تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ} (76)

قال الأعمش ، عن المِنْهَال بن عمرو ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى } ، قال : كان ابن عمه . وهكذا قال إبراهيم النَّخَعي ، وعبد الله بن الحارث بن نوفل ، وسماك بن حرب ، وقتادة ، ومالك بن دينار ، وابن جُرَيْج ، وغيرهم : أنه كان ابن عم موسى ، عليه السلام{[22402]} .

قال ابن جُرَيْج : هو قارون بن يصهر بن قاهث ، وموسى بن عمران بن قاهث .

وزعم محمد بن إسحاق بن يَسَار : أن قارون كان عمَّ موسى{[22403]} ، عليه السلام .

قال ابن جرير : وأكثر أهل العلم على أنه كان ابن عمه ، والله أعلم . وقال قتادة بن دِعَامة : كنا نُحدّث أنه كان ابن عم موسى ، وكان يسمى المنوّر لحسن صوته بالتوراة ، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري ، فأهلكه البغي لكثرة ماله .

وقال شَهْر بن حَوْشَب : زاد في ثيابه شبرًا طولا ترفعًا على قومه .

وقوله : { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ } أي : [ من ]{[22404]} الأموال { مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ } أي : لَيُثقلُ حملُها الفئامَ من الناس لكثرتها .

قال الأعمش ، عن خَيْثَمَةَ : كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود ، كل مفتاح مثل الأصبع ، كل مفتاح على خزانة على حدته ، فإذا ركب حُملت على ستين بغلا أغر محجلا . وقيل : غير ذلك ، والله أعلم .

وقوله : { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } أي : وعظه فيما هو فيه صالح قومه ، فقالوا على سبيل النصح والإرشاد : لا تفرح بما أنت فيه ، يعنون : لا تبطر بما أنت فيه من الأموال{[22405]} { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } قال ابن عباس : يعني المرحين . وقال مجاهد : يعني الأشرين البطرين ، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم .


[22402]:- في ت : "صلى الله عليه وسلم".
[22403]:- في ف ، أ : "موسى بن عمران".
[22404]:- زيادة من ت.
[22405]:- في ت ، ف ، أ : "المال".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ} (76)

{ قارون } اسم أعجمي فلذلك لم ينصرف واختلف الناس في قرابة { قارون } من { موسى } عليه السلام فقال ابن إسحاق هو عمه ، وقال ابن جريج وإبراهيم النخعي هو ابن عمه ، وهذ أشهر ، وقيل هو ابن خالته ، وهو بإجماع رجل من بني إسرائيل كان ممن أمن بموسى وحفظ التوراة وكان من أقرأ الناس لها ، وكان عند موسى من عباد المؤمنين ثم إنه لحقه الزهو والإعجاب فبغى على قومه بأنواع من البغي من ذلك كفره بموسى واستخفافه به ومطالبته له فيما قال ابن عباس بأنه عمد إلى امرأة مومسة{[9169]} ذات جمال وقال لها أنا أحسن إليك وأخلطك بأهلي على أن تجيئي في ملإ بني إسرائيل عندي فتقولي يا قارون اكفني أمر موسى فإنه يعترضني في نفسي ، فجاءت المرأة فلما وقفت على الملإ أحدث الله تعالى لها توبة ، فقالت يا بني إسرائيل إن قارون قال لي كذا وكذا ، ففضحته في جميع القصة ، وبرأ الله تعالى موسى من مطالبته ، وقيل بل قالت المرأة ذلك عن موسى فلما بلغه الخبر وقف المرأة بمحضر ملإ من بني إسرائيل فقالت يا نبي الله كذبت عليك وإنما دعاني قارون إلى هذه المقالة وكان من بغيه أنه زاد في ثيابه شبراً على ثياب الناس ، قاله شهر بن حوشب ، إلى غير ذلك مما يصدر عمن فسد اعتقاده ، وكان من أعظم الناس مالاً وسميت أمواله «كنوزاً » إذ كان ممتنعاً من أداء الزكاة وبسبب ذلك عادى موسى عليه السلام أول عداوته ، و «المفاتح » ظاهرها أنها التي يفتح بها ويحتمل أن يريد بها الخزائن والأوعية الكبار ، قاله الضحاك لأن المفتح في كلام العرب الخزانة{[9170]} .

قال القاضي أبو محمد : وأكثر المفسرون في شأن { قارون } فروي عن خيثمة أنه قال : نجد في الإنجيل مكتوباً أن مفاتيح قارون كانت من جلود الإبل وكان المفتاح من نصف شبر وكانت وقر ستين بعيراً أو بغلاً لكل مفتاح كنز .

