36- وقد جعلنا ذبح الإبل والبقر في الحج من أعلام الدين ومظاهره ، وإنكم تتقربون بها إلى الناس ، ولكم فيها خير كثير في الدنيا بركوبها وشُرْب لبنها ، وفي الآخرة بالأجر والثواب على ذبحها وإطعام الفقراء منها ، فاذكروا اسم الله عليها حال كونها مصطفة مُعَدَّة للذبح خالية من العيب . فإذا تم لكم ذبحها فكلوا بعضها إن أردتم ، وأطعموا الفقير القانع المتعفف عن السؤال ، والذي دفعته حاجته إلى ذل السؤال ، وكما سخَّرنا كل شيء لما نريده منه سخرناها لنفعكم ، وذللناها لإرادتكم لتشكرونا على نعمنا الكثيرة عليكم .
قوله تعالى : { والبدن } جمع بدنة سميت بدنة لعظمها وضخامتها ، يريد : الإبل العظام الصحاح الأجسام ، يقال بدن الرجل بدناً وبدانةً إذا ضخم ، فأما إذا أسن واسترخى يقال بدن تبديناً . قال عطاء و السدي : البدن : الإبل والبقر أما الغنم فلا تسمى بدنة . { جعلناها لكم من شعائر الله } من أعلام دينه ، سميت شعائر لأنها تشعر ، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم أنها هدي ، { لكم فيها خير } النفع في الدنيا والأجر في العقبى ، { فاذكروا اسم الله عليها } أي : عند نحرها ، { صواف } أي : قياماً على ثلاث قوائم قد صفت رجليها وإحدى يديها ، ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد الله بن مسلمة ، أنبأنا يزيد بن زريع ، عن يونس ، عن زياد بن جبير قال : " رأيت بن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنةً ينحرها ، قال : ابعثها قياماً مقيدةً سنة محمد صلى الله عليه وسلم . وقال مجاهد : الصواف إذا عقلت رجلها اليسرى وقامت على ثلاث قوائم . وقرأ ابن مسعود : صوافن وهى أن تعقل منها يد وتنحر على ثلاث ، وهو مثل صواف . وقرأ أبي والحسن ومجاهد : صوافي بالياء أي : صافية خالصة لله لا شريك له فيها . { فإذا وجبت جنوبها } يعني : سقطت بعد النحر فوقعت جنوبها على الأرض . وأصل الوجوب : الوقوع . يقال : وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب ، { فكلوا منها } أمر إباحة ، { وأطعموا القانع والمعتر } اختلفوا في معناها : فقال عكرمة و إبراهيم و قتادة : القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل ، والمعتر : الذي يسأل . وروى العوفي عن ابن عباس : القانع الذي لا يعترض ولا يسأل ، والمعتر الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل ، فعلى هذين التأويلين يكون القانع : من القناعة ، يقال : قنع قناعة إذا رضي بما قسم له . وقال سعيد بن جبير والحسن والكلبي : القانع : الذي يسأل ، والمعتر : الذي يتعرض ولا يسأل ، فيكون القانع من قنع يقنع قنوعاً إذا سأل . وقرأ الحسن : والمعتري وهو مثل المعتر ، يقال : عره واعتره وعراه واعتراه إذا أتاه بطلب معروفه ، إما سؤالاً وإما تعرضاً . وقال ابن زيد : القانع : المسكين ، والمعتر : الذي ليس بمسكين ، ولا يكون له ذبيحة يجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم . { كذلك } يعني : مثل ما وصفنا من نحرها قياماً ، { سخرناها لكم } نعمة منا لتتمكنوا من نحرها ، { لعلكم تشكرون } لكي تشكروا إنعام الله عليكم .
{ 36 - 37 } { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ }
هذا دليل على أن الشعائر عام في جميع أعلام الدين الظاهرة . وتقدم أن الله أخبر أن من عظم شعائره ، فإن ذلك من تقوى القلوب ، وهنا أخبر أن من جملة شعائره ، البدن ، أي : الإبل ، والبقر ، على أحد القولين ، فتعظم وتستسمن ، وتستحسن ، { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } أي : المهدي وغيره ، من الأكل ، والصدقة ، والانتفاع ، والثواب ، والأجر ، { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا } أي : عند ذبحها قولوا " بسم الله " س واذبحوها ، { صَوَافَّ } أي : قائمات ، بأن تقام على قوائمها الأربع ، ثم تعقل يدها اليسرى ، ثم تنحر .
{ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } أي : سقطت في الأرض جنوبها ، حين تسلخ ، ثم يسقط الجزار جنوبها على الأرض ، فحينئذ قد استعدت لأن يؤكل منها ، { فَكُلُوا مِنْهَا } وهذا خطاب للمهدي ، فيجوز له الأكل من هديه ، { وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } أي : الفقير الذي لا يسأل ، تقنعا ، وتعففا ، والفقير الذي يسأل ، فكل منهما له حق فيهما .
{ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ } أي : البدن { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله على تسخيرها ، فإنه لولا تسخيره لها ، لم يكن لكم بها طاقة ، ولكنه ذللها لكم وسخرها ، رحمة بكم وإحسانا إليكم ، فاحمدوه .
ويستطرد السياق في تقرير هذا المعنى وتوكيده وهو يبين شعائر الحج بنحر البدن :
والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير ، فاذكروا اسم الله عليها صواف . فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها واطعموا القانع والمعتر . كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون . . لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ، ولكن يناله التقوى منكم ، كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم ، وبشر المحسنين . .
ويخص البدن بالذكر لأنها أعظم الهدي ، فيقرر أن الله أراد بها الخير لهم ، فجعل فيها خيرا وهي حية تركب وتحلب ، وهي ذبيحة تهدى وتطعم فجزاء ما جعلها الله خيرا لهم أن يذكروا اسم الله عليها ويتوجهوا بها إليه وهي تهيأ للنحر بصف أقدامها : ( فاذكروا اسم الله عليها صواف ) . والإبل تنحر قائمة على ثلاث معقولة الرجل الرابعة - ( فإذا وجبت جنوبها )واطمأنت على الأرض بموتها أكل منها أصحابها استحبابا ، وأطعموا منها الفقير القانع الذي لا يسأل والفقير المعتر الذي يتعرض للسؤال . فلهذا سخرها الله للناس ليشكروه على ما قدر لهم فيها من الخير حية وذبيحة : ( كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ) . .
عطف على جملة { ولكل أمة جعلنا منسكاً } [ الحج : 34 ] أي جعلنا منسكاً للقربان والهدايا ، وجعلنا البدن التي تُهدى ويتقرب بها شعائرَ من شعائر الله .
والمعنى : أنّ الله أمر بقربان البُدْن في الحجّ من عهد إبراهيم عليه السلام وجعلها جزاء عما يترخص فيه من أعمال الحجّ . وأمر بالتطوع بها فوعد عليها بالثواب الجزيل فنالت بذلك الجَعل الإلهي يُمناً وبركة وحرمة ألحقتها بشعائر الله ، وامتن بذلك على الناس بما اقتضته كلمة { لكم } .
والبدن : جمع بَدنَة بالتحريك ، وهي البعير العظيم البَدن . وهو اسم مأخوذ من البَدانة ، وهي عِظم الجثّة والسمن ، وفعله ككرم ونصر ، وليست زنة بدنة وصفاً ولكنها اسم مأخوذ من مادة الوصف ، وجمعه بُدْن . وقياس هذا الجمع أن يكون مضموم الدال مثل خُشُب جمع خشبة ، وثُمرُ جمع ثَمرة ، فتسكين الدال تخفيف شائع ، وغلب اسم البدنة على البعير المعيّن للهدي .
وفي « الموطأ » : " عن أبي هُريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال : اركَبْها ، فقال : إنها بدنة ، فقال : اركَبْها ، فقال : إنها بدنة ، فقال : اركبْها ويلك في الثانية أو الثالثة " فقول الرجل : إنها بدنة ، متعين لإرادة هديه للحجّ .
وتقديم { البُدن } على عامله للاهتمام بها تنويهاً بشأنها .
والاقتصار على البدن الخاصصِ بالإبل لأنها أفضل في الهَدي لكثرة لحمها ، وقد ألحقت بها البقر والغنم بدليل السنّة ، واسم ذلك هَدي .
