76- ذكرت السورة قصة قارون ، وأنه كان من قوم موسى ، فتكبر عليهم غروراً بنفسه وماله ، وقد أعطاه الله كنوزاً زاخرة بالأموال ، بلغت مفاتيحها من الكثرة بحيث يثقل حملها على الجماعة الأقوياء من الرجال ، وحين اغتر بنعمة الله عليه وكفر بما نصحه قومه قائلين له : لا تغتر بمالك ، ولا يفتنك الفرح به عن شكر الله ، إن الله لا يرضى عن المغرورين المفتونين ، والعبرة في هذه القصة أن الكافرين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قد اغتروا بأموالهم ، فبين القرآن أن أموالهم بجانب مال قارون ليست شيئاً مذكوراً .
قوله تعالى :{ إن قارون كان من قوم موسى } كان ابن عمه ، لأنه قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب عليه السلام ، وموسى بن عمران بن قاهث ، وقال ابن إسحاق : كان قارون عم موسى ، كان أخا عمران ، وهما ابنا يصهر ، ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة من قارون ، ولكنه نافق كما نافق السامري ، { فبغى عليهم } قيل : كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل ، فكان يبغي عليهم ويظلمهم ، وقال قتادة : بغى عليهم بكثرة المال . وقال الضحاك : بغى عليهم بالشرك . وقال شهر بن حوشب : زاد طول ثيابه شبراً ، وروينا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " وقيل : بغى عليهم بالكبر والعلو . { وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه } هي جمع مفتح وهو الذي يفتح به الباب ، هذا قول قتادة ومجاهد وجماعة ، وقيل : مفاتحه ، خزائنه ، كما قال : { وعنده مفاتح الغيب } أي : خزائنه ، { لتنوء بالعصبة أولي القوة } لتثقلهم أي : وتميل بهم إذا حملوها لثقلها ، قال أبو عبيدة : هذا من المقلوب ، تقديره : ما إن العصبة لتنوء بها ، يقال : ناء فلان بكذا إذا نهض به مثقلاً . واختلفوا في عدد العصبة ، قال مجاهد : ما بين العشرة إلى خمسة عشر ، وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهم : ما بين الثلاثة إلى العشرة . وقال قتادة : ما بين العشرة إلى الأربعين . وقيل : أربعون رجلاً . وقيل : سبعون . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان يحمل مفاتحه أربعون رجلاً أقوى ما يكون من الرجال . وقال جرير عن منصور عن خيثمة ، قال : وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلاً ما يزيد منها مفتاح على أصبع لكل مفتاح كنز . ويقال : كان قارون أينما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه ، وكانت من حديد ، فلما ثقلت عليه جعلها من خشب ، فثقلت فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع ، وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلاً . { إذ قال له قومه } قال لقارون قومه من بني إسرائيل : { لا تفرح } لا تبطر ولا تأشر ولا تمرح ، { إن الله لا يحب الفرحين } الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم .
يخبر تعالى عن حالة قارون وما [ فعل ] وفُعِلَ به ونُصِحَ ووُعِظَ ، فقال : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى } أي : من بني إسرائيل ، الذين فُضِّلوا على العالمين ، وفاقوهم في زمانهم ، وامتن اللّه عليهم بما امتن به ، فكانت حالهم مناسبة للاستقامة ، ولكن قارون هذا ، بغى على قومه وطغى ، بما أوتيه من الأموال العظيمة المطغية { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ } أي : كنوز الأموال شيئا كثيرا ، { مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ [ أُولِي الْقُوَّةِ } والعصبة ] ، من العشرة إلى التسعة إلى السبعة ، ونحو ذلك . أي : حتى أن مفاتح خزائن أمواله لتثقل الجماعة القوية عن حملها ، هذه المفاتيح ، فما ظنك بالخزائن ؟ { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ } ناصحين له محذرين له عن الطغيان : { لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } أي : لا تفرح بهذه الدنيا العظيمة ، وتفتخر بها ، وتلهيك عن الآخرة ، فإن اللّه لا يحب الفرحين بها ، المنكبين على محبتها .
