150- والتزم أمر الله في القبلة واحرص عليه أنت وأمتك ، فاجعل وجهك في ناحية المسجد الحرام من كل مكان خرجت إليه في أسفارك ، واستقبلوه حيثما كنتم من أقطار الأرض مسافرين أو مقيمين ، لينقطع ما يحاجّكم به المخالفون ويجادلونكم به ، وإذا لم تمتثلوا لأمر هذا التحويل فسيقول اليهود : كيف يصلي محمد إلى بيت المقدس والنبي المنعوت في كتبنا من أوصافه التحول إلى الكعبة ؟ وسيقول المشركون العرب كيف يدعى ملة إبراهيم ويخالف قبلته ؟ على أن الظالمين الزائغين عن الحق من الجانبين لن ينقطع جدالهم وضلالهم ، بل سيقولون : ما تحوَّل إلى الكعبة إلا مَيْلا إلى دين قومه وحباً لبلده ، فلا تبالوا بهم فإن مطاعنهم لا تضركم ، وَاخْشَوْنِ فلا تخالفوا أمري ، وقد أردنا بهذا الأمر أن نتم النعمة عليكم وأن تكون هذه القبلة التي وجهناكم إليها أدعى إلى ثباتكم على الهداية والتوفيق .
قوله تعالى : { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } . وإنما كرر لتأكيد النسخ .
قوله تعالى : { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا } . اختلفوا في تأويل هذه الآية ، ووجه قوله " إلا " فقال بعضهم : معناه حولت القبلة إلى الكعبة لئلا يكون للناس عليكم حجة إذا توجهتم إلى غيرها فيقولون : ليست لكم قبلة ( إلا الذين ظلموا ) وهم قريش واليهود . فأما قريش فتقول رجع محمد إلى الكعبة ، لأنه علم أنها الحق وأنها قبلة آبائه ، فكذلك يرجع إلى ديننا ، وأما اليهود فتقول لم ينصرف عن بيت المقدس مع علمه بأنه حق إلا أنه يعمل برأيه . وقال قوم : ( لئلا يكون للناس عليكم حجة ) يعني اليهود ، وكانت حجتهم على طريق المخاصمة على المؤمنين في صلاتهم إلى بيت المقدس أنهم كانوا يقولون ما درى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم نحن . وقوله ( إلا الذين ظلموا ) وهم مشركو مكة ، وحجتهم : أنهم قالوا لما صرفت قبلتهم إلى الكعبة : إن محمداً قد تحير في دينه وسيعود إلى ملتنا كما عاد إلى قبلتنا ، وهذا معنى قول مجاهد وعطاء وقتادة ، وعلى هذين التأويلين يكون الاستثناء صحيحاً .
وقوله ( إلا الذين ظلموا ) يعني لا حجة لأحد عليكم إلا مشركو قريش فإنهم يحاجونكم فيجادلونكم ويخاصمونكم بالباطل والظلم والاحتجاج بالباطل يسمى حج كما قال الله تعالى ( حجتهم داحضة عند ربهم ) وموضع " الذين " خفض كأنه قال سوى الذين ظلموا قاله الكسائي ، وقال الفراء نصب بالاستثناء .
قوله تعالى : { منهم } . يعني من الناس ، وقيل هذا استثناء منقطع عن الكلام الأول ، معناه ولكن الذين ظلموا يجادلونكم بالباطل ، كما قال الله تعالى ( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) يعني لكن يتبعون الظن فهو كقول الرجل مالك عندي حق إلا أن تظلمني .
قال أبو ورق { لئلا يكون للناس } يعني اليهود { عليكم حجة } وذلك أنهم عرفوا أن الكعبة قبلة إبراهيم ووجدوا في التوراة أن محمداً سيحول إليها فحول الله تعالى إليها لئلا يكون لهم حجة فيقولوا : إن النبي الذي نجده في كتابنا سيحول إليها ولم تحول أنت ، فلما حول إليها ذهبت حجتهم ( إلا الذين ظلموا ) يعني إلا أن يظلموا فيكتموا ما عرفوا من الحق . وقال أبو عبيدة قوله ( إلا الذين ظلموا ) ليس باستثناء ولكن " إلا " في موضع واو العطف يعني : والذين ظلموا أيضاً لا يكون لهم حجة ، كما قال الشاعر :
وكل أخ مفارقه أخوه *** لعمر أبيك إلا الفرقدان
معناه والفرقدان ، أيضاً يتفرقان ، فمعنى الآية فتوجهوا إلى الكعبة لئلا يكون للناس ، يعني اليهود عليكم حجة فيقولوا لم تركتم الكعبة وهي قبلة إبراهيم وأنتم على دينه ولا الذين ظلموا وهم مشركو مكة فيقولون لم ترك محمد قبلة جده وتحول عنها إلى قبلة اليهود .