ومعنى كونها من شعائر الله : أنّ الله جعلها معالم تؤذن بالحج وجعل لها حرمة . وهذا وجه تسميتهم وضع العلامة التي يعلّم بها بعير الهَدْي في جلده إشعاراً .
قال مالك في « الموطأ » : « كان عبد الله بن عمر إذا أهدى هدْياً من المدينة قلّده وأشعره بذي الحليفة ، يقلّده قبل أن يُشعره . . . يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر . . . » بطعن في سنامه فالإشعار إعداد للنحر .
وقد عدها في جملة الحرمات في قوله : { لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي في سورة العقود ( 2 ) .
وتقديم { لكم } على المبتدأ ليتأتى كون المبتدأ نكرة ليفيد تنوينه التعظيم ، وتقديم { فيها } على متعلّقه وهو { خير } للاهتمام بما تجمعه وتحتوي عليه من الفوائد .
والخير : النّفع ، وهو ما يحصل للناس من النفع في الدنيا من انتفاع الفقراء بلحومها وجلودها وجِلالها ونعالها وقَلائدها . وما يحصل للمُهدين وأهلهم من الشبع من لحمها يوم النّحر ، وخير الآخرة من ثواب المُهدين ، وثواب الشكر من المعطَيْن لحومَها لربّهم الذي أغناهم بها .
وفرع على ذلك أن أمَرَ الناس بأن يذكروا اسم الله عليها حين نحرها .
وصوافّ : جمع صافّة . يقال : صف إذا كان مع غيره صفّا بأن اتّصل به . ولعلّهم كانوا يصفُّونها في المنحر يوم النّحر بمِنى ، لأنه كان بمِنى موضع أُعدّ للنحر وهو المنحَر .
وقد ورد في حديث مسلم عن جابر بن عبدالله في حجّة الوداع قال فيه : « ثم انصرف رسول الله إلى المنحرَ فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين بَدنة جعل يطعنها بحَربة في يده ثم أعطى الحربة عليّاً فنحر ما غَبَر ، أي ما بقي وكانت مائة بدنة » وهذا يقتضي أنها كانت مجتمعة متقاربة .
وانتصب { صوافّ } على الحال من الضمير المجرور في قوله { عليها } . وفائدة هذه الحال ذكر محاسن من مَشاهد البُدن فإن إيقاف الناس بدنهم للنحر مجتمعة ومنتظمة غير متفرقة مما يزيد هيئتها جلالاً . وقريب منه قوله تعالى : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص } [ الصف : 4 ] .
ومعنى { وجبت } سقطت ، أي إلى الأرض ، وهو كناية عن زوال الروح التي بها الاستقلال . والقصد من هذا التوقيت المبادرة بالانتفاع بها إسراعاً إلى الخير الحاصل من ذلك في الدنيا بإطعام الفقراء وأكل أصحابها منها فإنه يستحب أن يكون فطور الحاج يوم النحر مِن هديه ، وكذلك الخير الحاصل من ثواب الآخرة .
والأمر في قوله { فكلوا منها } مجمل ، يحتمل الوجوب ويحتمل الإباحة ويحتمل الندب ، وقرينة عدم الوجوب ظاهرة لأنّ المكلف لا يفرض عليه ما الداعي إلى فعله من طبعه . وإنما أراد الله إبطال ما كان عند أهل الجاهلية من تحريم أكل المُهدي من لحوم هديه فبقي النظر في أنه مباح بحت أو هو مندوب .
واختلف الفقهاء في الأكل من لحوم الهدايا الواجبة .
فقال مالك : يباح الأكل من لحوم الهدايا الواجبة ، وهو عنده مستحبّ ولا يؤكل من فدية الأذى وجزاءِ الصيد ونذر المساكين ، والحُجّة لمالك صريح الآية . فإنها عامة إلا ما قام الدّليل على منعه وهي الثلاثة الأشياء المستثناة .
وقال أبو حنيفة : يأكل من هدي التمتّع والقِران ، ولا يأكل من الواجب الذي عيّنه الحاج عند إحرامه .
