البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة فاطر

هذه السورة مكية .

0

0

وقرأ الضحاك والزهري : فطر ، جعله فعلاً ماضياً ونصب ما بعده .

قال أبو الفضل الرازي : فأما على إضمار الذي فيكون نعتاً لله عز وجل ، وأما بتقدير قد فيما قبله فيكون بمعنى الحال . انتهى .

وحذف الموصول الاسمي لا يجوز عند البصريين ، وأما الحال فيكون حالاً محكية ، والأحسن عندي أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي هو فطر ، وتقدم شرح { فاطر السموات والأرض } ، وأن المعنى خالقها بعد أن لم تكن ، والسموات والأرض عبارة عن العالم .

وقال أبو عبد الله الرازي : الحمد يكون في غالب الأمر على النعمة ، ونعم الله عاجلة ، و { الحمد لله الذين خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور } إشارة إلى أن النعمة العاجلة ودليله : { هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً } و { الحمد لله الذين أنزل على عبده الكتاب } إشارة إليها أيضاً ، وهي الاتقاء ، فإن الاتقاء والصلاح بالشرع والكتاب .

والحمد في سورة سبأ إشارة إلى نعمة الإيجاد والحشر ، ودليله : { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها } منها ، وقوله : { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } وهنا إشارة إلى نعمة البقاء في الآخرة ، ودليله : { وتتلقاهم الملائكة } ففاطر السموات والأرض شاقهما لنزول الأرواح من السماء ، وخروج الأجساد من الأرض دليله : { جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة } : أي في ذلك اليوم .

فأول هذه السورة متصل بآخر ما مضى ، لأن كما فعل بأشياعهم من قبل بيان لانقطاع رجاء من كان في شك مريب .

ولما ذكر حالهم ذكر حال المؤمن وبشره بإرسال الملائكة إليهم مبشرين ، وأنه يفتح لهم أبواب الرحمة .

وقرأ الحسن : جاعل بالرفع ، أي هو جاعل ؛ وعبد الوارث عن أبي عمرو : وجاعل رفعاً بغير تنوين ، الملائكة نصباً ، حذف التنوين لالتقاء الساكنين .

وقرأ ابن يعمر ، وخليد بن نشيط : جعل فعلاً ماضياً ، الملائكة نصباً ، وذلك بعد قراءته فاطر بألف ، والجر كقراءة من قرأ : { فالق الإصباح وجعل الليل سكناً } وقرأ الحسن ، وحميد بن قيس : رسلاً بإسكان السين ، وهي لغة تميم .

وقال الزمخشري : وقرىء الذي فطر السموات والأرض وجعل الملائكة .

فمن قرأ : فطر وجعل ، فينبغي أن تكون هذه الجمل إخباراً من العبد إلى ما أسداه إلينا من النعم ، كما تقول : الفضل لزيد أحسن إلينا بكذا خولنا كذا ، يكون ذلك جهة بيان لفعله الجميل ، كذلك يكون في قوله : فطر ، جعل ، لأن في ذلك نعماً لا تحصى .

ومن قرأ : وجاعل ، فالأظهر أنهما اسما فاعل بمعنى المضي ، فيكونان صفة لله ، ويجيء الخلاف في نصب رسلاً .

فمذهب السيرافي أنه منصوب باسم الفاعل ، وإن كان ماضياً لما لم يمكن إضافته إلى اسمين نصب الثاني .

ومذهب أبي علي أنه منصوب بإضمار فعل ، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو .

وأما من نصب الملائكة فيتخرج على مذهب الكسائي وهشام في جواز إعمال الماضي النصب ، ويكون إذ ذاك إعرابه بدلاً .

وقيل : هو مستقبل تقديره : يجعل الملائكة رسلاً ، ويكون أيضاً إعرابه بدلاً .

ومعنى رسلاً بالوحي وغيره من أوامره ، ولا يريد جميع الملائكة لأنهم ليسوا كلهم رسلاً .

فمن الرسل : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ، والملائكة المتعاقبون ، والملائكة المسددون حكام العدل وغيرهم ، كالملك الذي أرسله الله إلى الأعمى والأبرص والاقرع .

و { أجنحة } جمع جناح ، صيغة جمع القلة ، وقياس جمع الكثرة فيه جنح على وزن فعل ، فإن كان لم يسمع كان أجنحة مستعملاً في القليل والكثير .

وتقدم الكلام على مثنى وثلاث ورباع في أول النساء مشبعاً ، ولكن المفسرون تعرضوا لكلام فيه هنا ، فقال الزمخشري : مثنى وثلاث ورباع صفات الأجنحة ، وإنما لم تنصرف لتكرار العدل فيها ، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الإعداد من صيغ إلى صيغ أخر ، كما عدل عمر عن عامر ، وحذام عن حاذمة ، وعن تكرير إلى غير تكرير .

وأما بالوصفية ، فلا تقترن الحال فيها بين المعدولة والمعدول عنها .

