وقرأ الضحاك والزهري : فطر ، جعله فعلاً ماضياً ونصب ما بعده .
قال أبو الفضل الرازي : فأما على إضمار الذي فيكون نعتاً لله عز وجل ، وأما بتقدير قد فيما قبله فيكون بمعنى الحال . انتهى .
وحذف الموصول الاسمي لا يجوز عند البصريين ، وأما الحال فيكون حالاً محكية ، والأحسن عندي أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي هو فطر ، وتقدم شرح { فاطر السموات والأرض } ، وأن المعنى خالقها بعد أن لم تكن ، والسموات والأرض عبارة عن العالم .
وقال أبو عبد الله الرازي : الحمد يكون في غالب الأمر على النعمة ، ونعم الله عاجلة ، و { الحمد لله الذين خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور } إشارة إلى أن النعمة العاجلة ودليله : { هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً } و { الحمد لله الذين أنزل على عبده الكتاب } إشارة إليها أيضاً ، وهي الاتقاء ، فإن الاتقاء والصلاح بالشرع والكتاب .
والحمد في سورة سبأ إشارة إلى نعمة الإيجاد والحشر ، ودليله : { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها } منها ، وقوله : { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } وهنا إشارة إلى نعمة البقاء في الآخرة ، ودليله : { وتتلقاهم الملائكة } ففاطر السموات والأرض شاقهما لنزول الأرواح من السماء ، وخروج الأجساد من الأرض دليله : { جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة } : أي في ذلك اليوم .
فأول هذه السورة متصل بآخر ما مضى ، لأن كما فعل بأشياعهم من قبل بيان لانقطاع رجاء من كان في شك مريب .
ولما ذكر حالهم ذكر حال المؤمن وبشره بإرسال الملائكة إليهم مبشرين ، وأنه يفتح لهم أبواب الرحمة .
وقرأ الحسن : جاعل بالرفع ، أي هو جاعل ؛ وعبد الوارث عن أبي عمرو : وجاعل رفعاً بغير تنوين ، الملائكة نصباً ، حذف التنوين لالتقاء الساكنين .
وقرأ ابن يعمر ، وخليد بن نشيط : جعل فعلاً ماضياً ، الملائكة نصباً ، وذلك بعد قراءته فاطر بألف ، والجر كقراءة من قرأ : { فالق الإصباح وجعل الليل سكناً } وقرأ الحسن ، وحميد بن قيس : رسلاً بإسكان السين ، وهي لغة تميم .
وقال الزمخشري : وقرىء الذي فطر السموات والأرض وجعل الملائكة .
فمن قرأ : فطر وجعل ، فينبغي أن تكون هذه الجمل إخباراً من العبد إلى ما أسداه إلينا من النعم ، كما تقول : الفضل لزيد أحسن إلينا بكذا خولنا كذا ، يكون ذلك جهة بيان لفعله الجميل ، كذلك يكون في قوله : فطر ، جعل ، لأن في ذلك نعماً لا تحصى .
ومن قرأ : وجاعل ، فالأظهر أنهما اسما فاعل بمعنى المضي ، فيكونان صفة لله ، ويجيء الخلاف في نصب رسلاً .
فمذهب السيرافي أنه منصوب باسم الفاعل ، وإن كان ماضياً لما لم يمكن إضافته إلى اسمين نصب الثاني .
ومذهب أبي علي أنه منصوب بإضمار فعل ، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو .
وأما من نصب الملائكة فيتخرج على مذهب الكسائي وهشام في جواز إعمال الماضي النصب ، ويكون إذ ذاك إعرابه بدلاً .
وقيل : هو مستقبل تقديره : يجعل الملائكة رسلاً ، ويكون أيضاً إعرابه بدلاً .
ومعنى رسلاً بالوحي وغيره من أوامره ، ولا يريد جميع الملائكة لأنهم ليسوا كلهم رسلاً .
فمن الرسل : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ، والملائكة المتعاقبون ، والملائكة المسددون حكام العدل وغيرهم ، كالملك الذي أرسله الله إلى الأعمى والأبرص والاقرع .
و { أجنحة } جمع جناح ، صيغة جمع القلة ، وقياس جمع الكثرة فيه جنح على وزن فعل ، فإن كان لم يسمع كان أجنحة مستعملاً في القليل والكثير .
وتقدم الكلام على مثنى وثلاث ورباع في أول النساء مشبعاً ، ولكن المفسرون تعرضوا لكلام فيه هنا ، فقال الزمخشري : مثنى وثلاث ورباع صفات الأجنحة ، وإنما لم تنصرف لتكرار العدل فيها ، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الإعداد من صيغ إلى صيغ أخر ، كما عدل عمر عن عامر ، وحذام عن حاذمة ، وعن تكرير إلى غير تكرير .
وأما بالوصفية ، فلا تقترن الحال فيها بين المعدولة والمعدول عنها .