وقال الشافعي : لا يأكل من لحوم الهدايا بحاللٍ مستنداً إلى القياس ، وهو أن المُهدي أوجب إخراج الهدي من ماله فكيف يأكل منه . كذا قال ابن العربي . وإذا كان هذا قصارى كلام الشافعي فهو استدلال غير وجيه ولفظ القرآن ينافيه لا سيما وقد ثبت أكل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من لحوم الهدايا بأحاديث صحيحة .
وقال أحمد : يؤكل من الهدايا الواجبة إلاّ جزاء الصيد والنذر .
وأما الأمر في قوله : { وأطعموا القانع والمعتر } فقال الشافعي : للوجوب ، وهو الأصح . قال ابن العربي وهو صريح قول مالك . وقلت : المعروف من قول مالك أنه لو اقتصر المُهدي على نحر هديه ولم يتصدق منه ما كان آثماً .
والقانع : المتصف بالقنوع ، وهو التذلل . يقال : قنَع من باب سَأل . قُنوعاً بضم القاف إذا سأل بتذلّل .
وأما القناعة ففعلها من باب تَعِب ويستوي الفعل المضارع مع اختلاف الموجب . ومن أحسن ما جمع من النظائر ما أنشده الخفاجي :
العَبْد حرّ إن قَنِع *** والحـــر عبد إن قنَع
فاقنَع ولا تقنَع فما *** شيء يشين سوى الطمَع
وللزمخشري في « مقاماته » : « يا أبا القاسم اقنَع من القَناعة لا من القنوع ، تستغْن عن كل مِعْطَاءٍ ومنوع » .
وفي « الموطأ » في كتاب الصيد قال مالك : « والقانع هو الفقير » .
والمعتَرّ : اسم فاعل من اعترّ ، إذا تعرّض للعطاء ، أي دون سؤال بل بالتعريض وهو أن يحضر موضع العطاء ، يقال : اعترّ ، إذا تعرّض . وفي « الموطأ » في كتاب الصيد قال مالك : « وسمعت أنّ المعترّ هو الزائر ، أي فتكون من عرا إذا زار » والمراد زيارة التعرض للعطاء .
وهذا التفسير أحسن ويرجحه أنه عطف { المعترّ } على { القانع ، } فدل العطف على المغايرة ، ولو كانا في معنى واحد لما عطف عليه كما لم يعطف في قوله { وأطعموا البائس الفقير } [ الحج : 28 ] .
وجملة { وكذلك سخرناها لكم } استئناف للامتنان بما خلق من المخلوقات لنفع الناس . والأمارة الدالة على إرادته ذلك أنه سخّرها للناس مع ضعف الإنسان وقوّة تلك الأنعام فيأخذ الرجل الواحد العدد منها ويسوقها منقادة ويؤلمونها بالإشعار ثم بالطعن . ولولا أنّ الله أودع في طباعها هذا الانقياد لما كانت أعجزَ من بعض الوحوش التي هي أضعف منها فتنفر من الإنسان ولا تسخّر له .
وقوله { كذلك } هو مثل نظائره ، أي مثلَ ذلك التسخير العجيب الذي ترونه كان تسخيرها لكم .
ومعنى { لعلكم تشكرون } خلقناها مسخرة لكم استجلاباً لأن تشكروا الله بإفراده بالعبادة . وهذا تعريض بالمشركين إذا وضعوا الشكر موضع الشكر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والبدن جعلناها لكم من شعائر الله} يعني: من أمر المناسك، {لكم فيها خير} يقول: لكم في نحرها أجر في الآخرة ومنفعة في الدنيا، وإنما سميت البدن، لأنها تقلد وتشعر وتساق إلى مكة. والهدي: الذي ينحر بمكة ولم يقلد ولم يشعر، والجزور: البعير الذي ليس ببدنة ولا بهدي.
{فاذكروا اسم الله عليها} إذا نحرت {صواف} يعني: معقولة يدها اليسرى قائمة على ثلاثة قوائم مستقبلات القبلة. قال الفراء: صواف، يعني: يصفها، ثم ينحرها، فهذا تعليم من الله، عز وجل، فمن شاء نحرها على جنبها. {فإذا وجبت جنوبها} يعني: فإذا خرت لجنبها على الأرض بعد نحرها،
{فكلوا منها وأطعموا القانع} يعني: الراضي الذي يقنع بما يُعطَى، وهو السائل، {والمعتر} الذي يتعرض للمسألة، ولا يتكلم، فهذا تعليم من الله، عز وجل، فمن شاء أكل، ومن لم يشأ لم يأكل، ومن شاء أطعم.