ألا تراك تقول بنسوة أربع وبرجال ثلاثة فلا يعرج عليها ؟ انتهى .

فجعل المانع للصرف هو تكرار العدل فيها ، والمشهور أنها امتنعت من الصرف للصفة والعدل .

وأما قوله : ألا تراك ، فإنه قاس الصفة في هذا المعدول على الصفة في أفعل وفي ثلاثة ، وليس بصحيح ، لأن مطلق الصفة لم يعدوه علة ، بل اشترطوا فيه .

فليس الشرط موجوداً في أربع ، لأن شرطه أن لا يقبل تاء التأنيث .

وليس شرطه في ثلاثة موجوداً ، لأنه لم يجعل علة مع التأنيث .

فقياس الزمخشري قياس فاسد ، إذ غفل عن شرط كون الصفة علة .

وقال ابن عطية : عدلت عن حال التنكير ، فتعرفت بالعدل ، فهي لا تنصرف للعدل والتعريف ، وقيل : للعدل والصفة . انتهى .

وهذا الثاني هو المشهور ، والأول قول لبعض الكوفيين .

والظاهر أن الملك الواحد من صنف له جناحان ، وآخر ثلاثة ، وآخر أربعة ، وآخر أكثر من ذلك ، لما روي أن لجبريل ستمائة جناح ، منها اثنان يبلغ بهما المشرق إلى المغرب .

قال قتادة : وأخذ الزمخشري يتكلم على كيفية هذه الأجنحة ، وعلى صورة الثلاثة بما لا يجدي قائلاً : يطالع ذلك في كتابه .

وقالت فرقة : المعنى أن في كل جانب من الملك جناحان ، ولبعضهم ثلاثة ، ولبعضهم أربعة ، وإلا فلو كانت ثلاثة لواحد ، لما اعتدلت في معتاد ما رأينا نحن من الأجنحة .

وقيل : بل هي ثلاثة لواحد ، كما يوجد لبعض الحيوانات .

والظاهر أن المراد من الأجنحة ما وضعت له في اللغة .

وقال أبو عبد الله الرازي : يزيل بحثه في قوله : { الحمد لله فاطر السموات والأرض } ، وهو الذي حكينا عنه أن قوله : { جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع } ، أقل ما يكون لذي الجناح ، إشارة إلى الجهة ، وبيانه أن الله ليس شيء فوقه ، وكل شيء تحت قدرته ونعمته ، والملائكة لهم وجه إلى الله يأخذون منه نعمه ويعطون من دونهم مما أخذوه بإذن الله ، كما قال تعالى :

{ نزل به الروح الأمين على قبلك } وقوله : { علمه شديد القوى } وقال تعالى في حقهم : { فالمدبرات أمراً } فهما جناحان ، وفيهم من يفعل ما يفعل من الخير بواسطة ، وفيهم من يفعله لا بواسطة .

فالفاعل بواسطة فيهم من له ثلاث جهات ، ومنهم من له أربع جهات وأكثر . انتهى .

وبحثه في هذه ، وفي { فاطر السموات والأرض } بحث عجيب ، وليس على طريقة فهم العرب من مدلولات الألفاظ التي حملها ما حمل .

والظاهر أن مثنى وما بعده من صفات الأجنحة ، وقيل : { أولي أجنحة } معترض ، و { مثنى } حال ، والعامل فعل محذوف يدل عليه { رسلاً } ، أي يرسلون مثنى وثلاث ورباع .

قيل : وإنما جعلهم أولي أجنحة ، لأنه لما جعلهم رسلاً ، جعل لهم أجنحة ليكون أسرع لنفاد الأمر وسرعة إنفاذ القضاء .

فإن المسافة التي بين السماء والأرض لا تقطع بالأقدام إلا في سنين ، فجعلت لهم الأجنحة حتى ينالوا المكان البعيد في الوقت القريب كالطير .

{ يزيد في الخلق ما يشاء } : تقرير لما يقع في النفوس من التعجب والاستغراب من خبر الملائكة أولي أجنحة ، أي ليس هذا ببدع في قدرة الله ، فإنه يزيد في خلقه ما يشاء ، والظاهر عموم الخلق .

وقال الفراء : هذا في الأجنحة التي للملائكة ، أي يزيد في خلق الملائكة الأجنحة .

وقالوا : في هذه الزيادة الخلق الحسن ، أو حسن الصوت ، أو حسن الخط ، أو لملاحة في العينين أو الأنف ، أو خفة الروح ، أو الحسن ، أو جعودة الشعر ، أو العقل ، أو العلم ، أو الصنعة ، أو العفة في الفقراء ، والحلاوة في الفم ، وهذه الأقوال على سبيل التمثيل لا الحصر .

والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق ، وقد شرحوا هذه الزيادة بالأشياء المستحسنة ، وما يشاء عام لا يخص مستحسناً دون غيره .

وختم الآية بالقدرة على كل شيء يدل على ذلك .