قوله تعالى : { فلا تخشوهم } . في انصرافكم إلى الكعبة وفي تظاهرهم عليكم بالمجادلة فإني وليكم أظهركم عليهم بالحجة والنصرة .
قوله تعالى : { واخشوني ولأتم نعمتي عليكم } . عطف على قوله : ( لئلا يكون للناس عليكم حجة ) ولكي أتم نعمتي عليكم ، بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم فتتم لكم الملة الحنيفية ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه تمام النعمة الموت على الإسلام .
قال : سعيد بن جبير لا يتم نعمة على المسلم إلا أن يدخل الجنة .
قوله تعالى : { ولعلكم تهتدون } . لكي تهتدوا من الضلالة . ولعل وعسى من الله واجب .
ثم خاطب الأمة عموما فقال : { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } وقال : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } أكده ب " إن " واللام ، لئلا يقع لأحد فيه أدنى شبهة ، ولئلا يظن أنه على سبيل التشهي لا الامتثال .
{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل هو مطلع عليكم في جميع أحوالكم ، فتأدبوا معه ، وراقبوه بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، فإن أعمالكم غير مغفول عنها ، بل مجازون عليها أتم الجزاء ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
وقال هنا : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي : شرعنا لكم استقبال الكعبة المشرفة ، لينقطع عنكم احتجاج الناس من أهل الكتاب والمشركين ، فإنه لو بقي مستقبلا بيت المقدس ، لتوجهت عليه الحجة ، فإن أهل الكتاب ، يجدون في كتابهم أن قبلته المستقرة ، هي الكعبة البيت الحرام ، والمشركون يرون أن من مفاخرهم ، هذا البيت العظيم ، وأنه من ملة إبراهيم ، وأنه إذا لم يستقبله محمد صلى الله عليه وسلم ، توجهت نحوه حججهم ، وقالوا : كيف يدعي أنه على ملة إبراهيم ، وهو من ذريته ، وقد ترك استقبال قبلته ؟
فباستقبال الكعبة{[107]} قامت الحجة على أهل الكتاب والمشركين ، وانقطعت حججهم عليه .
{ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } أي : من احتج منهم بحجة ، هو ظالم فيها ، وليس لها مستند إلا اتباع الهوى والظلم ، فهذا لا سبيل إلى إقناعه والاحتجاج عليه ، وكذلك لا معنى لجعل الشبهة التي يوردونها على سبيل الاحتجاج محلا يؤبه لها ، ولا يلقى لها بال ، فلهذا قال تعالى : { فَلَا تَخْشَوْهُمْ } لأن حجتهم باطلة ، والباطل كاسمه مخذول ، مخذول صاحبه ، وهذا بخلاف صاحب الحق ، فإن للحق صولة وعزا ، يوجب خشية من هو معه ، وأمر تعالى بخشيته ، التي هي أصل{[108]} كل خير ، فمن لم يخش الله ، لم ينكف عن معصيته ، ولم يمتثل أمره .
وكان صرف المسلمين إلى الكعبة ، مما حصلت فيه فتنة كبيرة ، أشاعها أهل الكتاب ، والمنافقون ، والمشركون ، وأكثروا فيها من الكلام والشبه ، فلهذا بسطها الله تعالى ، وبينها أكمل بيان ، وأكدها بأنواع من التأكيدات ، التي تضمنتها هذه الآيات .
منها : الأمر بها ، ثلاث مرات ، مع كفاية المرة الواحدة ، ومنها : أن المعهود ، أن الأمر ، إما أن يكون للرسول ، فتدخل فيه الأمة تبعا ، أو للأمة عموما ، وفي هذه الآية أمر فيها الرسول بالخصوص في قوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ } والأمة عموما في قوله : { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ }
ومنها : أنه رد فيه جميع الاحتجاجات الباطلة ، التي أوردها أهل العناد وأبطلها شبهة شبهة ، كما تقدم توضيحها ، ومنها : أنه قطع الأطماع من اتباع الرسول قبلة أهل الكتاب ، ومنها قوله : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } فمجرد إخبار الصادق العظيم كاف شاف ، ولكن مع هذا قال : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ }
ومنها : أنه أخبر - وهو العالم بالخفيات - أن أهل الكتاب متقرر عندهم ، صحة هذا الأمر ، ولكنهم يكتمون هذه الشهادة مع العلم .