قال الفقيه الإمام القاضي : وروي غير هذا مما يقرب منه ذلك كله ضعيف والنظر يشهد بفساد هذا ومن كان الذي يميز بعضها عن بعض وما الداعي إلى هذا وفي الممكن أن ترجع كلها إلى ما يحصى ويقدر وعلى حصره بسهولة وكان يلزم على هذا المعنى أن تكون «مفاتيح » بياء وهي قراءة الأعمش والذي يشبه إنما هو أن تكون «المفاتيح » من الحديد ونحوه وعلى هذا { تنوء بالعصبة } إذا كانت كثيرة لكثرة مخازنه وافتراقها من المواضع أو تكون «المفاتيح » الخزائن ، قال أبو صالح كانت خزائنه تحمل على أربعين بغلاً وأما قوله { تنوء } فمعناه تنهض بتحامل واشتداد ومن ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]

ينؤن ولم يكسبن إلا قنازعاً . . . من الريش تنواء النعاج الهزائل

ومنه قول الآخر يصف رامياً : [ الرجز ]

حتى إذا ما اعتدلت مفاصله . . . وناء في شق الشمال كاهله{[9171]}

والوجه أن يقال إن العصبة تنوء بالمفاتح المثقلة لها وكذلك قال كثير من المتأولين المراد هذا لكنه قلب كما تفعل العرب كثيراً ، فمن ذلك قول الشاعر : [ الوافر ]

فديت بنفسه نفسي ومالي . . . وما آلوك إلا ما أطيق{[9172]}

ومن ذلك قول الآخر [ خداش بن زهير ] : [ الطويل ]

وتركب خيل لا هوادة بينها . . . وتشفي الرماح بالضياطرة الحمر{[9173]}

وهذا البيت لا حجة فيه إذ يتجه على وجهه فتأمله ، ومن ذلك قول الآخر :

فما كنت في الحرب العوان مغمزاً . . . إذا شب حر وقودها أجدالها{[9174]}

وقال سيبويه والخليل التقدير «لتنيء العصبة » فجعل بدل ذلك تعدية الفعل بحرف الجر كما تقول ناء الحمل وأنأته ونؤت به ، بمعنى جعلته ينوء والعرب تقول ناء الحمل بالبعير إذا أثقله .

قال الفقيه الإمام القاضي : ويحتمل أن يسند { تنوء } إلى المفاتح مجازاً لأنها تنهض بتحامل إذا فعل ذلك الذي ينهض بها وهذا مطرد في قولهم ناء الحمل بالعير ونحوه فتأمله ، واختلف الناس في { العصبة } كم هي فقال ابن عباس ثلاثة ، وقال قتادة من العشرة إلى الأربعين ، وقال مجاهد خمسة عشر حملاً ، وقيل أحد عشر حملاً على إخوة يوسف وقيل أربعون ، وقرأ بديل بن ميسرة «لينوء » بالياء وجهها أبو الفتح على أنه يقرأ «مفاتحه » جمعاً{[9175]} وذكر أبو عمرو الداني إن بديل بن ميسرة قرأ «ما إن مفتاحه » على الإفراد فيستغنى على هذا عن توجيه أبي الفتح ، وقوله تعالى : { إذ قال له قومه } ، متعلق بقوله { فبغى }{[9176]} ، ونهوه عن الفرح المطغي الذي هو انهماك وانحلال نفس وأشر وإعجاب ، و «الفرح » هو الذي تخلق دائماً بالفرح ، ولا يجب في هذا الموضع صفة فعل{[9177]} لأنه أمر قد وقع فمحال أن يرجع إلى الإرادة وإنما هو لا يظهر عليهم بركته ولا يبهم رحمته .