{ إن قارون كان من قوم موسى } كان ابن عمه يصهر بن قاهث بن لاوي وكان ممن آمن به { فبغى عليهم } فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره ، أو تكبر عليهم أو ظلمهم . قيل وذلك حين ملكه فرعون على بني إسرائيل ، أو حسدهم لما روي أنه قال لموسى عليه السلام : لك الرسالة ولهارون الحبورة وأنا في غير شيء إلى متى أصبر قال موسى هذا صنع الله . { وآتيناه من الكنوز } من الأموال المدخرة . { ما إن مفاتحه } مفاتيح صناديقه جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به ، وقيل خزائنه وقياس واحدها المفتح . { لتنوء بالعصبة أولي القوة } خبر إن والجملة صلة وهو ثاني مفعولي آتى ، ونائبه الحمل إذا أثقله حتى أماله ، والعصبة والعصابة الجماعة الكثيرة واعصوصبوا اجتمعوا . وقرئ " لينوء " بالياء على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه . { إذ قال له قومه } منصوب ب " تنوء " { لا تفرح } لا تبطر والفرح بالدنيا مذموم مطلقا لأنه نتيجة حبها والرضا بها والذهول عن ذهابها ، فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارقة لا محالة يوجب الترح كما قيل :
أشد الغم عندي في سرور *** تيقن عنه صاحبه انتقالا
ولذلك قال تعالى : { ولا تفرحوا بما آتاكم } ، وعلل النهي ها هنا بكونه مانعا من محبة الله تعالى فقال : { إن الله لا يحب الفرحين } أي بزخارف الدنيا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن قارون كان من قوم موسى} يعنى من بني إسرائيل... {فبغى عليهم} يقول: بغى قارون على بني إسرائيل من أجل كنزه ماله {وآتيناه} يعني: وأعطيناه {من الكنوز} يعني: من الأموال {ما إن مفاتحه} يعني: خزائنه {لتنوء بالعصبة أولي القوة} والعصبة من عشرة نفر إلى أربعين، فإذا كانوا أربعين فهم أولو قوة يقول: لتعجز العصبة أولي القوة عن حمل الخزائن.
{إذ قال له قومه} بنو إسرائيل: {لا تفرح} يقول: لا تمرح ولا تبطر ولا تفخر بما أوتيت من الأموال، {إن الله لا يحب الفرحين} يعني: المرحين البطرين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"إنّ قارُونَ"... "كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى "يقول: كان من عشيرة موسى بن عمران النبيّ صلى الله عليه وسلم...
وقوله: "فَبَغَى عَلَيْهِمْ "يقول: فتجاوز حدّه في الكبر والتجبر عليهم... بكثرة ماله...
وقوله: "وآتَيْناهُ مِنَ الكُنُوزِ ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ أُولي القُوّةِ" يقول تعالى ذكره: وآتينا قارون من كنوز الأموال ما إن مفاتحه، وهي جمع مفتح، وهو الذي يفتح به الأبواب.
وقال بعضهم: عنى بالمفاتح في هذا الموضع: الخزائن لتُثْقِل العصبة... عن ابن عباس، في قوله: "لَتَنُوء بالعُصْبَةِ" قال: لتثقل بالعصبة... وأما العُصبة فإنها الجماعة.
واختلف أهل التأويل في مبلغ عددها الذي أريد في هذا الموضع فأما مبلغ عدد العصبة في كلام العرب فقد ذكرناه فيما مضى باختلاف المختلفين فيه، والرواية في ذلك، والشواهد على الصحيح من قولهم في ذلك بما أغني عن إعادته في هذا الموضع، فقال بعضهم: كانت مفاتحه تنوء بعصبة مبلغ عددها أربعون رجلاً... وقال آخرون: ستون... وقال آخرون: كانت تحمل على ما بين ثلاثة إلى عشرة... وقال آخرون: كانت تحمل ما بين عشرة إلى خمسة عشرة...
وقوله: "أُولي القُوّةِ" يعني: أولي الشدّة...
فإن قال قائل: وكيف قيل "وآتَيْناهُ مِنَ الكُنُوزِ ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ" وكيف تنوء المفاتح بالعصبة، وإنما العصبة هي التي تنوء بها؟ قيل: اختلف في ذلك أهل العلم بكلام العرب؛ فقال بعض أهل البصرة: مجاز ذلك: ما إن العصبة ذوي القوّة لتنوء بمفاتح نعمه. قال: ويقال في الكلام: إنها لتنوء بها عجيزتها، وإنما هو: تنوء بعجيزتها كما ينوء البعير بحمله، قال: والعرب قد تفعل مثل هذا...