ولما كان توليته لنا إلى استقبال القبلة ، نعمة عظيمة ، وكان لطفه بهذه الأمة ورحمته ، لم يزل يتزايد ، وكلما شرع لهم شريعة ، فهي نعمة عظيمة قال : { وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ }
فأصل النعمة ، الهداية لدينه ، بإرسال رسوله ، وإنزال كتابه ، ثم بعد ذلك ، النعم المتممات لهذا الأصل ، لا تعد كثرة ، ولا تحصر ، منذ بعث الله رسوله إلى أن قرب رحيله من الدنيا ، وقد أعطاه الله من الأحوال والنعم ، وأعطى أمته ، ما أتم به نعمته عليه وعليهم ، وأنزل الله عليه : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }
فلله الحمد على فضله ، الذي لا نبلغ له عدا ، فضلا عن القيام بشكره ، { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : تعلمون الحق ، وتعملون به ، فالله تبارك وتعالى - من رحمته - بالعباد ، قد يسر لهم أسباب الهداية غاية التيسير ، ونبههم على سلوك طرقها ، وبينها لهم أتم تبيين ، حتى إن من جملة ذلك أنه يقيض للحق ، المعاندين له فيجادلون فيه ، فيتضح بذلك الحق ، وتظهر آياته وأعلامه ، ويتضح بطلان الباطل ، وأنه لا حقيقة له ، ولولا قيامه في مقابلة الحق ، لربما لم يتبين حاله لأكثر الخلق ، وبضدها تتبين الأشياء ، فلولا الليل ، ما عرف فضل النهار ، ولولا القبيح ، ما عرف فضل الحسن ، ولولا الظلمة ما عرف منفعة النور ، ولولا الباطل ما اتضح الحق اتضاحا ظاهرا ، فلله الحمد على ذلك .
قوله بعده : { ومن حيث خرجت } عطف على الجملة التي قبله ، وأعيد لفظ الجملة السالِفة ليبنَى عليه التعليل بقوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجةٌ } .
وقوله : { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } عطف على قوله : { ومن حيث خرجت } الآية . والمقصد التعميم في هذا الحكم في السفر للمسلمين لئلا يتوهم تخصيصه بالنبي صلى الله عليه وسلم وحصل من تكرير مُعظم الكلمات تأكيد للحكم ليترتب عليه قوله { لئلا يكون للناس عليكم حجة } .
وقد تكرر الأمر باستقبال النبي الكعبة ثلاث مرات ، وتكرر الأمر باستقبال المسلمين الكعبةَ مرتين . وتكرر أنَّه الحقُّ ثلاث مرات ، وتكرر تعميم الجهات ثلاث مرات ، والقصد من ذلك كله التنويه بشأن استقبال الكعبة والتحذير من تطرق التساهل في ذلك تقريراً للحق في نفوس المسلمين ، وزيادةً في الرد على المنكرين التأكيد ، من زيادة { ومن حيثُ خرجتَ } ، ومن جُمَل معترضة ، لزيادة التنويه بحكم الاستقبال : وهي جملة { وإنّ الذين أوتوا الكتاب ليعلمون الآيات } ، وجملة : { وإنه للحق من ربك } وجملة : { لئلا يكون للناس عليكم حجة } الآيات ، وفيه إظهار أحَقية الكعبة بذلك لأن الذي يكون على الحق لا يزيده إنكار المنكرين إلاّ تصميماً ، والتصميم يستدعي إعادة الكلام الدال على ما صمم عليه لأن الإعادة تدل على التحقُّق في معنى الكلام .
وقد ذكر في خلال ذلك من بيان فوائد هذا التحويل وما حَفَّ به ، ما يدفع قليل السآمة العارضةِ لسماع التكرار ، فذُكر قوله : { وإنه للحق من ربك وما الله بغافل } الخ ، وذُكر قوله : { لئلا يكون للناس } الخ .
والضمير في { وإنه للحَق من ربك } راجع إلى مضمون الجملة وهو حكم التحويل فهو راجع إلى ما يؤخذ من المقام ، فالضمير هنا كالضمير في قوله : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه } [ البقرة : 146 ] .
وقرأ الجمهور { عما تعملُون } بمثناة فوقية على الخطاب ، وقرآه أبو عَمْرو بياء الغيبة .
وقوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجة } علة لقوله : { فولوا } الدالِ على طلب الفعل وامتثاله ، أي شرعت لكم ذلك لندحض حجة الأمم عليكم ، وشأن تعليل صيغ الطلب أن يكون التعليل للطلب باعتبار الإتيان بالفعل المطلوب .
فإن مدلول صيغة الطلب هو إيجاد الفعل أو الترك لا الإعلامُ بكون الطالب طالباً وإلاّ لما وجب الامتثال للآمر فيكتفى بحصول سماع الطلب لكن ذلك ليس مقصوداً .