ثم قال سبحانه: {كذلك سخرناها} يعني: هكذا ذللناها {لكم} يعني: البدن {لعلكم تشكرون} ربكم، عز وجل، في نعمه.
655- السيوطي: أخرج ابن أبي حاتم، عن مالك بن أنس قال: حج سعيد بن المسيب وحج معه ابن حرملة، فاشترى سعيد كبشا فضحى به، واشترى ابن حرملة بدنة بستة دنانير فنحرها. فقال له سعيد: أما كان لك فينا أسوة؟ فقال: إني سمعت الله يقول؛ {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير} فأحببت أن آخذ الخير من حيث دلني الله عليه، فأعجب ذلك ابن المسيب منه وجعل يحدث بها عنه...
قوله تعالى: {فكلوا منها} [الحج: 36].
- ابن كثير: قال مالك: أمر استحباب...
663- يحيى: قال مالك: سمعت أن المعتر هو الزائر.
{وَأَطْعِمُوا اَلْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} القانع: هو السائل، والمعتر: الزائر والمار بلا وقت. فإذا أطعم من هؤلاء واحدا أو أكثر فهو من المطعمين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"والبُدْنَ" وهي جمع بَدَنة، وقد يقال لواحدها: بَدَن...
والبَدَن: هو الضخم من كلّ شيء... فمعنى الكلام: والإبل العظام الأجسام الضخام، جعلناها لكم أيها الناس "من شعائر الله"،يقول: من أعلام أمر الله الذي أمركم به في مناسك حجكم إذا قلدتموها وجللتموها وأشعرتموها، علم بذلك وشعر أنكم فعلتم ذلك من الإبل والبقر...
وقوله: "لَكُمْ فِيها خَيْرٌ "يقول: لكم في البدن خير، وذلك الخير هو الأجر في الآخرة بنحرها والصدقة بها، وفي الدنيا: الركوب إذا احتاج إلى ركوبها...
عن إبراهيم: "لَكُمْ فِيها خَيْرٌ" قال: اللبن والركوب إذا احتاج...
وقوله: "فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ" يقول تعالى ذكره: فاذكروا اسم الله على البدن عند نحركم إياها صوافّ.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قرّاء الأمصار: "فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ" بمعنى مصطفة، واحدها: صافة، وقد صفت بين أيديها. ورُوي عن الحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وجماعة أُخر معهم، أنهم قرءوا ذلك: «صَوَافِيَ» بالياء منصوبة، بمعنى: خالصة لله لا شريك له فيها صافية له. وقرأ بعضهم ذلك: «صَوَافٍ» بإسقاط الياء وتنوين الحرف، على مثال: عوارٍ وعوادٍ. ورُوي عن ابن مسعود أنه قرأه: «صَوَافِنٌ» بمعنى: مُعقلة.
والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأه بتشديد الفاء ونصبها، لإجماع الحجة من القرّاء عليه بالمعنى الذي ذكرناه لمن قرأه كذلك...
عن ابن عباس، في قوله: "فاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ" قال: الله أكبر الله أكبر، اللهمّ منك ولك. صوافّ: قياما على ثلاث أرجل. فقيل لابن عباس: ما نصنع بجلودها؟ قال: تصدّقوا بها، واستمتعوا بها...
عن مجاهد، قال: الصّوافّ: إذا عقلت رجلها وقامت على ثلاث...
وقوله: "فإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُها" يقول: فإذا سقطت فوقعت جنوبها إلى الأرض بعد النحر، "فَكُلُوا مِنْها" وهو من قولهم: قد وجبت الشمس: إذا غابت فسقطت للتغيب... قال ابن زيد، في قوله: "فإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُها" قال: فإذا ماتت.
وقوله: "فَكُلُوا مِنْها" وهذا مخرجه مخرج الأمر، ومعناه الإباحة والإطلاق يقول الله: فإذا نحرت فسقطت ميتة بعد النحر فقد حلّ لكم أكلها، وليس بأمر إيجاب... عن إبراهيم، قال: المشركون كانوا لا يأكلون من ذبائحهم، فرخص للمسلمين، فأكلوا منها، فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل...
