الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ غَيۡرَ مُحِلِّي ٱلصَّيۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ} (1)

مقدمة السورة:

هذه السورة مدنية .

بسم الله الرحمن الرحيم . قد تقدَّم نظيرُ قوله تعالى : [ آية 1 ] { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ } والبهيمة : كلُّ ذات أربع في البر أو البحر . وقل : ما أَبْهم من جهة نقص النطق والفهم . وكل ما كان على وزن فعيل أو فعلية حلقيَّ العين جاز في فائه الكسر إتباعاً لعينه نحو : بيهمة وشعيرة وصغيرة وبحيرة " والأنعام تقدَّم بيانها في آل عمران .

قوله : { إِلاَّ مَا يُتْلَى } هذا مستثنى من بهيمة الأنعام ، والمعنى : ما يتلى عليكم تحريمه ، وذلك قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } [ المائدة : 3 ] إلى قوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } [ المائدة : 3 ] . [ وفيه قولان ، أحدهما : أنه مستثنى متصل ، والثاني : ] أنه منقطعٌ حَسْبَ ما فُسِّر به المتلوُّ عليهم كا سيأتي بيانه ، وعلى تقديرِ كونه استثناء متصلاً يجوز في محله وجهان ، أظهرهما : أنه منصوبٌ لأنه استثناء متصل من موجب ، ويجوز أن يُرْفَع على أنه نعتٌ ل " بهيمة " على ما قُرَّر في علم النحو . ونَقَل ابن عطية عن الكوفيين وجهين آخرين ، أحدهما : أنه يجوزُ رفعه على البدل من " بهيمة " والثاني : أنَّ " إلا " حرف عطف وما بعدها عطف على ما قبلها ، ثم قال : " وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو : " جاء الرجالُ إلا زيدٌ " كأنك قلت : غيرُ زيد " وقوله : " وذلك " ظاهرُه أنه مشارٌ به إلى وجهي الرفع : البدلِ والعطف . وقوله : " إلا من نكرة " غيرُ ظاهر ، لأن البدل لا يجوز البتة من موجب عند أحد من الكوفيين والبصريين . ولا يُشترط في البدل التوافقُ تعريفاً وتنكيراً . وأمَّا العطفُ فذكره بضع الكوفيين ، وأما الذي اشترط في البصريون التنكيرَ أو ما قاربه فإنما اشترطوه في النعت ب " إلا " فيُحتمل أنه اختلط على أبي محمد شرطُ النعت فجعله شرطاً في البدل ، هذا كله إذا أريد بالمتلوِّ عليهم تحريمُه قولُه تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة } [ المائدة : 3 ] إلى آخره ، وإنْ أريد به الأنعامُ والظباء وبقرُ الوحش وحُمُرهُ فيكون منقطعاً بمعنى " لكن " عند البصريين وبمعنى " بل " عند الكوفيين ، وسيأتي بيانُ هذا المنقطع بأكثرَ من هذا عند التعرُّض لنصب " غير " عن قرب .

قوله تعالى : " غيرَ " في نصبه خمسة أوجه/ ، أحدها : أنه حال من الضمير المجرور في " لكم " وهذا قول الجمهور ، وإليه ذهب الزمخشري وابن عطية وغيرهما ، وقد ضُعِّف هذا الوجهُ بأنه يلزم منه تقييد إحلال بهيمة الأنعام لهم بحالِ كونهم غيرَ مُحِلِّي الصيد وهم حرم ، إذ يصير معناه : " أُحِلَّتْ لكم بهيمة الأنعام في حال كون انتفاء كونكم تُحِلّون الصيدَ وأنتم حرم " ، والغرض أنهم قد أُحِلَّتْ لهم بهيمة الأنعام في هذه الحال وفي غيرها ، هذا إذا أريد ببهيمة الأنعامِ الأنعامُ نفسها ، وأما إذا غُنِي بها الظباءُ وحمر الوحش وبَقَره على ما فَسَّره بعضم فيظهر للتقييدِ بهذه الحال فائدةٌ ، إذ يصير المعنى : أُحِلت لكم هذه الأشياء حالَ انتفاء كونكم تُحِلُّون الصيد وأنتم حرم فهذا معنى صحيح ، ولكن التركيب الذي قَدَّرته لك فيه قلقٌ .