[9169]:يقال: امرأة مومس ومومسة: فاجرة جهارا، (عن اللسان).
[9170]:المفاتح: جمع مفتح بالكسر، وهو ما يفتح به، وأما من قال: إن المفاتح هي الخزائن فواحدها مفتح بالفتح، (راجع اللسان) قال: "المفتح والمفتاح : مفتاح الباب، وكل ما فتح به- والمفتح: الخزانة، وعن الجوهري: المفتح: الكنز".
[9171]:استشهد الفراء بهذين البيتين على رأيه في معنى قوله تعالى: {لتنوء بالعصبة}، قال: نوؤها بالعصبة أن تثقلهم، أي: تميلهم من ثقلها، فإذا أدخلت الباء قلت: تنوء بهم وتنيء بهم، كما قال: {آتوني أفرغ عليه قطرا} والمعنى: ائتوني بقطر أفرغ عليه، فإذا حذفت الباء زدت في الفعل ألفا في أوله، ومثله: {فأجاءها المخاض} معناه: فجاء بها المخاض، وقد قال رجل من أهل العربية: إن المعنى: ما إن العصبة لتنوء بمفاتحه، فحول الفعل إلى المفاتح، كما قال الشاعر: إن سراجا لكريم مفخره تحلى به العين إذا ما تجهره وهو الذي يحلى بالعين، فإن كان الرجل قد سمع أثرا بهذا فهو الوجه، وإلا فإن الرجل جهل المعنى، وأنشدني بعض العرب: حتى إذا ما التأمت مواصله وناء في شق الشمال كاهله يعني الرامي لما أخذ القوس ونزع مال على شقه فذلك نؤوه عليها، ونرى أن قول العرب: "ما ساءك وناءك" من ذلك، ومعناه: ما ساءك وأناءك، إلا أنه ألقى الألف، لأنه متبع ل "ساءك" كما قالت العرب: أكلت طعاما فهنأني ومرأني، ومعناه – إذا أفردت-: وأمرأني فحذفت منه الألف لما أن أتبع ما لا ألف فيه". وقد استشهد بهما أيضا الطبري، ونقل كلام الفراء بنصه، وكذلك نقل صاحب اللسان كلام الفراء كاملا مع ما استشهد به، هذا والرواية كما في أصول ابن عطية: "التأمت مفاصله"، وفي بعض النسخ: "اعتدلت مفاصله" وفي معاني القرآن واللسان: "التأمت مواصله".
[9172]:هذا البيت من شواهد أبي عبيدة في "مجاز القرآن" قال: " {ما إن مفاتحه لتنوء} أي: مفاتح خزائنه، ومجازه: ما إن العصبة ذوي القوة لتنوء بمفاتح نعمه، يقال في الكلام: (إنها لتنوء بها عجيزتها)، وإنما هي تنوء بعجيزتها، كما ينوء البعير بحمله، والعرب قد تفعل هذا، قال: فديت بنفسه.... البيت"، ومعنى البيت: فديت نفسه بنفسي ومالي، لكن الشاعر قلب، أما قوله: (ما آلوك) فمعناه: ما أستطيع، يقال: جاءني فلان في حاجة فما استطعت رده، وأتاني في حاجة فما استطعت رده، وأتاني في حاجة فألوت فيها، أي: اجتهدت. وفي الشطر الثاني التفات من الغيبة إلى التكلم، فقد تحدث أولا عن حبيبه بضمير الغيبة، ثم التفت بتحدث بضمير الخطاب في قوله: آلوك.
[9173]:قال هذا البيت خداش ابن زهير بن صعصعة، من شعراء قيس المجيدين في الجاهلية، أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يره، والبيت في (اللسان- ضطر)، والضياطرة: جمع ضيطر، وهم العظماء من الرجال، ومن كلام الإمام علي رضي الله عنه: "من يعذرني مع هؤلاء الضياطرة"، والمعنى في البيت أن الضياطرة الحمر يشقون بالرماح، يعني: يقتلون بها، لكن الشاعر قلب وجعل الرماح هي التي تشقى بالضياطرة، وهذا هو الشاهد، على أن ابن عطية يقول: "هذا البيت لا حجة فيه، إذ يتجه على وجهه"، يعني يصح أن يقال: إن الرماح تشقى بهم فعلا، لأنهم لا يحسنون حملها ولا القتال بها، وعلى هذا المعنى لا حجة في البيت ولا شاهد، وقول الشاعر: لا هوادة بينها، يعني لا موادعة ولا مصالحة، وقد وضح ابن سيدة الاحتمالين في البيت، ونقل ذلك صاحب اللسان.
[9174]:البيت للأعشى، قيس بن ميمون بن ثعلبة، قاله من قصيدة يمدح بها قيس بن معديكرب، وقبله يقول: فلعمر من جعل الشهور علامة قدرا، فبين نصفها وهلالها والحرب العوان: التي قوتل فيها مرة بعد مرة، كأنهم جعلوا المرة الأولى بكرا، والمغمر: الجاهل الذي لم يجرب الأمور، وشب النار: أوقدها، والأجذال: جمع جذل، وهو ما عظم من أصول الشجر المقطوع يجعل حطبا ووقودا للنار، يقول الشاعر: أقسم بمن جعل الشهور علامة للناس أنك ما كنت في الحرب الشديدة التي تتكرر مرة بعد مرة جاهلا بأمورها وإدارتها حتى تنتصر على الأعداء حين أوقد حرها الأجذال، وهنا يكون الشاهد، إذ أن الحطب الجذل، أو أجذال الشجر هي التي تشب حر النار، ولكن الشاعر قلب المعنى، وجعل حر النار هو الذي يوقد الأجذال والحطب.
[9175]:قال أبو الفتح: كأنه ذهب إلى "ذلك القدر والمبلغ"، فلاحظ معنى الواحد فحمل عليه، ومثله قول الراجز: مثل الفراخ نتفت حواصله أي حواصل ذلك، أو حواصل ما ذكرنا، وأخبرنا شيخنا أبو علي قال: قال أبو عبيدة لرؤبة في قوله: فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق إن كنت أردت الخطوط فقل: كأنها، وإن كنت أردت السواد والبلق فقل: كأنهما، فقال رؤبة: أردت: كأن ذاك، ويلك، هذا مجموع الحكاية.
[9176]:قال أبو حيان في البحر: "وهذا ضعيف لأن بغيه لم يكن مقيدا بذلك الوقت"، وقال الزمخشري: "ومحل [إذ] منصوب ب [تنوء]". وعلق عليه أبو حيان أيضا فقال:"وهذا ضعيف جدا لأن إثقال المفاتح العصبة ليس مقيدا بوقت قول قومه: {لا تفرح} ، وفي رأي الحوفي أن [إذ] منصوب بمحذوف تقديره : اذكر.
[9177]:أي: ليست صفة ذات بمعنى الإرادة، لأن الفرح أمر قد وقع.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ} (76)