وقوله: "وأطْعِمُوا القانِعَ والمُعْتَرّ" يقول: فأطعموا منها القانع.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بالقانع والمعترّ؛
فقال بعضهم: القانع: الذي يقنع بما أعطي أو بما عنده ولا يسأل،
والمعترّ: الذي يتعرّض لك أن تطعمه من اللحم ولا يسأل... عن ابن عباس، في قوله: "وأطْعِمُوا القانِعَ والمُعْتَرّ" قال: القانع: المستغني بما أعطيته وهو في بيته، والمعترّ: الذي يتعرّض لك ويلمّ بك أن تطعمه من اللحم ولا يسأل، وهؤلاء الذين أمر أن يطعموا من البُدن...
وقال آخرون: القانع: الذي يقنع بما عنده ولا يسأل، والمعترّ: الذي يعتريك فيسألك... عن قَتادة، قال: القانع: المتعفف الجالس في بيته، والمعترّ: الذي يعتريك فيسألك...
وقال آخرون: القانع: هو السائل، والمعترّ: هو الذي يعتريك ولا يسأل...
وقال آخرون: القانع: الجار، والمعترّ: الذي يعتريك من الناس...
وقال آخرون: القانع: الطوّاف، والمعترّ: الصديق الزائر... قال زيد بن أسلم، في قول الله تعالى: "القانِعَ والمُعْتَرّ"، فالقانع: المسكين الذي يطوف، والمعترّ: الصديق والضعيف الذي يزور.
وقال آخرون: القانع: الطامع، والمعترّ: الذي يعترّ بالبدن...
وقال آخرون: القانع: هو المسكين، والمعترّ: الذي يتعرّض للحم... وقال آخرون...: عن سعيد بن جُبير، قال: القانع: الذي يقنع، والمعترّ: الذي يعتريك...
وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: عني بالقانع: السائل، لأنه لو كان المعنيّ بالقانع في هذا الموضع المكتفي بما عنده والمستغني به، لقيل: وأطعموا القانع والسائل، ولم يقل: وأطعموا القانع والمعترّ، وفي إتباع ذلك قوله: "والمعترّ" الدليل الواضح على أن القانع معنيّ به السائل، من قولهم: قنع فلان إلى فلان، بمعنى سأله وخضع إليه... وأما القانع الذي هو بمعنى المكتفي، فإنه من قَنِعْت بكسر النون أقنع قناعة وقنعا وقنعانا. وأما المعترّ: فإنه الذي يأتيك معترّا بك لتعطيه وتطعمه.
وقوله: "كَذلكَ سَخّرْناها لَكُمْ" يقول: هكذا سخرنا البدن لكم أيها الناس، "لَعَلّكُمْ تَشكُرونَ" يقول: لتشكروني على تسخيرها لكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{من شعائر الله} أي من معالم دين الله وعبادته ونسكه، لأن الشعائر، هي المعالم في اللغة خصت بها المناسك دون غيرها من العبادات، فجعلها معالم لها...
{فاذكروا اسم الله عليها صواف} دل هذا أن يذكر اسم الله من شرط الذبيحة...
{صواف}، فيه لغات ثلاث: إحداها: صوافي بالياء، وهو من الإخلاص لله والصفو لله. والثانية: صوافن بالنون، وهو من عقل ثلاث قوائم منها وترك واحدة مطلقة. والثالثة: صوافا بالتنوين أي قياما مصطفة. وكان جميع ما ذُكر يراد أن يجمع فيها من الإخلاص له وعقل القوائم والقيام. وكذلك جاءت السنة والآثار...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أقسام الخير فيها كثيرة بالركوب والحَمْل عليها وشرب ألبانها وأكل لحومها والانتفاع بوبرها ثم الاعتبار بخِلْقَتِها كيف سُخِّرت للناس على قوتها وصورتها، ثم كيف تنقاد للصبيان في البروكِ عند الحَمْل عليها وركوبها والنزول منها ووضع الحمل عنها وصبرها على العطش في الأسفار، وعلى قليل العَلَف، ثم ما في طبْعهِا من لُطفِ الطبع، وحيث تستريح بالحُدَاء مع كثافة صورتها إلى غير ذلك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} كقوله: {لَكُمْ فِيهَا منافع} ومن شأن الحاج أن يحرص على شيء فيه خير ومنافع بشهادة الله [تعالى].