ألا تراك تقول بنسوة أربع وبرجال ثلاثة فلا يعرج عليها ؟ انتهى .
فجعل المانع للصرف هو تكرار العدل فيها ، والمشهور أنها امتنعت من الصرف للصفة والعدل .
وأما قوله : ألا تراك ، فإنه قاس الصفة في هذا المعدول على الصفة في أفعل وفي ثلاثة ، وليس بصحيح ، لأن مطلق الصفة لم يعدوه علة ، بل اشترطوا فيه .
فليس الشرط موجوداً في أربع ، لأن شرطه أن لا يقبل تاء التأنيث .
وليس شرطه في ثلاثة موجوداً ، لأنه لم يجعل علة مع التأنيث .
فقياس الزمخشري قياس فاسد ، إذ غفل عن شرط كون الصفة علة .
وقال ابن عطية : عدلت عن حال التنكير ، فتعرفت بالعدل ، فهي لا تنصرف للعدل والتعريف ، وقيل : للعدل والصفة . انتهى .
وهذا الثاني هو المشهور ، والأول قول لبعض الكوفيين .
والظاهر أن الملك الواحد من صنف له جناحان ، وآخر ثلاثة ، وآخر أربعة ، وآخر أكثر من ذلك ، لما روي أن لجبريل ستمائة جناح ، منها اثنان يبلغ بهما المشرق إلى المغرب .
قال قتادة : وأخذ الزمخشري يتكلم على كيفية هذه الأجنحة ، وعلى صورة الثلاثة بما لا يجدي قائلاً : يطالع ذلك في كتابه .
وقالت فرقة : المعنى أن في كل جانب من الملك جناحان ، ولبعضهم ثلاثة ، ولبعضهم أربعة ، وإلا فلو كانت ثلاثة لواحد ، لما اعتدلت في معتاد ما رأينا نحن من الأجنحة .
وقيل : بل هي ثلاثة لواحد ، كما يوجد لبعض الحيوانات .
والظاهر أن المراد من الأجنحة ما وضعت له في اللغة .
وقال أبو عبد الله الرازي : يزيل بحثه في قوله : { الحمد لله فاطر السموات والأرض } ، وهو الذي حكينا عنه أن قوله : { جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع } ، أقل ما يكون لذي الجناح ، إشارة إلى الجهة ، وبيانه أن الله ليس شيء فوقه ، وكل شيء تحت قدرته ونعمته ، والملائكة لهم وجه إلى الله يأخذون منه نعمه ويعطون من دونهم مما أخذوه بإذن الله ، كما قال تعالى :
{ نزل به الروح الأمين على قبلك } وقوله : { علمه شديد القوى } وقال تعالى في حقهم : { فالمدبرات أمراً } فهما جناحان ، وفيهم من يفعل ما يفعل من الخير بواسطة ، وفيهم من يفعله لا بواسطة .
فالفاعل بواسطة فيهم من له ثلاث جهات ، ومنهم من له أربع جهات وأكثر . انتهى .
وبحثه في هذه ، وفي { فاطر السموات والأرض } بحث عجيب ، وليس على طريقة فهم العرب من مدلولات الألفاظ التي حملها ما حمل .
والظاهر أن مثنى وما بعده من صفات الأجنحة ، وقيل : { أولي أجنحة } معترض ، و { مثنى } حال ، والعامل فعل محذوف يدل عليه { رسلاً } ، أي يرسلون مثنى وثلاث ورباع .
قيل : وإنما جعلهم أولي أجنحة ، لأنه لما جعلهم رسلاً ، جعل لهم أجنحة ليكون أسرع لنفاد الأمر وسرعة إنفاذ القضاء .
فإن المسافة التي بين السماء والأرض لا تقطع بالأقدام إلا في سنين ، فجعلت لهم الأجنحة حتى ينالوا المكان البعيد في الوقت القريب كالطير .
{ يزيد في الخلق ما يشاء } : تقرير لما يقع في النفوس من التعجب والاستغراب من خبر الملائكة أولي أجنحة ، أي ليس هذا ببدع في قدرة الله ، فإنه يزيد في خلقه ما يشاء ، والظاهر عموم الخلق .
وقال الفراء : هذا في الأجنحة التي للملائكة ، أي يزيد في خلق الملائكة الأجنحة .
وقالوا : في هذه الزيادة الخلق الحسن ، أو حسن الصوت ، أو حسن الخط ، أو لملاحة في العينين أو الأنف ، أو خفة الروح ، أو الحسن ، أو جعودة الشعر ، أو العقل ، أو العلم ، أو الصنعة ، أو العفة في الفقراء ، والحلاوة في الفم ، وهذه الأقوال على سبيل التمثيل لا الحصر .
والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق ، وقد شرحوا هذه الزيادة بالأشياء المستحسنة ، وما يشاء عام لا يخص مستحسناً دون غيره .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.