والتعريف في ( الناس ) للاستغراق يشمل مشركي مكة فإن من شبهتهم أن يقولوا لا نتبع هذا الدين إذ ليس ملة إبراهيم لأنه استقبَل قبلة اليهود والنصارى ، وأهلَ الكتاب ، والحجة أن يقولوا إنَّ محمداً اقتدى بنا واستقبل قبلتنا فكيف يدعونا إلى اتباعه . ولجميع الناس ممن عداكم حجة عليكم ، أي ليكون هذا الدين مخالفاً في الاستقبال لكل دين سبقه فلا يدعي أهل دين من الأديان أن الإسلام مقتبس منه .
ولا شك أن ظهور الاستقبال يكون في أمر مشاهد لكل أحد لأن إدراك المخالفة في الأحكام والمقاصد الشرعية والكمالات النفسانية التي فَضُل بها الإسلام غيرَه لا يدركه كل أحد بل لا يعلمه إلاّ الذين أوتوا العلم ، وعلى هذا يكون قوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجة } ناظراً إلى قوله : { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق } [ البقرة : 144 ] ، وقوله : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه } [ البقرة : 146 ] .
وقد قيل في معنى حجة الناس معانِ أُخَرُ أَرَاها بعيدة .
والحجة في كلام العرب ما يقصد به إثبات المخالف ، بحيث لا يجد منه تفصياً ، ولذلك يقال للذي غلَب مخالفه بحجته قد حَجَّه ، وأما الاحتجاج فهو إتيان المحتج بما يظنه حجة ولو مغالطة يقال احتج ويقال حَاجَّ إذا أتى بما يظنه حجة قال تعالى : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } [ البقرة : 258 ] ، فالحجة لا تطلق حقيقة إلاّ على البرهان والدليل الناهض المبكت للمخالف ، وأما إطلاقها على الشبهة فمجاز لأنها تُورَد في صورة الحجة ومنه قوله تعالى : { حجتهم داحضة عند ربهم } [ الشورى : 16 ] ، وهذا هو فقه اللغة كما أشار إليه « الكشاف » ، وأما ما خالفه من كلام بعض أهل اللغة فهو من تخليط الإطلاق الحقيقي والمجازي ، وإنما أرادوا التفصي من ورود الاستثناء وأشكل عليهم الاستثناء لأن المستثنى محكوم عليه بنقيض حكم المستثنى منه عند قاطبة أهل اللسان والعلماء ، إلاّ خلافاً لا يلتفت إليه في علم الأصول ، فصار هذا الاستثناء مقتضياً أن { الذين ظلموا } لهم عليكم حجة ، فأجاب صاحب « الكشاف » بأنه إنما أطلق عليه حجة لمشابهته للحجة في سياقهم إياه مَساق البرهان أي فاستثناء { الذين ظلموا } يقتضي أنهم يأتون بحجة أي بما يشبه الحجة ، فحرف { إلاَّ } يقتضي تقدير لفظ حجة مستعملاً في معناه المجازي ، وإطلاق اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي ليس ببدع لاسيما مع الإتيان بلفظ يخالف الأول على أنه قد يجعل الاستثناء منقطعاً بمعنى لكن الذين ظلموا يشغبون عليكم فلا تخشوهم .
وجملة { ولأتم نعمتي } تعليل ثان لقوله : { فولوا وجوهكم شطره } معطوف على قوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجة } بذلك الاعتبار الذي بيناه آنفاً وهو أنه تعليل الامتثال فالمعنى أمرتكم بذلك لأتم نعمتي عليكم باستيفاء أسباب ذلك الإتمام ومنها أن تكون قبلتكم إلى أفضل بيت بني لله تعالى ، ومعلوم أن تمام النعمة بامتثال ما أمرنا به وجماع ذلك الاستقامة وبها دخول الجنة .
وقد روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم " إتمام النعمة دخول الجنة " ، أي غاية إتمام النعمة علينا دخول الجنة ولم يكن ذلك في تفسير هذه الآية ولكنه من جملة معناها{[166]} فالمراد بالإتمام هنا إعطاء الشيء وافراً من أول الأمر لا إتمامه بعد أن كان ناقصاً ، فهو قريب من قوله تعالى : { فأتمهن } [ البقرة : 124 ] أي امتثلهن امتثالاً تاماً وليس المراد أنه فعل بعضها ثم فعل بعضاً آخر ، فمعنى الآية ولتكون نعمتي نعمة وافرة في كل حال .