أما قوله: {كذلك سخرناها لكم} فالمعنى أنها أجسم وأعظم وأقوى من السباع وغيرها مما يمتنع علينا التمكن منه، فالله تعالى جعل الإبل والبقر بالصفة التي يمكننا تصريفها على ما نريد، وذلك نعمة عظيمة من الله تعالى في الدين والدنيا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قدم سبحانه الحث على التقرب بالأنعام كلها، وكانت الإبل أعظمها خلقاً، وأجلها في أنفسهم أمراً، خصها بالذكر في سياق تكون فيه مذكورة مرتين معبراً بالاسم الدال على عظمها، أو أنه خصها لأنه خص العرب بها دون الأمم الماضية ولما كان ربما ظن أنه يحرم الأكل منها للأمر بتقريبها لله تعالى، قال نافياً لذلك: {فكلوا منها} إذا كانت تطوعاً إن شئتم الأكل، فإن ذلك لا يخرجها عن كونها قرباناً..
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أي: سقطت في الأرض جنوبها، حين تسلخ، ثم يسقط الجزار جنوبها على الأرض، فحينئذ قد استعدت لأن يؤكل منها، {فَكُلُوا مِنْهَا} وهذا خطاب للمهدي، فيجوز له الأكل من هديه، {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} أي: الفقير الذي لا يسأل، تقنعا، وتعففا، والفقير الذي يسأل، فكل منهما له حق فيها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويخص البدن بالذكر لأنها أعظم الهدي، فيقرر أن الله أراد بها الخير لهم، فجعل فيها خيرا وهي حية تركب وتحلب، وهي ذبيحة تهدى وتطعم فجزاء ما جعلها الله خيرا لهم أن يذكروا اسم الله عليها ويتوجهوا بها إليه وهي تهيأ للنحر بصف أقدامها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {ولكل أمة جعلنا منسكاً} [الحج: 34] أي جعلنا منسكاً للقربان والهدايا، وجعلنا البدن التي تُهدى ويتقرب بها شعائرَ من شعائر الله.
والمعنى: أنّ الله أمر بقربان البُدْن في الحجّ من عهد إبراهيم عليه السلام وجعلها جزاء عما يترخص فيه من أعمال الحجّ. وأمر بالتطوع بها فوعد عليها بالثواب الجزيل فنالت بذلك الجَعل الإلهي يُمناً وبركة وحرمة ألحقتها بشعائر الله، وامتن بذلك على الناس بما اقتضته كلمة {لكم}.
والبدن: جمع بَدنَة بالتحريك، وهي البعير العظيم البَدن. وهو اسم مأخوذ من البَدانة، وهي عِظم الجثّة والسمن، وفعله ككرم ونصر، وليست زنة بدنة وصفاً ولكنها اسم مأخوذ من مادة الوصف، وجمعه بُدْن. وقياس هذا الجمع أن يكون مضموم الدال مثل خُشُب جمع خشبة، وثُمرُ جمع ثَمرة، فتسكين الدال تخفيف شائع، وغلب اسم البدنة على البعير المعيّن للهدي...
وتقديم {البُدن} على عامله للاهتمام بها تنويهاً بشأنها.
والاقتصار على البدن الخاصصِ بالإبل لأنها أفضل في الهَدي لكثرة لحمها، وقد ألحقت بها البقر والغنم بدليل السنّة، واسم ذلك هَدي.
ومعنى كونها من شعائر الله: أنّ الله جعلها معالم تؤذن بالحج وجعل لها حرمة. وهذا وجه تسميتهم وضع العلامة التي يعلّم بها بعير الهَدْي في جلده إشعاراً.
قال مالك في « الموطأ»: « كان عبد الله بن عمر إذا أهدى هدْياً من المدينة قلّده وأشعره بذي الحليفة، يقلّده قبل أن يُشعره... يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر...» بطعن في سنامه فالإشعار إعداد للنحر.
وقد عدها في جملة الحرمات في قوله: {لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي} في سورة العقود (2).
