93- وحينما جاءكم بالتوراة ، ورأيتم ما فيها من تكاليف شاقة ، فاستثقلتم أعباءها وارتبتم فيها ، أراكم الله آية على صدق هذا الكتاب وفائدة تعاليمه لكم ، فرفع جبل الطور فوق رءوسكم حتى صار كأنه ظُلَّة وظننتم أنه واقع بكم ، وحينئذٍ أعلنتم القبول والطاعة ، فأخذنا عليكم ميثاقاً ألا يأخذكم هوى في الامتثال لما جاء في هذا الكتاب ، فقلتم : آمنا وسمعنا ، ولكن أعمالكم تكشف عن عصيانكم وتمردكم ، وأن الإيمان لم يخالط قلوبكم ، ولا يمكن أن يكون الإيمان قد خالط قلوب قوم شغفوا حباً بعبادة العجل . فلبئس ما دفعكم إليه إيمانكم إن كنتم مؤمنين .
قوله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا } . أي استجيبوا وأطيعوا سميت الطاعة والإجابة سمعاً على المجاورة لأنه سبب للطاعة والإجابة .
قوله تعالى : { قالوا سمعنا } . قولك .
قوله تعالى : { وعصينا } . أمرك ، وقيل : سمعنا بالأذن وعصينا بالقلوب ، قال أهل المعاني : إنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم ولكن لما سمعوه وتلقوه بالعصيان نسب ذلك إلى القول اتساعاً .
قوله تعالى : { وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } . أي حب العجل ، أي معناه : أدخل في قلوبهم حب العجل وخالطها ، كإشراب اللون لشدة الملازمة . يقال : فلان أشرب اللون إذا اختلط بياضه بالحمرة ، وفي القصص : أن موسى أمر أن يبرد العجل بالمبرد ثم يذره في النهر وأمرهم بالشرب منه فمن بقي في قلبه شيء من حب العجل ظهرت سحالة الذهب على شاربه .
قوله تعالى : { قل بئسما يأمركم به } . أن تعبدوا العجل من دون الله ، أي بئس إيمان يأمر بعبادة العجل .
قوله تعالى : { إن كنتم مؤمنين } . بزعمكم ، وذلك أنهم قالوا : نؤمن بما أنزل علينا فكذبهم الله عز وجل .
يعدد ، تبارك وتعالى ، عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم عنه ، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه ؛ ولهذا قال : { قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } وقد تقدم تفسير ذلك . { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [ بِكُفْرِهِمْ ]{[2179]} } قال : أشربوا [ في قلوبهم ]{[2180]} حبه ، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم . وكذا قال أبو العالية ، والربيع بن أنس .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عصام بن خالد ، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني ، عن خالد بن محمد الثقفي ، عن بلال بن أبي الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حُبُّك الشيء يُعْمِي ويُصم "
ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح عن بَقِيَّة ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به{[2181]} وقال السدي : أخذ موسى ، عليه السلام ، العجل فذبحه ثم حرقه بالمبرد ، ثم ذراه في البحر ، فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه ، ثم قال لهم موسى : اشربوا منه . فشربوا ، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب . فذلك حين يقول الله تعالى : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل{[2182]} عن أبي إسحاق ، عن عمارة بن عبد{[2183]} وأبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب ، قال : عمد موسى إلى العجل ، فوضع عليه المبارد ، فبرده بها ، وهو على شاطئ نهر ، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب{[2184]} .
وقال سعيد بن جبير : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } قال : لما أحرق العجل بُرِدَ ثم نسف ، فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران .
وحكى القرطبي عن كتاب القشيري : أنه ما شرب منه أحد ممن عبد العجل إلا جنَّ [ ثم قال القرطبي ]{[2185]} وهذا شيء غير ما هاهنا ؛ لأن المقصود من هذا السياق ، أنه ظهر النقير على شفاههم ووجوههم ، والمذكور هاهنا : أنهم أشربوا في قلوبهم حب العجل ، يعني : في حال عبادتهم له ، ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة :
تغلغل حب عثمة في فؤادي *** فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب*** ولا حزن ولم يبلغ سرور
أكاد إذا ذكرت العهد منها *** أطير لو أن إنسانا يطير
وقوله : { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه ، من كفركم بآيات الله ومخالفتكم الأنبياء ، ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم - وهذا أكبر ذنوبكم ، وأشد الأمور عليكم - إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين ، فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة ، من نقضكم المواثيق ، وكفركم بآيات الله ، وعبادتكم العجل ؟ !
{ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا } أي قلنا لهم : خذوا ما أمرتم به في التوراة بجد واسمعوا سماع طاعة .
{ قالوا سمعنا } قولك { وعصينا } أمرك { وأشربوا في قلوبهم العجل } تداخلهم حبه ورسخ في قلوبهم صورته ، لفرط شغفهم به ، كما يتداخل الصبغ الثوب ، والشراب أعماق البدن . وفي قلوبهم : بيان لمكان الإشراب كقوله تعالى : { إنما يأكلون في بطونهم نارا } { بكفرهم } بسبب كفرهم وذلك لأنهم كانوا مجسمة ، أو حلولية ولم يروا جسما أعجب منه ، فتمكن في قلوبهم ما سول لهم السامري { قل بئسما يأمركم به إيمانكم } أي بالتوراة ، والمخصوص بالذم محذوف نحو هذا الأمر ، أو ما يعمه وغيره من قبائحهم المعدودة في الآيات الثلاث إلزاما عليهم { إن كنتم مؤمنين } تقرير للقدح . في دعواهم الإيمان بالتوراة ، وتقديره إن كنتم مؤمنين بها لم يأمركم بهذه القبائح ولا يرخص لكم فيها إيمانكم بها ، أو إن كنتم مؤمنين بها فبئسما يأمركم به إيمانكم بها ، لأن المؤمن ينبغي أن لا يتعاطى إلا ما يقتضيه إيمانه ، لكن الإيمان بها لا يأمر به ، فإذا لستم بمؤمنين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.