وقوله : { ولعلكم تهتدون } عطف على { ولأتم } أي أمرتكم بذلك رجاء امتثالكم فيحصل الاهتداء منكم إلى الحق . وحرف لعل في قوله : { ولعلكم تهتدون } مجاز في لازم معنى الرجاء وهو قرب ذلك وتوقعه . ومعنى جعل ذلك القرب علة أن استقبالهم الكعبة مؤذن بأنهم يكونون معتدين في سائر أمورهم لأن المبادىء تدل على الغايات فهو كقوله : { وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً } [ البقرة : 143 ] كما قدمناه وقال حبيب :
إِنَّ الهلالَ إذا رأيت نماءه *** أيقنتَ أن سيصيرُ بدراً كاملاً
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام}: يعني الحرم كله، فإنه مسجد كله.
{فولوا وجوهكم شطره}: يعني فحولوا وجوهكم تلقاءه.
{لئلا يكون للناس عليكم حجة}: يعني اليهود في أن الكعبة هي القبلة ولا حجة لهم عليكم في انصرافكم إليها، ثم استثنى، فقال:
{إلا الذين ظلموا منهم}، يعني من الناس، يعني مشركي العرب، وذلك أن مشركي مكة قالوا: إن الكعبة هي القبلة، فما بال محمد تركها وكانت لهم في ذلك حجة، يقول الله عز وجل:
{فلا تخشوهم}: أن يكون لهم عليكم حجة في شيء غيرها.
{واخشوني}: في ترك أمري في أمر القبلة، ثم قال عز وجل:
{ولأتم نعمتي عليكم}: في انصرافكم إلى الكعبة وهي القبلة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَام": من أيّ مكان وبقعة شخصت فخرجت يا محمد، فولّ وجهك تلقاء المسجد الحرام وهو شطره.
"وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ": وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرض الله فولوا وجوهكم في صلاتكم تجاهه وقبله وقصده.
"لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي".
فقال جماعة من أهل التأويل: عنى الله تعالى بالناس في قوله: "لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ": أهل الكتاب... قالوا حين صرف نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة البيت الحرام: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه...
فإن قال قائل: فأية حجة كانت لأهل الكتاب بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ قيل: قد ذكرنا فيما مضى ما رُوي في ذلك، قيل إنهم كانوا يقولون: ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم نحن، وقولهم: يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا فهي الحجة التي كانوا يحتجون بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على وجه الخصومة منهم لهم، والتمويه منهم بها على الجهال وأهل العناد من المشركين. وقد بينا فيما مضى أن معنى حجاج القوم إياه الذي ذكره الله تعالى ذكره في كتابه إنما هي الخصومات والجدال، فقطع الله جل ثناؤه ذلك من حجتهم وحسمه بتحويل قبلة نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من قبلة اليهود إلى قبلة خليله إبراهيم عليه السلام، وذلك هو معنى قول الله جل ثناؤه: "لِئَلاّ يَكُونَ للنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ "يعني بالناس: الذين كانوا يحتجون عليهم بما وصفت.
"إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ": فإنهم مشركو العرب من قريش فيما تأوّله أهل التأويل.
فإن قال قائل: وأية حجة كانت لمشركي قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في توجههم في صلاتهم إلى الكعبة؟ وهل يجوز أن يكون للمشركين على المؤمنين حجة فيما أمرهم الله تعالى ذكره به أو نهاهم عنه؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهمت وذهبت إليه، وإنما الحجة في هذا الموضع الخصومة والجدال. ومعنى الكلام: لئلا يكون لأحد من الناس عليكم خصومة ودعوى باطلة، غير مشركي قريش، فإن لهم عليكم دعوى باطلة وخصومة بغير حقّ بقيلهم لكم: رجع محمد إلى قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا. فذلك من قولهم وأمانيهم الباطلة هي الحجة التي كانت لقريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن أجل ذلك استثنى الله تعالى ذكره الذين ظلموا من قريش من سائر الناس غيرهم، إذ نفى أن يكون لأحد منهم في قبلتهم التي وجههم إليها حجة... وإذ كان ذلك معنى الآية بإجماع الحجة من أهل التأويل، فبيّنٌ خطأ قول من زعم أن معنى قوله: "إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ": ولا الذين ظلموا منهم، وأن «إلا» بمعنى الواو لأن ذلك لو كان معناه لكان النفي الأول عن جميع الناس أن يكون لهم حجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تحوّلهم نحو الكعبة بوجوههم مبينا عن المعنى المراد، ولم يكن في ذكر قوله بعد ذلك: "إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ": إلا التلبيس الذي يتعالى عن أن يضاف إليه، أو يوصف به. هذا مع خروج معنى الكلام إذا وجهت «إلا» إلى معنى الواو، ومعنى العطف من كلام العرب، وذلك أنه غير موجودة (إلا) في شيء من كلامها بمعنى الواو إلا مع استثناء سابق قد تقدمها.
