيه أن إنفاق كل المال غير مندوب بل غير جائز لمن يحتاج إليه ] {[1061]} .

لن يبلغ المسلم درجة التقى والقربة ولن يصيب حقيقة الصدق مع الله والطاعات التامة له ، ولن يمنح بر الله تعالى وثوابه ورضوانه وجنته حتى يبذل مما يحبه . عن عطاء قال : لن تنالوا شرف الدين والتقوى حتى تتصدقوا وأنتم أصحاء أشحاء تأملون العيش وتخشون الفقر .

في الصحيحين عن عمر قال : يا رسول الله لم أصب مالا قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر فما تأمرني به ؟ قال ( احبس الأصل وسبل الثمرة ) .

روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة وكان أحب أمواله إليه بئر حاء{[1062]} وكانت مستقبلة المسجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب فلما نزلت { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } قال أبو طلحة : يا رسول الله إن الله تعالى يقول { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وإن أحب أموالي إلي بئر حاء وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بخ بخ ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين ) فقال أبو طلحة أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه .

{ وما تنفقوا من شيء } – أي شيء تنفقوا طيب تحبونه أو خبيث تكرهونه . { فإن الله به عليم } . . فيجازيكم بحسبه . . وفي الآية ترغيب وترهيب-{[1063]} .


[1059]:من سورة الانفطار الآية 13.
[1060]:من سورة البقرة من الآية 177.
[1061]:من تفسير غرائب القرآن.
[1062]:بستان وماء ومال في موضع قريب من المسجد النبوي وبعضهم يسميه بئر حاء.
[1063]:روح المعاني؛ وتابع يقول: وظاهر هذه الأخبار يدل على أن الإنفاق في الآية يعم المستحب.. وهو مبني على أن المراد مما تحبون المال لاكرائن..واستشكلت هذه الآية بأن ظاهرها يستدعي أن الفقير الذي لم ينفق طول عمره مما يحب لعدم إمكانه لا يكون بارا أو لا يناله بر الله تعالا بأهل طاعته مع أنه ليس كذلك، وأجيب بأن الكلام خارج مخرج الحث على الإنفاق وهو مقيد بالإمكان وإنما أطلق على سبيل المبالغة في الترغيب وقيل الأولى أن يكون المراد {لن تنالوا البر} الكامل الواقع على أشرف الوجوه {حتى تنفقوا مما تحبون} والفقير الذي لم ينفق طول عمره لا يبعد القول بأنه لا يكون بارا كاملا ولا يناله بر الله تعالى الكامل بأهل الطاعة وقيل: الأولى أن يقال إن المراد {لن تنالوا البر} على الإنفاق {حتى تنفقوا مما تحبون} وحاصله أن الإنفاق من المحبوب يترتب عليه نيل البر وأن الإنفاق مما عداه لا يترتب عليه نيل البر، وليس في الآية ما يدل على حصر ترتيب البر على الإنفاق من المحبوب ونفي ترتيب البر على فعل آخر من الأفعال المأمور بها وحينئذ لا يبعد أن يكون الفقير غير منفق بارا أو نائلا بر الله تعالى بأهل طاعته من جهة أخرى...1هـ.