وقال آخر منهم ما إنّ مَفاتِحَهُ قال: وهذا موضع لا يكاد يبتدأ فيه «إن»، وقد قال: "إن الموت الذي تفرّون منه فإنه ملاقيكم". وقوله: "لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ" إنما العصبة تنوء بها...
وقال آخر منهم في قوله: "لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ": نَوْءُها بالعصبة أن تُثْقلهم وقال: المعنى: إن مفاتحه لتنيءُ العصبة: تميلهن من ثقلها، فإذا أدخلت الباء قلت: تَنُوء بهم، كما قال: "آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرَا" قال والمعنى: آتوني بقطر أفرغ عليه، فإذا حُذفت الباء، زدت على الفعل ألفا في أوّله ومثله: "فأجاءَها المَخاضُ" معناه: فجاء بها المخاض، وقال: قد قال رجل من أهل العربية: ما إن العصبة تَنُوء بمفاتحه، فحوّل الفعل إلى المفاتح...
وهذا القول الآخر في تأويل قوله: "لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ": أولى بالصواب من الأقوال الأُخَر، لمعنيين:
أحدهما: أنه تأويل موافق لظاهر التنزيل.
والثاني: أن الآثار التي ذكرنا عن أهل التأويل بنحو هذا المعنى جاءت، وأن قول من قال: معنى ذلك: ما إن العصبة لتنوء بمفاتحه، إنما هو توجيه منهم إلى أن معناه: ما إن العصبة لتنهض بمفاتحه، وإذا وجه إلى ذلك لم يكن فيه من الدلالة على أنه أريد به الخبر عن كثرة كنوزه، على نحو ما فيه، إذا وجه إلى أن معناه: إن مفاتحه تثقل العصبة وتميلها، لأنه قد تنهض العصبة بالقليل من المفاتح وبالكثير، وإنما قصد جلّ ثناؤه الخبر عن كثرة ذلك، وإذا أريد به الخبر عن كثرته، كان لا شكّ أن الذي قاله من ذكرنا قوله، من أن معناه: لتنوء العصبة بمفاتحه، قول لا معنى له، هذا مع خلافه تأويل السلف في ذلك.
وقوله: "إذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ، إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ" يقول: إذ قال قومه: لا تبغ ولا تَبْطَر فرحا، إن الله لا يحبّ من خلقه الأَشِرِين البَطِرِين... عن مجاهد، في قوله: "لا تَفْرَحْ إنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الفَرِحِينَ" قال: المتبذّخين الأَشِرين البَطِرين، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يخوف أهل مكة، ويوعدهم ببغيهم على الله وعلى رسوله بعذاب ينزل عليهم كما نزل بقارون ببغيه على موسى وقومه إذ لم تنفعه قرابته من موسى ولا صلته به... فعلى ذلك يا أهل مكة لا ينفعكم من عذاب الله ومقته قرابتكم لرسول الله، صلوات الله عليه، وصلته بكم، والله أعلم...
{فبغى عليهم}... بكثرة ماله ودفع عذاب الله ونقمته كقول أهل مكة: {نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} [سبإ: 35]...
وقال بعضهم: بغى عليه لأن النبوة جعلت في موسى والحبورة في هارون، ولم يجعل لقارون شيء، فاعتزل عن موسى، واتبعه ناس كثير... والأشبه أن يكون بغيه الذي ذكر عليه كبغي فرعون وهامان عليه حين قال: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين} {إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب} [غافر: 23 و24] وقال: {وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض} الآية [العنكبوت: 39] فكان منه ما كان من فرعون وهامان من التكذيب والرد لرسالته وتسميته ساحرا كذابا...
. {وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصمة أولي القوة}... وذكر أن العصبة تنوء بها، وذلك لكثرة ما ذكر...
ونحن نفسره، ولا نذكر عدده سوى أنه اسم جماعة، يتعصب بعضهم ببعض، ويعين بعضهم بعضا، يرجعون جميعا إلى أمر واحد...