وواضح فساد قول من زعم أن معنى ذلك: إلا الذين ظلموا منهم فإنهم لا حجة لهم فلا تخشوهم، كقول القائل في كلامه: الناس كلهم لك حامدون إلا الظالم المعتدي عليك، فإن ذلك لا يعتدّ بعداوته ولا بتركه الحمد لموضع العداوة. وكذلك الظالم لا حجة له، وقد سمي ظالما لإجماع جميع أهل التأويل على تخطئة ما ادّعى من التأويل في ذلك. وكفى شاهدا على خطأ مقالته إجماعهم على تخطئتها. وظاهر بطلان قول من زعم أن الذين ظلموا هَهنا ناس من العرب كانوا يهودا ونصارى، فكانوا يحتجون على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأما سائر العرب فلم تكن لهم حجة، وكانت حجة من يحتجّ منكسرة لأنك تقول لمن تريد أن تكسر عليه حجته: إن لك عليّ حجة، ولكنها منكسرة، وإنك لتحتجّ بلا حجة، وحجتك ضعيفة. ووجّه معنى: "إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ "إلى معنى: إلا الذين ظلموا منهم من أهل الكتاب، فإن لهم عليكم حجة واهية أو حجة ضعيفة.
ووَهْيُ قول من قال: «إلا» في هذا الموضع بمعنى «لكن»، وضَعْفُ قول من زعم أنه ابتداء بمعنى: إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم، لأن تأويل أهل التأويل جاء في ذلك بأن ذلك من الله عز وجل خبر عن الذين ظلموا منهم أنهم يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما قد ذكرنا، ولم يقصد في ذلك إلى الخبر عن صفة حجتهم بالضعف ولا بالقوّة وإن كانت ضعيفة لأنها باطلة وإنما قصد فيه الإثبات للذين ظلموا ما قد نفى عن الذين قبل حرف الاستثناء من الصفة...
"فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي": يعني فلا تخشوا هؤلاء الذين وصفت لكم أمرهم من الظّلَمة في حجتهم وجدالهم وقولهم ما يقولون من أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد رجع إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا، أو أن يقدروا لكم على ضرّ في دينكم أو صدّكم عما هداكم الله تعالى ذكره له من الحق ولكن اخشوني، فخافوا عقابي في خلافكم أمري إن خالفتموه. وذلك من الله جل ثناؤه تقدّمٌ إلى عباده المؤمنين بالحضّ على لزوم قبلتهم والصلاة إليها، وبالنهي عن التوجه إلى غيرها. يقول جل ثناؤه: واخشوني أيها المؤمنون في ترك طاعتي فيما أمرتكم به من الصلاة شطر المسجد الحرام... لا تخشوا أن أردكم في دينهم.
"وَلأتِمّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ": ومن حيث خرجت من البلاد والأرض إلى أيّ بقعة شخصت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث كنت يا محمد والمؤمنون، فولوا وجوهكم في صلاتكم شطره، واتخذوه قبلة لكم، كيلا يكون لأحد من الناس سوى مشركي قريش حجة، ولأتمّ بذلك من هدايتي لكم إلى قبلة خليلي إبراهيم عليه السلام الذي جعلته إماما للناس نعمتي فأكمل لكم به فضلي عليكم، وأتمم به شرائع ملتكم الحنيفية المسلمة التي وصيت بها نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء غيرهم. وذلك هو نعمته التي أخبر جل ثناؤه أنه متمّها على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من أصحابه.
"وَلَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ": وكي ترشدوا للصواب من القبلة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني}: أي لا تخشوا الذين ظلموا في الضرر لكم، ولكن اخشوني في ترككم إياها، ويقال: لا تخشوهم بالقتال والغلبة؛ فذلك لهم منة أمن من الأعداء.
وعلى هذا يخرج قوله: {ولأتم نعمتي عليكم} يعني الأمن من الأعداء.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
ومعنى الحجة في هذين القولين: الخصومة والجدل، والدعوى بالباطل كقوله {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]: أي لا خصومة، وقوله {أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ} [البقرة: 139] وليحاجوكم وتحاجون وحاججتم كلّها بمعنى المجادلة والمخاصمة لا بمعنى الدليل والبرهان،
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
ثم قال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمُ} ليس يريد أن لهم عليكم حجة. وفيه قولان: أحدهما: أن المعنى، ولكن الذين ظلموا قد يحتجون عليكم بأباطيل الحجج، وقد ينطلق اسم الحجة على ما بطل منها، لإقامتها في التعلق بها مقام الصحيح حتى يظهر فسادها لمن علم، مع خفائها على من جهل، كما قال تعالى {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ}.