وتقديم {لكم} على المبتدأ ليتأتى كون المبتدأ نكرة ليفيد تنوينه التعظيم، وتقديم {فيها} على متعلّقه وهو {خير} للاهتمام بما تجمعه وتحتوي عليه من الفوائد.
والخير: النّفع، وهو ما يحصل للناس من النفع في الدنيا من انتفاع الفقراء بلحومها وجلودها وجِلالها ونعالها وقَلائدها. وما يحصل للمُهدين وأهلهم من الشبع من لحمها يوم النّحر، وخير الآخرة من ثواب المُهدين، وثواب الشكر من المعطَيْن لحومَها لربّهم الذي أغناهم بها.
وفرع على ذلك أن أمَرَ الناس بأن يذكروا اسم الله عليها حين نحرها.
وصوافّ: جمع صافّة. يقال: صف إذا كان مع غيره صفّا بأن اتّصل به. ولعلّهم كانوا يصفُّونها في المنحر يوم النّحر بمِنى، لأنه كان بمِنى موضع أُعدّ للنحر وهو المنحَر.
وقد ورد في حديث مسلم عن جابر بن عبدالله في حجّة الوداع قال فيه: « ثم انصرف رسول الله إلى المنحرَ فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين بَدنة جعل يطعنها بحَربة في يده ثم أعطى الحربة عليّاً فنحر ما غَبَر، أي ما بقي وكانت مائة بدنة» وهذا يقتضي أنها كانت مجتمعة متقاربة...
وفائدة هذه الحال ذكر محاسن من مَشاهد البُدن فإن إيقاف الناس بدنهم للنحر مجتمعة ومنتظمة غير متفرقة مما يزيد هيئتها جلالاً. وقريب منه قوله تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص} [الصف: 4].
ومعنى {وجبت} سقطت، أي إلى الأرض، وهو كناية عن زوال الروح التي بها الاستقلال. والقصد من هذا التوقيت المبادرة بالانتفاع بها إسراعاً إلى الخير الحاصل من ذلك في الدنيا بإطعام الفقراء وأكل أصحابها منها فإنه يستحب أن يكون فطور الحاج يوم النحر مِن هديه، وكذلك الخير الحاصل من ثواب الآخرة.
والأمر في قوله {فكلوا منها} مجمل، يحتمل الوجوب ويحتمل الإباحة ويحتمل الندب، وقرينة عدم الوجوب ظاهرة لأنّ المكلف لا يفرض عليه ما الداعي إلى فعله من طبعه. وإنما أراد الله إبطال ما كان عند أهل الجاهلية من تحريم أكل المُهدي من لحوم هديه فبقي النظر في أنه مباح بحت أو هو مندوب...
وأما الأمر في قوله: {وأطعموا القانع والمعتر} فقال الشافعي: للوجوب، وهو الأصح. قال ابن العربي وهو صريح قول مالك. وقلت: المعروف من قول مالك أنه لو اقتصر المُهدي على نحر هديه ولم يتصدق منه ما كان آثماً...
والقانع: المتصف بالقنوع، وهو التذلل. يقال: قنَع من باب سَأل...
والمعتَرّ: اسم فاعل من اعترّ، إذا تعرّض للعطاء، أي دون سؤال بل بالتعريض وهو أن يحضر موضع العطاء، يقال: اعترّ، إذا تعرّض...
وجملة {وكذلك سخرناها لكم} استئناف للامتنان بما خلق من المخلوقات لنفع الناس. والأمارة الدالة على إرادته ذلك أنه سخّرها للناس مع ضعف الإنسان وقوّة تلك الأنعام فيأخذ الرجل الواحد العدد منها ويسوقها منقادة ويؤلمونها بالإشعار ثم بالطعن. ولولا أنّ الله أودع في طباعها هذا الانقياد لما كانت أعجزَ من بعض الوحوش التي هي أضعف منها فتنفر من الإنسان ولا تسخّر له.
وقوله {كذلك} هو مثل نظائره، أي مثلَ ذلك التسخير العجيب الذي ترونه كان تسخيرها لكم.
ومعنى {لعلكم تشكرون} خلقناها مسخرة لكم استجلاباً لأن تشكروا الله بإفراده بالعبادة. وهذا تعريض بالمشركين إذا وضعوا الشكر موضع الشكر.