176- ولو شئنا رفعه إلى منازل الأبرار لرفعناه إليها ، بتوفيقه للعمل بتلك الآيات ، ولكنه تعلق بالأرض ولم يرتفع إلى سماء الهداية ، واتبع هواه ، فصار حاله في قلقه الدائم ، وانشغاله بالدنيا ، وتفكيره المتواصل في تحصيلها كحال الكلب في أسوأ أحواله عندما يلهث دائما ، إن زجرته أو تركته ، إذ يندلع لسانه من التنفس الشديد ، وكذلك طالب الدنيا يلهث وراء متعه وشهواته دائما . إن ذلك الوصف الذي اتصف به المنسلخ من آياتنا ، هو وصف جميع الذين كذبوا بآياتنا المنزلة . فاقصص عليهم قصصه ليتفكروا فيؤمنوا{[70]} .
قوله تعالى : { ولو شئنا لرفعناه بها } ، أي : رفعنا درجته ومنزلته بتلك الآيات ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لرفعناه بعلمه بها . وقال مجاهد وعطاء : لرفعنا عنه الكفر ، وعصمناه بالآيات .
قوله تعالى : { ولكنه أخلد إلى الأرض } ، أي : سكن إلى الدنيا ومال إليها . قال الزجاج : خلد وأخلد واحد . وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام ، يقال : أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ، والأرض هاهنا عبارة عن الدنيا ، لأن ما فيها من القفار والرباع كلها أرض ، وسائر متاعها مستخرج من الأرض .
قوله تعالى : { واتبع هواه } ، انقاد لما دعاه إليه الهوى ، قال ابن زيد : كان هواه مع القوم ، قال عطاء : أراد الدنيا ، وأطاع شيطانه ، وهذه أشد آية على العلماء ، وذلك أن الله أخبر أنه آتاه آياته من اسمه الأعظم والدعوات المستجابة ، والعلم ، والحكمة ، فاستوجب بالسكون إلى الدنيا ، واتباع الهوى ، تغيير النعمة عليه والانسلاخ عنها ، ومن الذي يسلم من هاتين الخلتين إلا من عصمه الله ؟
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنا عبد الله بن محمود ، أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنا عبد الله بن المبارك ، عن زكريا بن أبي زائدة ، عن محمد بن عبد الرحمن ابن سعيد بن زرارة ، عن كعب بن مالك الأنصاري ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ) .
قوله تعالى : { فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } ، يقال : لهث الكلب يلهث لهثاً : إذا أدلع لسانه . قال مجاهد : هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به ، والمعنى : أن هذا الكافر إن زجرته لم ينزجر ، وإن تركته لم يهتد ، فالحالتان عنده سواء ، كحالتي الكلب ، إن طرد وحمل عليه بالطرد كان لاهثاً ، وإن ترك وربض كان لاهثاً ، قال القتبي : كل شيء يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب ، فإنه يلهث في حال الكلال وفي حال الراحة ، وفي حال العطش ، فضربه الله مثلاً لمن كذب بآياته فقال : إن وعظته فهو ضال ، كالكلب إن طردته لهث ، وإن تركته على حاله لهث ، نظيره قوله تعالى : { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } [ الأعراف : 193 ] ، ثم عم بهذا التمثيل جميع من يكذب بآيات الله .
قوله تعالى : { ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } ، وقيل : هذا مثل لكفار مكة ، وذلك أنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم ، ويدعوهم إلى طاعة الله ، فلما جاءهم نبي لا يشكون في صدقه كذبوه ، فلم يهتدوا تركوا أو دعوا .
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا بأن نوفقه للعمل بها ، فيرتفع في الدنيا والآخرة ، فيتحصن من أعدائه . وَلَكِنَّهُ فعل ما يقتضي الخذلان ، فَأَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ ، أي : إلى الشهوات السفلية ، والمقاصد الدنيوية . وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وترك طاعة مولاه ، فَمَثَلُهُ في شدة حرصه على الدنيا وانقطاع قلبه إليها ، كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أي : لا يزال لاهثا في كل حال ، وهذا لا يزال حريصا ، حرصا قاطعا قلبه ، لا يسد فاقته شيء من الدنيا .
ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا بعد أن ساقها اللّه إليهم ، فلم ينقادوا لها ، بل كذبوا بها وردوها ، لهوانهم على اللّه ، واتباعهم لأهوائهم ، بغير هدى من اللّه .
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ في ضرب الأمثال ، وفي العبر والآيات ، فإذا تفكروا علموا ، وإذا علموا عملوا .
يقول الله عز وجل : { ولو شئنا لرفعناه } قالت فرقة معناه لأخذناه كما تقول رفع الظالم إذا هلك ، والضمير في : { بها } عائد على المعصية في الانسلاخ وابتدأ وصف حاله بقوله تعالى : { ولكنه أخلد إلى الأرض } فهي عبارة عن إمهاله وإملاء الله له ، وقال ابن أبي نجيح { لرفعناه } معناه لتوفيناه قبل أن يقع في المعصية ورفعناه عنها ، والضمير على هذا عائد على الآيات ، ثم ابتدأ وصف حاله ، وقال ابن عباس وجماعة معه معنى { لرفعناه } أي لشرفنا ذكره ورفعنا منزلته لدينا بهذه الآيات التي آتيناه ، { ولكنه أخلد إلى الأرض } فالكلام متصل ، ذكر فيه السبب الذي من أجله لم يرفع ولم يشرف كما فعل بغيره ، ممن أوتي هدى . و { أخلد } معناه لازم وتقاعس وثبت ، والمخلد الذي يثبت شبابه فلا يغشاه الشيب ومنه الخلد ، ومنه قول زهير : [ الكامل ]
لمن الديار غشيتها بالفدفد*** كالوحي في حجر المسيل المخلد
وقوله : { إلى الأرض } يحتمل أن يرد إلى شهواتنا ولذاتها وما فيها من الملاذ ، قاله السدي وغيره ، ويحتمل أن يريد بها العبارة عن الأسفل والأخس كما يقال فلان في الحضيض ، ويتأيد ذلك من جهة المعنى المعقول وذلك أن الأرض وما ارتكز فيها هي الدنيا وكل ما عليها فان ، من أخلد إليه فقد حرم حظ الآخرة الباقية ، وقوله : { فمثله كمثل الكلب } قال السدي وغيره : إن هذا الرجل عوقب في الدنيا بأنه يلهث كما يلهث الكلب فشبه به صورة وهيئة ، وقال الجمهور إنما شبه به في أنه كان ضالاً قبل أن يؤتى الآيات ثم أوتيها فكان أيضاً ضالاً لم تنفعه ، فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في حال حمل المشقة عليه ، وتركه دون حمل عليه ، وتحرير المعنى فالشيء الذي تتصوره النفوس من حاله هو كالذي تتصور من حال الكلب ، وبهذا التقدير يحسن دخول الكاف على «مثل » ، واللهث تنفس بسرعة وتحرك أعضاء الفم معه وامتداد اللسان ، وأكثر ما يعتري ذلك مع الحر والتعب ، وهو في الفرس : ضبح ، وخلقة الكلب أنه يلهث على كل حال ، وذكر الطبري أن معنى { إن تحمل عليه } أي تطرده وحكاه عن مجاهد وابن عباس .
قال القاضي أبو محمد : وذلك داخل ي جملة المشقة التي ذكرنا ، وقوله : { ذلك مثل القوم } أي هذا المثل يا محمد مثل هؤلاء القوم الذين كانوا ضالين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة ثم جئتهم بذلك فبقوا على ضلالتهم ولم ينتفعوا بذلك ، فمثلهم كمثل الكلب ، وقوله : { فاقصص القصص } أي اسرد ما يعلمون أنه من الغيوب التي لا يعلمها إلا أهل الكتب الماضية ولست منهم { لعلهم يتفكرون } في ذلك فيؤمنون .