وقوله تعالى: {لتنوء بالعصبة} اختلف فيه: قال بعضهم: تلك المفاتيح. وقال القتبي: {لتنوء} أي تميل بها العصبة إذا حملتها من ثقلها.. وجائز أن يكون قوله: {لا تفرح} أي لا تفتخر على الناس بما آتاك الله من المال، ولا تتكبر عليهم، ولا تفرح: لا تسكن إليها، ولا تركن إلى ذلك، إن الله لا يحب من ذكر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله:"وآتيناه من الكنوز" أي أعطيناه كنوز الأموال، والكنز: جمع المال بعضه على بعض، وبالعرف عبارة عما يخبأ تحت الأرض، ولا يطلق اسم الكنوز في الشرع إلا على مال لا يخرج زكاته... وقوله: "إذ قال له قومه لا تفرح ان الله لا يحب الفرحين "حكاية عما قال قوم قارون لقارون حين خوفوه بالله ونهوه عن الفرح بما آتاه الله من المال، وأمروه بالشكر عليه. والفرح: المرح الذي يخرج إلى الأنس، وهو البطر... ولذلك قال تعالى: "إن الله لا يحب الفرحين" لأنه إذا أطلقت صفة فرح فهو الخارج بالمرح إلى البطر، فأما قوله: "فرحين بما آتاهم الله من فضله" فحسن جميل بهذا التقييد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فبغى عَلَيْهِمْ} من البغي وهو الظلم... {لاَ تَفْرَحْ} كقوله: {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم} [الحديد: 23]... وذلك أنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن. وأمّا من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيه عن قريب، لم تحدّثه نفسه بالفرح.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
لما قال تعالى:"وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها" [القصص: 60] بين أن قارون أوتيها واغتر بها ولم تعصمه من عذاب الله كما لم تعصم فرعون، ولستم أيها المشركون بأكثر عددا ومالا من قارون وفرعون، فلم ينفع فرعون جنوده وأمواله ولم ينفع قارون قرابته من موسى ولا كنوزه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما دل على عجزهم في تلك الدار، وعلمهم أن المتصرف في جميع الأقدار، إنما هو الواحد القهار، دل على أن ذلك له أيضاً في هذه الدار وقوع العلم به بإهلاك أولي البطر، والمرح والأشر، من غير أن يغنوا عمن أضلوا، أو يغني عنهم من أضلهم من ناطق، وما أضلهم من صامت، تطبيقاً لعموم {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها} على بعض الجزئيات، تخويفاً لمن كذب النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما من نسبه إلى السحر، وإعلاماً بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقاطعون الأشقياء وإن كانوا أقرب الأقرباء، لأنه سبحانه عذب قارون ومن كان معه بعذاب لم يسبقهم فيه أحد، وهم من بني إسرائيل ومن أقرب بني إسرائيل إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فعلم كل من كان اغتر بما أوتيه أن الحق لله في كل ما دعت إليه رسله، ونطقت به كتبه، وضل عنهم ما كانوا يفترون، ولم يغن عنهم شيئاً ما اعتمدوا عليه، فكان معبودهم في الحقيقة مما جمعوه من حطام الدنيا فاعتقدوا أنهم نالوا به السعادة الدائمة والعز الباقي، فكان مثله -كما يأتي في التي بعده- كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً، وكل ذلك بمرأى من موسى عليه الصلاة والسلام حين كذبه ونسبه إلى السحر وتكبر عليه، فلم يسأل الله تعالى فيه لخروجه باستكباره من الوعد بالمنة على الذين استضعفوا في الأرض، وكان ذلك العذاب الذي عذبوا به من جنس ما عذب به فرعون في الصورة من حيث إنه تغييب وإن كان ذلك في مائع، وهذا صلب جامد، ليعلم أنه قادر على ما يريد، ليدوم منه الحذر، فيما سبق منه القضاء والقدر... {فبغى عليهم} أي تجاوز الحد في احتقارهم بما خولناه فيه من هذا الحطام المتلاشي، والعرض الفاني، فقطع ما بينه وبينهم من الوصلة، ووصل ما بينه وبين فرعون وأضرابه، من الفرقة... وكان أصل "بغى "هذه: أراد، لكن لما كان العبد لا ينبغي أن يكون له إرادة، بل الإرادة لسيده كما نبه عليه {ما كان لهم الخيرة}، جعلت إرادته تجاوز الحد، وعديت ب "على" المقتضية للاستعلاء تنبيهاً على خروجها عن أصلها... {إذ قال له قومه}... وساغت نسبة القول للكل وإن كان القائل البعض، بدليل ما يأتي، إما عداً للساكت قائلاً لرضاه به لأنه مما لا يأباه أحد، وإما لأن أهل الخير هم الناس، ومن عداهم عدم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