{ إِنَّ قارون كَانَ مِن قَوْمِ موسى فبغى عَلَيْهِمْ وَءَاتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بالعصبة أُوْلِى القُوَّةِ }

كان من صنوف أذى أيمة الكفر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، ومن دواعي تصلبهم في إعراضهم عن دعوته اعتزازهم بأموالهم وقالوا { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] أي على رجل من أهل الثروة فهي عندهم سبب العظمة ونبزهم المسلمين بأنهم ضعفاء القوم ، وقد تكرر في القرآن توبيخهم على ذلك كقوله { وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً } [ سبأ : 35 ] وقوله { وذرني والمكذبين أولي النعمة } [ المزمل : 11 ] الآية . روى الواحدي عن ابن مسعود وغيره بأسانيد : إن الملأ من قريش وسادتهم منهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والمطعم بن عدي والحارث بن نوفل . قالوا : « أيريد محمد أن نكون تبعاً لهؤلاء ( يعنون خباباً ، وبلالاً ، وعماراً ، وصهيباً ) فلو طرد محمد عنه موالينا وعبيدنا كان أعظم له في صدورنا وأطمع له عندنا وأرجى لاتباعنا إياه وتصديقنا له فأنزل الله تعالى { ولا تطرد الذين يدعون ربهم } إلى قوله { بالشاكرين } [ الأنعام : 52 - 53 ] . وكان فيما تقدم من الآيات قريباً قوله تعالى { وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها } إلى قوله { من المحضرين } [ القصص : 60 - 61 ] كما تقدم .

وقد ضرب الله الأمثال للمشركين في جميع أحوالهم بأمثال نظرائهم من الأمم السالفة فضرب في هذه السورة لحال تعاظمهم بأموالهم مثلاً بحال قارون مع موسى وأن مثل قارون صالح لأن يكون مثلاً لأبي لهب ولأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قبل إسلامه في قرابتهما من النبي صلى الله عليه وسلم وأذاهما إياه ، وللعاصي بن وائل السهمي في أذاه لخباب بن الأرتّ وغيره ، وللوليد بن المغيرة من التعاظم بماله وذويه . قال تعالى { ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالا ممدوداً } [ المدثر : 11 - 12 ] فإن المراد به الوليد بن المغيرة .

فقوله { إن قارون كان من قوم موسى } اسئناف ابتدائي لذكر قصة ضربت مثلاً لحال بعض كفار مكة وهم سادتهم مثل الوليد بن المغيرة وأبي جهل بن هشام ولها مزيد تعلق بجملة { وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها } إلى قوله { ثم هو يوم القيامة من المحضرين } [ القصص : 60 ، 61 ] .