ولو أُريد هذا المعنى من الآية الكريمة لجاءت به على أحسن تركيب وأفصحه .

الوجه الثاني : - وهو قولُ الأخفشِ وجماعةٍ - أنه حالٌ من فاعل " أوْفوا " والتقدير : أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم مُحِلِّين الصيد وأنتم حرم . وقد ضَعَّفوا هذا المذهبَ من وجهين ، الأول : أنه يلزم منه الفصلُ بين الحال وصاحبها بجملة أجنبية ، ولا يجوز الفصل إلا بجمل الاعتراض ، وهذه الجملةُ وهي قوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } ليست اعتراضيةً ، بل هي منشئةٌ أحكاماً ومُبَيِّنَةٌ لها ، وجملةُ الاعتراض إنما تفيد تأكيداً وتسديداً . والثاني : أنه يلزمُ منه تقييد الأمر بإيفاء العقود بهذه الحالة فيصيرُ التقدير كما تقدَّم ، وإذا اعتبرنا مفهومَه يصير المعنى : فإذا انتفت هذه الحالُ فلا تُوفوا بالعقود ، والأمرُ ليس كذلك ، فإنهم مأمورون بالإِيفاءِ بالعقودِ على كلِّ حالٍ من إحرامٍ وغيرِه .

الوجه الثالث : أنه منصوبٌ على الحالِ من الضمير المجرور في " عليكم " أي : إلاَّ ما يُتْلى عليكم حالَ انتفاءِ كونكم مُحِلِّين الصيد . وهو ضعيفٌ أيضاً بما تقدَّم من أنَّ المتلوَّ عليهم لا يُقَيَّد بهذه الحالِ دون غيرها بل هو متلو عليهم في هذه الحال وفي غيرها .

الوجه الرابع : أنه حالٌ من الفاعل المقدَّر ، يعني الذي حُذف وأقيم المفعولُ مُقامه في قوله تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ } فإن التقدير عنده : أَحَلَّ الله لكم بهيمة الأنعام غيرَ محلٍ لكم الصيد وأنتم حرم . فحذفت الفاعلَ وأقامَ المفعولَ مقامه ، وترك الحال من الفعل باقية . وهذا الوجهُ فيه ضعفٌ من وجوه . الأول أن الفاعلَ المنوبَ عنه صار نسياً منسيَّاً غيرَ ملتفَتٍ إليه ، نصُّوا على ذلك ، لو قلت : " أُنْزِلَ الغيث مجيباً لدعائهم " وتجعل " مجيباً " حالاً من الفاعل المنوبِ عنه ، فإنَّ التقدير : " أَنْزل اللّهُ الغيثَ حالَ إجابته لدعائهم " لم يَجُزْ فكذلك هذا ، ولا سيما إذا قيل : بأن بنْية الفعلِ المبني للمفعولِ بنيةٌ مستقلة غيرُ محلولةٍ من بنية مبنية للفاعل كما هو قول الكوفيين وجماعة من البصريين . الثاني : أنه يلزم منه التقييدُ بهذه الحالِ إذا عَنَى بالأنعام الثمانية الأزواج ، وتقييدُ إحلاله تعالى لهم هذه الثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلالِه الصيدَ وهم حرمٌ ، واللّهُ تعالى قد أَحَلَّ لهم هذه مطلقاً . والثالث : أنه كُتب " مُحِلِّي " بصيغة الجمع فيكف يكون حالاً من الله ؟ وكأن هذا القائل زعم أن اللفظَ " مُحِلّ " من غير ياء ، وسيأتي ما يشبه هذا القول .

الوجه الخامس : أنه منصوبٌ على الاستثناء المكرر ، يعني أنه هو وقولَه " إلا ما يتلى " مستثنيان من شيء واحد ، وهو " بيهمة الأنعام " نَقَل ذلك بعضُهم عن البصريين قال : " والتقديرُ : إلا ما يتلى عليكم إلا الصيدَ وأنتم محرمون ، بخلاف قوله تعالى : { إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } [ الحجر : 58 ] على ما يأتي بيانُه ، قال هذا القائل : " ولو كان كذلك لوَجَبَ إباحةُ الصيد في الإِحرام لأنه مستثنى من الإِباحة . وهذا وجه ساقط ، فإذن معناه : أُحِلَّتْ لكم بهيمةُ الأنعام غيرَ محلّي الصيد وأنتم حُرُمٌ إلا مايُتلى عليكم سوى الصيدِ " انتهى .

