البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{مَّا يَفۡتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحۡمَةٖ فَلَا مُمۡسِكَ لَهَاۖ وَمَا يُمۡسِكۡ فَلَا مُرۡسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (2)

والفتح والإرسال استعارة للإطلاق ، { فلا مرسل له } مكان لا فاتح له ، والمعنى : أي شيء يطلق الله .

{ من رحمة } : أي نعمة ورزق ، أو مطر ، أو صحة ، أو أمن ، أو غير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحاط بعددها .

وما روي عن المفسرين المتقدمين من تفسير رحمة بشيء معين فليس على الحصر منه ، إنما هو مثال .

قال الزمخشري : وتنكير الرحمة للإشاعة والإبهام ، كأنه قال : من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية ، فلا يقدر أحد على إمساكها وحبسها ، وأي شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه . انتهى .

والعموم مفهوم من اسم الشرط ومن رحمة لبيان ذلك العام من أي صنف هو ، وهو مما اجتزىء فيه بالنكرة المفردة عن الجمع المعرف المطابق في العموم لاسم الشرط ، وتقديره : من الرحمات ، ومن في موضع الحال ، أي كائناً من الرحمات ، ولا يكون في موضع الصفة ، لأن اسم الشرط لا يوصف .

والظاهر أن قوله : { وما يمسك } عام في الرحمة وفي غيرها ، لأنه لم يذكر له تبيين ، فهو باق على العموم في كل ما يمسك .

فإن كان تفسيره { من رحمة } ، وحذفت لدلالة الأول عليه ، فيكون تذكير الضمير في { فلا مرسل له من بعده } حملاً على لفظ ما ، وأنث في { ممسك لها } على معنى ما ، لأن معناها الرحمة .

وقرىء : فلا مرسل لها ، بتأنيث الضمير ، وهو دليل على أن التفسير هو { من رحمة } ، وحذف لدلالة ما قبله عليه .

وعن ابن عباس : { من رحمة } : من باب توبة ، { فلا ممسك لها } : أي يتوبون إن شاؤوا وإن أبوا ، { وما يمسك } : من باب ، { فلا مرسل له } من بعده ، فهم لا يتوبون .

وعنه أيضاً : { من رحمة } : من هداية .

قال الزمخشري : فإن قلت : فما تقول فيمن فسر الرحمة بالتوبة وعزاه إلى ابن عباس ؟ قلت : أراد بالتوبة : الهداية لها والتوفيق فيها ، وهو الذي أراده ابن عباس ، إن قاله فمقبول ، وإن أراد أنه إن شاء أن يتوب العاصي تاب ، وإن لم يشأ لم يتب فمردود ، لأن الله تعالى يشاء التوبة أبداً ، ولا يجوز عليه أن لا يشاء بها .

انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .

{ من بعده } : هو على حذف مضاف ، أي من بعد إمساكه ، كقوله : { فمن يهديه من بعد الله } أي من بعد إضلال الله إياه ، لأن قبله وأضله الله على علم ، كقوله : { ومن يضلل الله فلا هادي له } وقدره الزمخشري من بعد هداية الله ، وهو تقدير فاسد لا يناسب الآية ، جرى فيه على طريقة الاعتزال .

{ وهو العزيز } الغالب القادر على الإرسال والإمساك ، { الحكيم } الذي يرسل ويمسك ما اقتضته حكمته .