ولهذه القصة اتصال بانتهاء قصة جند فرعون المنتهية عند قوله تعالى { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } [ القصص : 46 ] الآية .

و { قارون } اسم معرب أصله في العبرانية ( قورح ) بضم القاف مشبعة وفتح الراء ، وقع في تعريبه تغيير بعض حروفه للتخفيف ، وأجري وزنه على متعارف الأوزان العربية مثل طالوت ، وجالوت ، فليست حروفه حروف اشتقاق من مادة قرن .

و ( قورح هذا ابن عم موسى عليه السلام دنيا ) ، فهو قورح بن يصهار بن قهات بن لاوى بن يعقوب .

وموسى هو ابن عمرم المسمى عمران في العربية ابن قاهت فيكون يصاهر أخا عمرم ، وورد في الإصحاح السادس عشر من سفر العدد أن ( قُورَح ) هذا تألب مع بعض زعماء بني إسرائيل مائتين وخمسين رجلاً منهم على موسى وهارون عليهما السلام حين جعل الله الكهانة في بني هارون من سبط ( لاوى ) فحسدهم قورح إذ كان ابن عمهم وقال لموسى وهارون : ما بالكما ترتفعان على جماعة الرب إن الجماعة مقدسة والرب معها فغضب الله على قورح وأتباعه وخسف بهم الأرض وذهبت أموال ( قورح ) كلها ، وكان ذلك حين كان بنو إسرائيل على أبواب ( أريحا ) قبل فتحها . وذكر المفسرون أن فرعون كان جعل ( قورح ) رئيساً على بني إسرائيل في مصر وأنه جمع ثروة عظيمة .

وما حكاه القرآن يبين سبب نُشُوء الحسد في نفسه لموسى لأن موسى لما جاء بالرسالة وخرج ببني إسرائيل زال تأمّر { قارون } على قومه فحقد على موسى . وقد أكثر القصاص من وصف بذخة قارون وعظمته ما ليس في القرآن . وما لهم به من برهان . وتلقفه المفسرون حاشا ابن عطية .

وافتتاح الجملة بحرف التوكيد يجوز أن يكون لإفادة تأكيد خبر { إن } وما عطف عليه وتعلق به مما اشتملت عليه القصة وهو سوء عاقبة الذين تغرهم أموالهم وتزدهيهم فلا يكترثون بشكر النعمة ويستخفون بالدين ، ويكفرون بشرائع الله لظهور أن الإخبار عن قارون بأنه من قوم موسى ليس من شأنه أن يتردد فيه السامع حتى يؤكد له ، فمصب التأكيد هو ما بعد قوله { إذ قال له قومه لا تفرح } إلى آخر القصة المنتهية بالخسف .

ويجوز أن تكون { إن } لمجرد الاهتمام بالخبر ومناط الاهتمام هو مجموع ما تضمنته القصة من العبر التي منها أنه من قوم موسى فصار عدواً له ولأتباعه ، فأمره أغرب من أمر فرعون .

وعدل عن أن يقال : كان من بني إسرائيل ، لما في إضافة { قوم } إلى { موسى } من الإيماء إلى أن لقارون اتصالاً خاصاً بموسى فهو اتصال القرابة .

وجملة { فبغى عليهم } معترضة بين جملة { إن قارون كان من قوم موسى } وجملة { وءاتيناه من الكنوز } ، والفاء فيها للترتيب والتعقيب ، أي لم يلبث أن بطر النعمة واجترأ على ذوي قرابته ، للتعجيب من بغي أحد على قومه كما قالطرفة :

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهنّد

والبغي : الاعتداء ، والاعتداء على الأمة الاستخفاف بحقوقها ، وأول ذلك خرق شريعتها . وفي الإخبار عنه بأنه { من قوم موسى } تمهيد للكناية بهذا الخبر عن إرادة التنظير بما عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بغي بعض قرابته من المشركين عليه .

وفي قوله { إن قارون كان من قوم موسى } محسّن بديعي وهو ما يسمى النثر المتزن ، أي النثر الذي يجيء بميزان بعض بحور الشعر ، فإن هذه الجملة جاءت على ميزان مصراع من بحر الخفيف ، ووجه وقوع ذلك في القرآن أن الحال البلاغي يقتضي التعبير بألفاظ وتركيب يكون مجموعه في ميزان مصراع من أحد بحور الشعر .