وقال الشيخ : " إنما عَرْضُ الإِشكالِ مِنْ جَعْلم " غير محلّي الصيد " حالاً من المأمورين بإيفاء العقود ، أو مِن المحلِّل لهم وهو الله تعالى ، أو من المتلوِّ عليهم ، وغَرَّهم في ذلك كونُه كتب " محلِّي " بالياء ، وقدَّروه هم أنه اسم فاعل من " أحلِّ " وأنه مضاف إلى الصيد إضافةَ اسم الفاعلِ المتعدِّي إلى المفعول ، وأنه جَمْعٌ حُذِف منه النونُ للإِضافة ، وأصلُه : " غيرَ محلين الصيد " إلا في قولِ مَنْ جعله حالاً من الفعل المحذوف فإنه لا يُقَدِّر حذفَ نون ، بل حذفَ تنوين . وإنما يزول الإِشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله " مُحِلّي الصيد " من باب قولهم " حسان النساء " ، والمعنى : النساء الحسان فكذلك هذا ، أصلُه : غيرَ الصيدِ المُحِلّ ، والمُحِلُّ صفة للصيد لا للناس ولا للفاعل المحذوف . ووصفُ الصيد بأنه مُحِلُّ على وجهين ، أحدهما : أن يكون معناه دَخَل في الحل ، كما تقول : " أَحَلَّ الرجلُ " إذا دخل في الحِلِّ ، وأَحْرم إذا دخل في الحرم . الوجه الثاني : أن يكون معناه صار ذا حِلّ ، أي : حَلالاً بتحليلِ الله ، وذلك أنَّ الصيدَ على قسمين : حلالٌ وحرام ، ولا يختصُّ الصيدُ في لغةِ العرب / بالحلال لكنه يختصُّ به شرعاً ، وقد تَجَوَّزت العربُ فأطلقت الصيد على ما لا يوصف بحِلٍّ ولا حُرْمة كقوله :

لَيْثٌ يعَثَّرَ يصطادُ الرجالَ إذا *** ما الليثُ كَذَّب عن أقرانِه صَدَقَا

وقولِ الآخر :

وقد ذَهَبَتْ سَلْمَى بعقلِك كلِّه *** فهل غيرُ صيدٍ أَحْرَزَتْهُ حبائِلُهْ

وقولِ امرئ القيس :

وهِرُّ تصيدُ قلوبَ الرجالِ *** وأَفْلَتَ منها ابنُ عمروٍ حُجُرْ

ومجيءُ " أَفْعَل " على الوجهين المذكورين كثيرٌ في لسان العرب ، فمِنْ مجيء افعل لبلوغِ المكان ودخولِه قولُهم : أحرمَ الرجلُ وأَعْرق وأَشْأَم وأَيْمن وأَتْهم وأَنْجد ، إذا بلغ هذه الأمكان وحَلَّ بها ، ومن مجيء أفعل بمعنى صار ذا كذا قولهم : " أعشبت الأرض ، وأبقلت ، وأَغَدَّ البعير ، وأَلْبنت الشاة وغيرها ، وأَجْرت الكلبة ، وأَصْرم النخل ، وأَتْلَت الناقة ، وأَحْصَدَ الزرع ، وأَجْرب الرجل ، وأنجبت المرأة " وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكون مُحِلاًّ باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بَلَغ أو صار ذا حِلّ اتضح كونُه استثناء ثانياً ولا يكون استثناء من استثناء .