مضت مطالع السورة بقصة موسى وفرعون، وقد عرضت فيها قوة السلطان والحكم، وكيف باءت بالبوار مع البغي والظلم، والكفران بالله، والبعد عن هداه. والآن تجيء قصة قارون لتعرض سلطان المال والعلم، وكيف ينتهي بالبوار مع البغي والبطر، والاستكبار على الخلق وجحود نعمة الخالق. وتقرر حقيقة القيم، فترخص من قيمة المال والزينة إلى جانب قيمة الإيمان والصلاح؛ مع الاعتدال والتوازن في الاستمتاع بطيبات الحياة دون علو في الأرض ولا فساد. ولا يحدد القرآن زمان القصة ولا مكانها؛ إنما يكتفي بأن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم. فهل وقعت هذه القصة وبنو إسرائيل وموسى في مصر قبل الخروج؟ أم وقعت بعد الخروج في حياة موسى؟ أم وقعت في بني إسرائيل من بعد موسى؟ هناك روايات تقول:إنه كان ابن عم لموسى -عليه السلام- وأن الحادث وقع في زمان موسى. ويزيد بعضها فيذكر أن قارون آذى موسى، ودبر له مكيدة ليلصق به تهمة الفاحشة بامرأة معينة في مقابل رشوة من المال، فبرأ الله موسى وأذن له في قارون، فخسفت به الأرض.. ولسنا في حاجة إلى كل هذه الروايات، ولا إلى تحديد الزمان والمكان. فالقصة كما وردت في القرآن كافية لأداء الغرض منها في سياق السورة، ولتقرير القيم والقواعد التي جاءت لتقريرها. ولو كان تحديد زمانها ومكانها وملابساتها يزيد في دلالتها شيئا ما ترك تحديدها. فلنستعرضها إذن في صورتها القرآنية، بعيدة عن تلك الروايات التي لا طائل وراءها..
ولا يذكر فيم كان البغي، ليدعه مجهلا يشمل شتى الصور. فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشياءهم -كما يصنع طغاة المال في كثير من الأحيان- وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال. حق الفقراء في أموال الأغنياء، كي لا يكون دولة بين الأغنياء وحدهم ومن حولهم محاويج إلى شيء منه، فتفسد القلوب، وتفسد الحياة. وربما بغى عليهم بهذه وبغيرها من الأسباب...
(لا تفرح).. فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال، والاحتفال بالثراء، والتعلق بالكنوز، والابتهاج بالملك والاستحواذ.. لا تفرح فرح البطر الذي ينسي المنعم بالمال؛ وينسي نعمته، وما يجب لها من الحمد والشكران. لا تفرح فرح الذي يستخفه المال، فيشغل به قلبه، ويطير له لبه، ويتطاول به على العباد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وافتتاح الجملة بحرف التوكيد يجوز أن يكون لإفادة تأكيد خبر {إن} وما عطف عليه وتعلق به مما اشتملت عليه القصة وهو سوء عاقبة الذين تغرهم أموالهم وتزدهيهم فلا يكترثون بشكر النعمة ويستخفون بالدين، ويكفرون بشرائع الله... ويجوز أن تكون {إن} لمجرد الاهتمام بالخبر ومناط الاهتمام هو مجموع ما تضمنته القصة من العبر التي منها أنه من قوم موسى فصار عدواً له ولأتباعه، فأمره أغرب من أمر فرعون.وعدل عن أن يقال: كان من بني إسرائيل، لما في إضافة {قوم} إلى {موسى} من الإيماء إلى أن لقارون اتصالاً خاصاً بموسى فهو اتصال القرابة...
وعن أبي رزين لقيط بن عامر العُقيلي أحد الصحابة أنه قال « يكفي الكوفة مفتاح» أي مفتاح واحد، أي كنز واحد من المال له مفتاح، فتكون كثرة المفاتيح كناية عن كثرة الخزائن وتلك كناية عن وفرة المال فهو كناية بمرتبتين..
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
أما ما احتوته آيات القصة من الموعظة والعبرة والحكم الأخلاقية فهو:
ـ إن الله لا يحب الفرحين المغترين بأموالهم.