والقول الثاني: أن المعنى لِئَلاَّ يكون للناس عليكم حُجَّةٌ بعد الذين ظلموا، فتكون (إلاّ) بمعنى (بعد) كما قيل في قوله تعالى: {وَلاَ تَنكَحُوا مَا نَكَحَ آبَاءُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] أي بعدما قد سلف. وكما قيل في قوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا المَوتَ إِلاَّ المَوتَةَ الأولى} [الدخان: 56] أي بعد الموتة الأولى...
أما قوله تعالى: {فلا تخشوهم واخشوني} فالمعنى لا تخشوا من تقدم ذكره ممن يتعنت ويجادل ويحاج، ولا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم فإنهم لا يضرونكم "واخشوني". يعني احذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم وفرضت عليكم،
وهذه الآية تدل على أن الواجب على المرء في كل أفعاله وتروكه أن ينصب بين عينيه: خشية عقاب الله، وأن يعلم أنه ليس في يد الخلق شيء البتة، وأن لا يكون مشتغل القلب بهم، ولا ملتفت الخاطر إليهم...
فإن قيل: إنه تعالى أنزل عند قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم، فكيف قال قبل ذلك اليوم بسنين كثيرة في هذه الآية: {ولأتم نعمتي عليكم} قلنا: تمام النعمة اللائقة في كل وقت هو الذي خصه به... وعن علي رضي الله عنه: تمام النعمة الموت على الإسلام...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وإتمام النعمة بما هداهم إليه من القبلة، أو بما أعدّه لهم من ثواب الطاعة، أو بما حصل للعرب من الشرف بتحويل القبلة إلى الكعبة، أو بإبطال حجج المحتجين عليهم، أو بإدخالهم الجنة... أو النعمة سنة الإسلام، والقرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم، والستر، والعافية، والغنى عن الناس؛ أو بشرائع الملة الحنيفية، أقوال ثمانية صدرت مصدر المثال، لا مصدر التعيين، وكل فيها نعمة. {ولعلكم تهتدون}: لتكونوا على رجاء إدامة هدايتي إياكم على استقبال الكعبة، أو لكي تهتدوا إلى قبلة أبيكم إبراهيم، والظاهر رجاء الهداية مطلقاً.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
والآية ترشدنا إلى أن صاحب الحق هو الذي يُخشى جانبه وأن المبطل لا ينبغي أن يخشى، فإن الحق يعلو ولا يعلى، وما آفة الحق إلا ترك أهله له، وخوفهم من أهل الباطل فيه. وذكر الأستاذ الإمام هنا من له شبهة حق كصاحب النية السليمة يشبه عليه الأمر فيترك الحق لأنه عمي عليه، ولو ظهر له لأخذ به، وهو أيضا لا يخشى جانبه خلافا لما فهم بعض الطلاب من كلام الأستاذ، وإنما استثناه من مشاركة الظالمين في عدم المبالاة به، فأولئك لا يخشون ولا يبالون بهم، وهذا لا يخشى على الحق ولكنه يبالي به، ويعتني بأمره، بتوضيح السبيل، وتفصيل الدليل، لما يرجى من قرب رجوعه إليه إذا عرفه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وكان صرف المسلمين إلى الكعبة، مما حصلت فيه فتنة كبيرة، أشاعها أهل الكتاب، والمنافقون، والمشركون، وأكثروا فيها من الكلام والشبه، فلهذا بسطها الله تعالى، وبينها أكمل بيان، وأكدها بأنواع من التأكيدات، التي تضمنتها هذه الآيات. منها:
الأمر بها، ثلاث مرات، مع كفاية المرة الواحدة،
ومنها: أن المعهود، أن الأمر، إما أن يكون للرسول، فتدخل فيه الأمة تبعا، أو للأمة عموما، وفي هذه الآية أمر فيها الرسول بالخصوص في قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} والأمة عموما في قوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ}
ومنها: أنه رد فيه جميع الاحتجاجات الباطلة، التي أوردها أهل العناد وأبطلها شبهة شبهة، كما تقدم توضيحها،
ومنها: أنه قطع الأطماع من اتباع الرسول قبلة أهل الكتاب،
ومنها قوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} فمجرد إخبار الصادق العظيم كاف شاف، ولكن مع هذا قال: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}
ومنها: أنه أخبر -وهو العالم بالخفيات- أن أهل الكتاب متقرر عندهم، صحة هذا الأمر، ولكنهم يكتمون هذه الشهادة مع العلم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون)... وهو تذكير موح، وإطماع دافع، وتلويح بفضل عظيم بعد فضل عظيم.. ولقد كانت النعمة التي يذكرهم بها حاضرة بين أيديهم، يدركونها في أنفسهم، ويدركونها في حياتهم، ويدركونها في مجتمعهم وموقفهم في الأرض ومكانهم في الوجود.. كانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية بظلامها ورجسها وجهالتها، ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى نور الإيمان وطهارته ومعرفته. فهم يجدون في أنفسهم أثر النعمة جديدا واضحا عميقا. وكانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية قبائل متناحرة، ذات أهداف صغيرة واهتمامات محدودة. ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى الوحدة تحت راية العقيدة، وإلى القوة والمنعة، وإلى الغايات الرفيعة والاهتمامات الكبيرة التي تتعلق بشأن البشرية كلها لا بشأن ثأر في قبيلة! فهم يجدون أثر النعمة من حولهم كما وجدوه في أنفسهم. وكانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية في مجتمع هابط دنس مشوش التصورات مضطرب القيم.. ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى مجتمع الإسلام النظيف الرفيع، الواضح التصور والاعتقاد، المستقيم القيم والموازين.. فهم يجدون أثر النعمة في حياتهم العامة كما وجدوه في قلوبهم وفي مكانهم من الأمم حولهم...