إذ لا يمكن ذلك لتناقض الحكمِ ، لأنَّ المستثنى من المُحَلَّل مُحَرَّم ، والمستثنى من المحرم مُحَلَّل ، بل إنْ كن المعنيُّ بقوله " بيهمة الأنعام " الأنعامَ أنفسها فيكونُ استثناء منقطعاً ، وإن كان المرادُ الظباءَ وبقرَ الوحش وحمره ، فيكون استثناء متصلاً على أحد تفسيري المُحِلّ ، استثنى الصيد الذي بلغ الحِلَّ في حال كونهم مُحْرمين . فإن قلت : ما فائدةُ هذا الاستثناءِ بقيدِ بلوغِ الحِلِّ ، والصيد الذي في الحرم لا يَحِلُّ أيضاً ؟ قلت : الصيدُ الذي في الحَرَم لا يَحِلُّ للمحرم ولا لغير المحرم ، وإنما يَحِلُّ لغير المحرم الصيدُ الذي في الحِلّ ، فنبَّه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحِلِّ على المُحْرِم - وإن كان حلالاً لغيره - فأحرى أن يَحْرُم عليه الصيدُ الذي هو بالحَرَم ، وعلى هذا التفسير يكون قوله : { إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } إنْ كان المراد به ما جاء بعده من قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ } الآية استثناءً منقطعاً ، إذ لا تختص الميتة وما ذُكِر معها بالظباء وبقرِ الوحش وحمره فيصير : " لكن ما يتلى عليكم - أي : تحريمُه - فهو مُحَرَّم " ، وإن كان المرادُ ببهيمة الأنعامِ الأنعامَ والوحوشَ فيكون الاستثناءان راجِعَيْن إلى المجموع على التفصيل فيرجع " ما يتلى عليكم " إلى ثمانية الأزواج ، ويرجع " غيرَ مُحِلّي الصيد " إلى الوحوش ، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء من الاستثناء الأول ، وإذا لم يمكن ذلك وأمكن رجوعه إلى الأول بوجهٍ ما رجع إلى الأول ، وقد نص النحويون أنه إذا لم يمكن استثناءُ بعضِ المستثنيات من بعض جُعِل الكلُّ مستثنًى من الأول نحو : " قام القومُ إلا زيداً إلا عمرواً إلا بكراً " فإن قلت : ما ذكرته من هذا التخريج وهو كونُ المُحِلِّ من صفة الصيد لا من صفة الناس ولا من صفة الفاعل المحذوف يأباه رسمه في في المصحف " مُحِلّي " بالياء ، ولو كان من صفته الصيد دون الناس لكتب " مُحِلّ " من غير ياء ، وكونُ القراء وقفوا عليه بالياء أيضاً يأبى ذلك . قلت : لا يعكر ذلك على التخريج ، لأنهم قد رسموا في المصحف الكريم أشياءَ تخالف النظق بها ككتابتهم { لأَذْبَحَنَّهُ } [ النمل : 21 ] { ولأَوْضَعُواْ } [ التوبة : 47 ] ألفاً بعد لام الألف ، وكتابتم " بأَيْيد " بياءين بعد الهمزة ، وكتابتهم " أولئك " بزيادة واو ، ونقصِ ألفٍ بعد اللام ، وكتابتهم " الصالحات " ونحوه بسقوط الألفين إلى غير ذلك . وأمَّا وقفُهم عليه بالياء فلا يجوزُ ، إذ لا يوقف على المضافِ دون المضاف إليه ، وإنْ وقف واقف فإنَّما يكون لِقَطْع نَفَسٍ أو اختبار ، وعلى أنه يمكن توجيهُ كتابته بالياء والوقف عليه بها وهو أنَّ لغةَ الأزد يقفون فيها على " بزيدٍ " بزيدي ، بإبدال التنوين ياءً فكتب " مُحِلِّي " على الوقف على هذه اللغة بالياء ، وهذا توجيهُ شذوذٍ رَسْمي ، ورسمُ المصحف مما لا يقاس عليه " انتهى .