ـ إن من واجب الذين أنعم الله عليهم بالثراء ألاّ يجحدوا يد الله عليهم ويبطروا وأن يذكروا دائما أن الله قد أهلك من هم أكثر قوة ومالا منهم حينما جحدوا وبطروا.
ـ إن من واجبهم أيضا أن يسلكوا سبيل القصد، وأن يذكروا أنه إذا كان لهم أن يتمتعوا بما تيسّر لهم من أسباب العيش والدعة فإن من واجبهم أن يساعدوا الآخرين ويحسنوا إليهم كما أحسن الله إليهم وأنه ليس لهم أن يستعملوا ما يسّره الله لهم في الفساد والبغي، وأن يذكروا مفاجآت الأحداث وغضب الله وأن يشكروا الله شكرا عمليّا بالاعتراف بفضله وربوبيته والتقرب إليه بصالح الأعمال، وألاّ ينسوا يوم الجزاء الأخروي الذي يحاسب فيه كل امرئ على ما فعل.
ـ إنه ينبغي لمن لم يتيسر لهم الثراء ألاّ تشرد أعينهم إليه ليحصلوا عليه بأي طريق كان ولو بالبغي والفساد، وعليهم أن يتحلوا بالقناعة والصبر ولا ينحرفوا عن الطريق القويم المشروع، وأن يتيقنوا أن ثواب الإيمان والعمل الصالح خير وأبقى وأنه لا يصل إلى هذه الغاية المثلى إلاّ الصابرون.
ـ إن الذين أوتوا العلم قاموا بواجبهم فنبهوا الذين تمنوا أن يكون لهم ما كان لقارون إلى ما هو خير من ذلك وهو ابتغاء ثواب الله بالإيمان والعمل الصالح.
ـ إن الله قد عاقب قارون على بطره وجحوده وبغيه وفساده، وأدرك الذين كانوا يتمنون أن يكون لهم ما كان له أن بسطة الرزق ليست خيرا دائما وأن فيها محكّا لأخلاق الناس وامتحانا لنوازعهم وكثيرا ما تكون عليهم نقمة وشرّا وأن الكافرين لا يفلحون قط.
ـ إن الله قد ضمن للمتقين الذين يتحاشون الفساد والتجبر في الأرض أحسن العواقب في الآخرة. وطبيعي أن هذه الحكم مستمرة المدى والشمول. وفيها من التشجيع على الفضيلة والبرّ وتقبيح الرذيلة والبغي والبطر والجحود وبثّ الطمأنينة والسكينة في نفوس المؤمنين والارتفاع بهم إلى الأفق الأعلى من مكارم الأخلاق وصالح الأعمال ما هو جليل رائع.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
يرى عقلاء القوم المتبصرون، في سلوك قارون المنحرف وعمله الفاسد، ما يثير الاشمئزاز ويستحق الانتقاد، ولا سيما ما هو عليه من المبالغة في الإعجاب بالنفس والاستعلاء على العباد، ويحاولون أن يُسْدوا إليه النصح الخالص والموعظة الحسنة، عسى أن يصلح خطأه ويقوم اعوجاجه، ويندرج في عداد من يصدق عليهم مثل قول الرسول الأعظم:"نعم المال الصالح للرجل الصالح" وذلك ما حكاه كتاب الله عنهم {إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} والظاهر أن المراد بالفرح، ليس الحالة النفسية الهادئة من السرور الطبيعي الذي يحصل للإنسان عند أية حالةٍ من حالات الانسجام مع ما حوله أو مع من حوله، لأن هذا ليس أمراً سيئاً، من خلال القيمة الإنسانية للمشاعر الخاصة، بل المراد به البطر الذي يمثل شدّة الفرح في ما يصل به الشعور إلى مستوى الإفراط في الانفعال والتعلق بمتاع الحياة الدنيا، بحيث يتحوّل إلى هزّةٍ ذاتية في تعبيراتها الكلامية والسلوكية وفي انتفاخ الشخصية بشكل غير طبيعيّ. وهذا المعنى هو ما نستوحيه من قوله تعالى في آية أخرى: {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23] فإن الظاهر إرادة الحالة الانفعالية من السرور الداخلي الذي يتحول إلى أجواء الخيلاء والفخر. وهذا ما يبغضه الله في الإنسان، الذي يريد له أن يكون متوازناً في انفعالاته، متواضعاً في علاقاته، هادئاً في تأثره بالأشياء المحيطة به ممّا يُفرح أو يحزن.