وجملة { إن مفاتحه لتنوء بالعصبة } صلة { ما } الموصولة عند نحاة البصرة الذين لا يمنعون أن تقع { إن } في افتتاح صلة الموصول . ومنع الكوفيون من ذلك واعتُذر عنهم بأن ذلك غير مسموع في كلام العرب ولذلك تأولوا { ما } هنا بأنها نكرة موصوفة وأن الجملة بعدها في محل الصفة .

والمفاتح : جمع مفتح بكسر الميم وفتح المثناة الفوقيية وهو آلة الفتح ، ويسمى المفتاح أيضاً . وجمعه مفاتيح وقد تقدم عند قوله تعالى { وعنده مفاتح الغيب } في سورة [ الأنعام : 59 ] .

و { الكنوز } : جمع كنز وهو مختزن المال من صندوق أو خزانة ، وتقدم في قوله تعالى { لولا أنزل عليه كنز } في سورة [ هود : 12 ] ، وأنه كان يقدر بمقدار من المال مثل ما يقولون : بدرة مال ، وأنه كان يجعل لذلك المقدار خزانة أو صندوق يسعه ولكل صندوق أو خزانة مفتاحه . وعن أبي رزين لقيط بن عامر العُقيلي أحد الصحابة أنه قال « يكفي الكوفة مفتاح » أي مفتاح واحد ، أي كنز واحد من المال له مفتاح ، فتكون كثرة المفاتيح كناية عن كثرة الخزائن وتلك كناية عن وفرة المال فهو كناية بمرتبتين مثل :

جبان الكلب مهزول الفصيل

{ وتنوء ) : تثقل . ويظهر أن الباء في قوله { بالعصبة } باء الملابسة أن تثقل مع العصبة الذين يحملونها فهي لشدة ثقلها تثقل مع أن حملتها عصبة أولو قوة وليست هذه الباء باء السببية كالتي في قول امرىء القيس :

وأردف إعجازاً وناء بكلكل

ولا كمثال صاحب « الكشاف » : ناء به الحمل ، إذا أثقله الحمل حتى أماله .

وأما قول أبي عبيدة بأن تركيب الآية فيه قلب ، فلا يقبله من كان له قلب .

والعُصبة : الجماعة ، وتقدم في سورة يوسف . وأقرب الأقوال في مقدارها قول مجاهد أنه من عشرة إلى خمسة عشر . وكان اكتسب الأموال في مصر وخرج بها .

{ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَيُحِبُّ الفرحين } :

{ إذ } ظرف منصوب بفعل ( بغى عليهم ) والمقصود من هذا الظرف القصة وليس القصد به توقيت البغي ولذلك قدره بعض المفسرين متعلقاً ب ( أذكر ) محذوفاً وهو المعني في نظائره من القصص .

والمراد بالقوم بعضهم إما جماعة منهم وهم أهل الموعظة وإما موسى عليه السلام أطلق عليه اسم القوم لأن أقواله قدوة للقوم فكأنهم قالوا قوله .

والفرح يطلق على السرور كما في قوله تعالى { وفرحوا بها } في [ يونس : 22 ] . ويطلق على البطر والازدهاء ، وهو الفرح المفرط المذموم ، وتقدم في قوله تعالى : { وفرحوا بالحياة الدنيا } في سورة [ الرعد : 26 ] وهو التمحض للفرح . والفرح المنهيّ عنه هو المفرط منه ، أي الذي تمحض للتعلق بمتاع الدنيا ولذات النفس به لأن الانكباب على ذلك يميت من النفس الاهتمام بالأعمال الصالحة والمنافسة لاكتسابها فينحدر به التوغل في الإقبال على اللذات إلى حضيض الإعراض عن الكمال النفساني والاهتمام بالآداب الدينية ، فحذف المتعلق بالفعل لدلالة المقام على أن المعنى لا تفرح بلذات الدنيا معرضاً عن الدين والعمل للآخرة كما أفصح عنه قوله { وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الآخرة } . وأحسب أن الفرح إذا لم يعلق به شيء دل على أنه صار سجية الموصوف فصار مراداً به العجب والبطر . وقد أشير إلى بيان المقصود تعضيداً لدلالة المقام بقوله { إن الله لا يحب الفرحين } ، أي المفرطين في الفرح فإن صيغة ( فعل ) صيغة مبالغة مع الإشارة إلى تعليل النهي ، فالجملة علة للتي قبلها ، والمبالغة في الفرح تقتضي شدة الإقبال على ما يفرح به وهي تستلزم الإعراض عن غيره فصار النهي عن شدة الفرح رمزاً إلى الإعراض عن الجد والواجب في ذلك .