وهذا الذي ذكره واختاره وغَلَّط الناس فيه ليس بشيء ، وما ذكره من توجيه ثبوت الياء خطاً ووقفاً فخطأ محض ؛ لأنه على تقدير تسليم ذلك في تلك اللغة فأين التنوينُ الذي في " مُحِل " ؟ وكيف يكون فيه تنوين وهوم ضاف حتى يقول : إنه قد يُوَجَّه بلغة الأزد ، وما ذكره من كونه يحتمل مما يكونون قد كتبوه كما كتبوا تلك الأمثلة المذكورة فشيء لا يُعَوَّل عليه ، لأنَّ خط المصحف سُنَّةٌ متبعة لا يقاس عليه فكيف يقول : يحتمل أن يقاس هذا على تلك الأشياء ؟ وأيضاً فإنهم لم يُعْربوا " غير " إلا حالاً ، حتى نقل بعضهم الإِجماع على ذلك ، وإنما اختلفوا في صاحب الحال ، فقوله : إنه استثناء ثان مع هذه الأوجه الضعيفة خرقٌ للإِجماع ، إلا ما تقدم نَقْلَه عن بعضهم من أنه استثناء ثان ، وعزاه للبصريين ، لكن لا على هذا المَدْرَك الذي ذكره الشيخ . وقديماً وحديثاً استشكل الناسُ هذه الآية . قال ابن عطية : " وقد خَلَط الناس في هذا الموضع في نصب " غير " وقدَّروا تقديمات وتأخيرات ، وذلك كله غير مُرْضِ ، لأنَّ الكلام على اطراده فيمكن استثناء بعد استثناء " وهذه الاية مما اتضح للفصحاء البلغاء فصاحتُها وبلاغتها ، حتى يُحْكَى أنه قيل للكندي : " أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن " فقال : " نعم أعملُ لكم مثلَ بعضِه " ، فاحتجب أياماً كثيرة ، ثم خَرَجَ فقال : " واللّهِ لا يَقْدِرُ أحد على ذلك ، إنني فتحت المصحفَ فخرجت سورةُ المائدة / فإذا هو قد نَطَقَ بالوفاء ونهى عن النكث وحَلَّل تحليلاً عاماً ثم استثنى استثناءً بعد استثناء ، ثم أَخْبَرَ عن قُدْرَتِه وحكمته في سطرين " .

والجمهور على نصب " غير " ، وقرأ ابن أبي عبلة برفعه ، وفيه وجهان ، أظهرهما : أنه نعت ل " بهيمة الأنعام " والموصوف ب " غير " لا يلزم فيه أن يكونَ مماثلاً لما بعدها في جنسه ، تقول : مررت برجلٍ غير حمار " هكذا قالوه ، وفيه نظر ، ولكن ظاهر هذه القراءة يدلُّ لهم . والثاني : أنه نعتٌ للضمير في " يُتْلى " قال ابن عطية : " لأنَّ " غير محلي الصيد " في المعنى بمنزلة " غير مُسْتَحَلٍ إذا كان صيداً " وقيه تكلُّفٌ .

والصيد في الأصل مصدر صاد يصيد ويُصاد ، ويُطْلق على المصيد ك " درهمٌ ضَرْبُ الأميرِ " وهو في الآية الكريمة يحتمل الأمرين : أعني مِنْ كونِه باقياً على مصدريته ، كأنه قيل : أَحَلَّ لكم بهيمةَ الأنعام غيرَ محلِّين الاصطيادَ وأنتم مُحْرِمون ، ومن كونه واقعاً موقع المفعول أي : غيرَ محلِّين الشيء المصيدَ وأنتم مُحْرمون .

وقوله : { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال ، وما هو صاحبُ هذه الحال ؟ فقال الزمخشري : " هي حال عن " مُحِلّي الصيد " كأنه قيل : أَحْلَلْنا لكم بعضَ الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم مُحْرِمون لئلا نتحرَّج عليكم " قال الشيخ " وقد بَيَّنَّا فساد هذا القول بأنَّ الأنعامَ مباحةٌ مطلقاً لا بالتقيد بهذه الحال " . وهذا الردُّ ليس بشيء لأنه إذا أَحَلَّ لهم بعضَ الأنعام في حالِ امتناعِهم من الصيد فأنْ يُحِلِّها لهم وهم غيرُ مُحْرِمين بطريقِ الأولى . و " حُرُم " جمعَ حرام بمعنى مُحْرِم قال :

فقلْتُ هلا فيئي إليك فإنني *** حَرَامُ وإني بعد ذاك لبيبُ

أي : مُلَبٍّ ، وأَحْرَمَ : إذا دَخَل في الحَرَم أو في الإِحرام . وقال مكي بن أبي طالب : " هو في موضع نصب على الحال من المضمر في " محلي " وهذا هو الصحيح ، وأما ما ذكره أبو القاسم فلا يَظْهَرُ وفيه مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع المستثناة .

وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم والحسن : " حُرْم " بسكون الراء ، قال أبو الحسن : " هي لغة تميم " يعني يسكِّنون ضم " فُعُل " جمعاً نحو : " رُسْل " .