ونجد في تكرار الأمر بشأن القبلة الجديدة معنى جديدا في كل مرة..
في المرة الأولى كان الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام استجابة لرغبة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد تقلب وجهه في السماء وضراعته الصامتة إلى ربه..
وفي الثانية كان لإثبات أنه الحق من ربه يوافق الرغبة والضراعة..
وفي الثالثة كان لقطع حجة الناس، والتهوين من شأن من لا يقف عند الحق والحجة..
ولكننا -مع هذا- نلمح وراء التكرار أنه كانت هناك حالة واقعة في الصف الإسلامي تستدعي هذا التكرار، وهذا التوكيد، وهذا البيان، وهذا التعليل، مما يشي بضخامة حملة الأضاليل والأباطيل، وأثرها في بعض القلوب والنفوس. هذا الأثر الذي كان يعالجه القرآن الكريم؛ ثم تبقى النصوص بعد ذلك على مدى الزمان تعالج مثل هذه الحالة في شتى صورها؛ في المعركة الدائبة التي لا تهدأ ولا تفتر ولا تلين!...
{ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون}.. تمام النعمة هو الإيمان وتمام النعمة هو تنفيذ مطلوبات الإيمان.. فإذا هدانا الله للإيمان فهذا من تمام نعمه علينا. ولكي يكون الإيمان صحيحا ومقبولا فلابد أن أؤدي مطالبه والمداومة على تنفيذ تكليفات الله لنا، فلا نجعل التكليف ينقطع. لأن التكليف نعمة بغيرها لا تصلح حياتنا ولا تتوالى نعم التكليف من الله سبحانه وتعالى إلا إذا أقبلنا على منهج بعشق.. وأنت حينما تأتي إلى المنهج قد يكون شاقا، ولكن إذا تذكرت ثواب كل طاعة فإنك ستخشع وتعشق التكليف.. لأنك تعرف العمل الصالح بثوابه والعمل في المعصية بعقابه...
{ولعلكم تهتدون}.. الهداية هي الطريق المستقيم الموصل إلى الغاية وهو أقصر الطرق، وغاية هذه الحياة هي أن تصل إلى نعيم الآخرة.. الله أعطاك في الدنيا الأسباب لتحكم حركة حياتك ولكن هذه ليست غاية الحياة.. بل الغاية أن نذهب إلى حياة بلا أسباب وهذه هي عظمة قدرة الله سبحانه وتعالى.. والله جل جلاله يأتي ليعلمنا في الآخرة أنه خلقنا لنعيش في الدنيا بالأسباب وفي الآخرة لنعيش في كنفه بلا أسباب. إذن قوله تعالى: {ولعلكم تهتدون}.. أي لعلكم تنتبهون وتعرفون الغاية المطلوبة منكم.. ولا يظن أحدكم أن الحياة الدنيا هي الغاية أو هي النهاية أو هي الهدف.. فيعمل من أجل الدنيا فيأخذ منها ما يستطيع حلالا أو حراما باعتبارها المتعة الوحيدة المخلوقة له.. نقول لا، إنه في هذه الحالة يكون قد ضل ولم يهتد لأنه لو اهتدى لعرف أن الحياة الحقيقية للإنسان هي في الآخرة. ولعرف أن نعيم الآخرة الذي لا تفوته ولا يفوتك.. يجب أن يكون هدفنا في الحياة الدنيا فنعمل ما نستطيع لنصل إلى النعيم بلا أسباب في الجنة...